نوال السعداوي
كان محمود من زملائى الأطباء وأصدقائى القليلين الذين لا أنساهم رغم مرور السنين، فهو يتميز بعقل مرن مفتوح، غير متعصب دينيا أو سياسيا أو اقتصاديا، لا يستميت فى الدفاع عن الاشتراكية أو الرأسمالية أو السوق الحرة، يحب الجدل والنقاش فى كل الأمور الشائكة الحساسة التى تمس المحرمات المتعلقة بالدين أو الجنس أو الصراع الطبقى، ونظام الحكم القائم القابض على الأنفاس، لا يخاف الاتهام بالإلحاد أو الشيوعية، أو الخيانة الوطنية، لم يكن مشغولا بذكورته أو رجولته، ينظر إلى المرأة بعين الإنسان وليس عين الرجل الذكر.

وكانت المشكلة السكانية فى مصر مطروحة للنقاش لأول مرة فى الستينيات من القرن الماضى بتصريح من حكومة عبد الناصر، وتشجعت النخبة المصرية المثقفة أو الأصح المتعلمة فحسب، التى لا تنطق بالحقيقة إلا بتصريح من الحكومة، بدأت هذه النخبة من الصحفيين والأطباء والمتخصصين فى علم السكان، والإخصاب والخصوبة، وأطفال الأنابيب، التنافس على مدح الحكومة على رأسها الزعيم الخالد، بسبب إنشاء مشروع تنظيم الأسرة، للحد من الانفجار السكانى الذى يبتلع الموارد ويلعب دورا فى فشل جميع مشاريع التنمية، والذى كان يعارضه شيخ الأزهر بحجة أن الله يعارض تحديد النسل، فهو الذى يقرر أمور الزواج والطلاق والحمل والولادة والموت، والرسول محمد (ص) قال إن الكثرة العددية قوة غالبة فى الحرب وأنه سوف يباهى بأمة الإسلام بين الأمم.

كتبت قبل ذلك فى مقالاتى وكتبى، ومن خلال عملى بوزارة الصحة كمسؤولة عن برامج الثقافة الصحية عن مشكلة الخلل بين نسبة المواليد ونسبة الوفيات، وضرورة خفض نسبة المواليد للحد من الانفجار السكانى، وربطت بين قضية تحرير المرأة فكريا واقتصاديا وتحرير المجتمع من آفات كثيرة منها آفة الانفجار السكانى، فالمرأة الواعية المثقفة المستقلة اقتصاديا لا تنجب إلا طفلين غالبا، كما أن القيم والتقاليد البالية التى يعيد التعليم الدينى والسياسى إنتاجها فى كل عهد وفرضها على العقول منذ الطفولة، ومنها الخوف من نار الجحيم والطاعة العمياء والإيمان الأعمى بما يقوله شيخ الأزهر، والزواج المبكر للبنات، وإخضاع المرأة للسلطة المطلقة لأبيها وزوجها، ومفاهيم الشرف الذكورى والعذرية وعزل البنات والنساء فى بيت الزوجية وتحريم مساهمتهن فى النشاط السياسى والاقتصادى والفكرى، كل هذا يساعد على تجهيلهن بحقوقهن، ومنها حق الحرية والعدل والكرامة، وحق العمل بأجر مساو لأجر الرجال، وعدم اعتبار الزواج والإنجاب الوظيفة الرئيسية للمرأة، وأن كثرة الحمل والولادة تضر صحة المرأة والمجتمع معا، وقد تزوجت أمى وهى فى الرابعة عشرة من عمرها وماتت وهى فى الخامسة والأربعين، وأنجبت تسعة من الأطفال، أنهكوها صحيا وأنهكوا أبى اقتصاديا، ومات مبكرا أيضا، وطالبت بتغيير قانون الزواج، ومنع الطلاق وتعدد الزوجات، والحرية الجنسية غير المسؤولة للرجال لإشباع نزواتهم العابرة، فالرجل يطلق حين يشاء، ويتزوج إذا أراد أربع نساء على الأقل، وينجب منهن عشرات الأطفال.

واتهمنى رجال الدين بالكفر والإلحاد، لأننى أخالف شرع الله، الذى أباح حرية الطلاق للرجال وتعدد الزوجات، واتهمنى رجال السياسة بأننى أتبنى أفكار أمريكا وإسرائيل للحد من عدد المسلمين.

كما أننى رفضت اعتبار كثرة المواليد هى السبب الوحيد فى الفقر والجهل والمرض فى مصر، وقلت إن الانفجار السكانى أحد الأسباب، وأن الثالوث المزمن ينتج أساسا عن نهب مواردنا بالاستعمار الخارجى والداخلى، وخلل فى العلاقات الزوجية داخل الأسرة والعلاقات الاقتصادية فى الدولة، وضرب الإنتاج لصالح الاستهلاك والقوى الاستعمارية الخارجية والطبقة الحاكمة الرأسمالية فى الداخل وكانت الحكومات المصرية الخاضعة للاستعمار الخارجى تسعى إعلاميا لتجهيل الشعب بأسباب الفقر والتخلف الأساسية بالتركيز على المشكلة السكانية وحدها، وتم اتهامى بالشيوعية من قبل الرأسماليين فى عصر السادات ومبارك، وأعلن الشيخ الشعراوى أننى أعمل لحساب الشيطان لمجرد سماعى الموسيقى، وهو يعمل لحساب الله، ودأبت جماعة الإخوان المسلمين على تشويه سمعتى، وإعلان وفاتى فى عيد ميلادى فى شهر أكتوبر كل عام، وعشت القهر الدينى والسياسى والاقتصادى والأخلاقى والأدبى، واستمرت النخبة المتعلمة فى نفاقها لكل عهد، وتركتنى وحدى فى المنفى ومهب الريح، بل شاركت فى الهجوم على تقربا من الحكومة، وتملقا للإخوان المسلمين، وحصل رجالها ونساؤها على المناصب والأموال وجوائز الدولة، فى عصر السادات ومبارك. وما إن قامت ثورة يناير 2011، حتى سارعت النخبة نفسها لتأييدها، والزعم بأن لها الفضل فى إشعال الثورة. وانقلبت على نظام مبارك، بعد أن كانت نائمة فى أحضانه، وتتمتع بمكاسبه، وغنائمه، وامتيازاته.

تحول صديقى وزميلى القديم محمود، خلال السنين، انهزم أمام طغيان الفهلوة والنفاق، لم يعد يعرفنى، رأيت صورته فى الصحف مع الوزراء والوزيرات، ينحنى ويتلقى وسام التنوير والعلمانية، يدعو إلى محاربة الإلحاد والعودة للإيمان بالله لحل مشاكلنا الاقتصادية والأخلاقية، اتصلت بى زوجته الأولى، وكانت طبيبة زميلة لنا نبيلة الأخلاق مخلصة له، لكنه لم يكن مخلصا، أقام علاقة سرية مع طبيبة شابة تصغره بأربعين عاما، تزوجها سرا وطلق زوجته الأولى غيابيا، ثم اكتشف أن زوجته الثانية الشابة تخونه مع طبيب شاب زميلها، فأرسل لها ورقة الطلاق بالبريد، وأخيرا تزوج ابنة عمته الريفية الساذجة الفقيرة لترعاه وأطفاله العشرة، متأكدا من عذريتها وعدم تلوث عقلها بأفكار تحرير المرأة.

وحين أصابنى المرض مؤخرا، وتخلى زملائى الأطباء عنى، جاءنى صوته عبر التليفون معاتبا، يا نوال كيف تذهبين إلى طبيب عيون دون استشارتى، أعرف طبيبا عظيما يمكنه علاجك بكفاءة، وسوف أتصل به ونأتى معا لزيارتك بالبيت ورعايتك طبيا، ثم كتب مقالا بالصحف بعنوان «نوال السعداوى كاتبة عالمية»، قيمة وقامة تستحق جائزة نوبل، وقلادة النيل، ومضت الأيام والشهور دون أن أسمع منه، وإن اتصلت به أجد تليفونه مغلقا حتى اليوم، تليفونه مغلق، وأسفت وضحكت على هذه النخبة الليبرالية العلمانية التنويرية، التى تتلون مع كل نظام، وأصبح النفاق مرضا مزمنا يجرى فى عروقها مجرى الدم ويورث فى الجينات للأبناء والأحفاد.
نقلا عن المصرى اليوم