مَاجِدْ سُوسْ
وَقَفَ رَجُل مُلْحِد فِي وَسَط مَجْمُوعَةٍ مِنَ الشَّبَاب وَقَالٍ لَهُمْ بِصَوْتٍ جَهْوَرِيِّ: أما زلتم تُصَدِّقُونَ أَنَّ هُنَاكَ إلَهٍ وَقَدْ صَنَعَكُمْ! مَا هَذَا الْهُرَاءُ، هَلْ هُنَاكَ مَنْ يُثْبِتُ لِي أَنَّ هُنَاكَ صَانِعٌ لِهَذَا الْكَوْنِ اِقْنَعُونِي واثبِتوا لِي هَذَا. وَقَعَتْ صَدَى هَذِهِ الْكَلِمَاتِ عَلَى أُذْنِ الشَّبَاب الْوَاقِف كَالْصَّاعِقَة فَهُمْ يُذْهِبُونَ إِلَى الْكَنِيسَةِ لِيَصِلُونَ لَكِنَّهُمْ لَمْ يَقِفُوا يَوْمًا أَمَامَ هَذَا التَّسَاؤُل مِنْ قَبْل. تَهّرَب الْجَمِيع كُلَّا بِعُذْرِهِ وَتَرُكوهُ وَإلْحَادَهُ وَهُوَ يَتَهَكَّمُ بِهُمْ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِمْ عَلَى مُنَاظَرَتِهِ.
 
طِفْلٌ صَغِير كَانَ يَسِيرُ مَعَ وَالِدَتِهِ قَادِمًا مِنْ مَدَارِسِ الْأحَد وَكَانَتْ قِصَّة الدَّرْسِ الَّذِي تَعَلُّمه عَنْ فُلْكَ نَوْح وَكَيْفَ تَهَكّم النَّاسُ عَلَى أَبُونَا نُوح حينما كَانَ يَبْنِي الْفُلْكَ مُتَّهَمِينَ إِيَّاه بِالْجُنُون لِأَنَّهُ يَبْنِي فُلْكَا فِي الصَّحْرَاءِ. سَمِعَ الطِّفْلُ مُنَادَاة وصُراخَ الشَّاب الْمُلْحِدِ وَكَانَ يَحْمِلُ فِي يَدِهِ لُعَبَةَ مُكَعَّبَاتٍ عَلَيْهَا سَفِينَةَ نَوْحِ أَعْطَاهَا لَهُ مُدَرِّس الْكَنِيسَةِ لِيَصْنَع مِنْهَا فُلْكًا فَقَالَ الطِّفْلُ لِلرَّجُلِ مَازِحْاً، لِقَدَّ تَعَلَّمَتُ الْيَوْمَ فِي الْكَنِيسَةِ أمراً عَجِيبْاً وهو أَنَّ فُلْكَ نَوْح بُنِّي بِدونَ بَانٍ فَقَالَ الرَّجُلُ كَيْفَ، أَجَابَهُ الطِّفْلُ لِقَدَّ تَجَمَّعَتِ الْأَخْشَابُ مَعَا دونَ أنْ يَجْمَعهُم أحَد وَاِلْتَصَقَتْ بعضُها بِبَعْضِ وَصَنَعَتْ أرْضًا ثُمَّ تَجَمَّعَتْ أَخْشَابُ أُخْرَى وَصَنَعَتْ حَوائِطاً وَأَبْوَاباً، هُنَا قَاطِعُ الرَّجُل الطِّفْلَ وَضَحِكَ مُتهَكِماً وَرَبَتْ عَلَى كَتِفِهِ قَائِلًا لَا يَا حَبيبِي أنا لا أُصَدّقُ هَذهِ القِصَص وإن صَدّقتُها لَا يَمُكُن أَنْ يَبْنِي فُلْكاَ نَفْسُهُ بِنفْسِهِ بُنَيَّ فلَابُد مِنْ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ بَانِيٌّ لَهُ . هُنا ابْتَسَم الطِّفْلُ وقالَ للرَجُل إِذَاً كَيْفَ تَقُوُل أَنْتَ أَنَّ هَذَا الْكَوْن لَمْ يَصْنَعْهُ أحَدٌ، اِحْتَضَن الرَجُل الّطّفْل وقَالَ لهُ أعْتَرِف أن إجَابَتِك تحتاج المَزِيد من البَحْثِ. 
 
وَالْحَقِيقَةُ الَّتِي دَفَعَتْنِي لِلْكِتَابَةِ فِي هَذَا الْمَوْضُوع هُوَ اِنْتِشَارُ مَوْجَةٍ إلْحَادِيَّةٍ عَنِيفَةِ تُكَادُ أَنْ تَعْصِفَ بِشَبَابِنَا فِي كُلِّ مَكَانٍ وَأَصْبَحَ الشَّيْطَانُ يَنْصِبُ شِباكُهُ اللَّعِينَةُ لِيَصِيد أكَبَر عَدَدٍ مِنْهُمْ وَقَدْ نَجِحْ بِكُلِّ أَسَفٍ فِي مَنَاطِقِ كَثِيرَةِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ لُغَةً أَوْ جِنْسٌ أَوْ دِينٍ. وَالْأَمْرِ بِاِخْتِصَارٍ شَدِيدٍ يَعُودُ لِأَمْرَيْنِ لَا ثَالِث لَهُمَا - فِي نَظَرِي - إِنْسَان لَا يَجِدُ إِجَابَةً شَافِيَةً لِتَسَاؤُلَاتِهِ خَاصَّةً مِنْ رِجَّالِ الدِّينِ، والثاني هُمْ أَصْدِقَاء السُّوءِ الَّذِينَ يَصُورُونَ لَهُمْ أَنَّ الدِّينَ قِيدٌ وَضْعُهُ مُجْتَمَعٌ أُبُوِّيُّ سَلِّطُوي لِيُتِحْكُمْ فِي شَبَابِهِ.
 
وَالْكَارِثَةُ بَدَأَتْ فِي الْعَصْرِ الْحَديثِ مِنْ بَعْضِ الْمُلْحِدِينَ الْكَذَبَة الَّذِينَ أَضَاعُوا بآرَائِهم وَكِتَابَاتِهِمِ الْكَثِيرِينَ والْكَثِيرات، فَهَا هُوَ كَارلُ مَاركسِ يَتَّهِمُ كُلّ مَنْ يُؤَمِّنَ بِاللهِ أَنَّهُ يُعَانِي مِنْ خَلَلٍ عَقْلِيَّا. كَمَا كَتَبَ عَالِمُ النَّفْسِ سيجموند فرُويْد أَنَّ أَيَّ شَخْصِ يُؤَمِّنُ بِوُجُودِ إلَهِ خَالِق هُوَ شَخْصٌ وَاِهْم يَتَمَسَّكُ بِهَذِهِ الْمُعْتَقَدَاتِ نَتِيجَةَ عَامِلَ " تَحْقِيقَ الْأمَانِيِّ " الَّذِي يُنْتِجُ عَنْهُ مَا اِعْتَبَرَهُ فرُويد مَوقِفَا غَيْرِ مُبَرِّرٍ. وَقَالَ الْفَيْلَسُوفُ فريدريك نَتشه صَرَاحَةً أَنَّ الْإيمَانَ هُوَ بِمَثَابَةِ رَفْضِ الْحَقِيقَةِ.
الْمُلْحِدُ يَا أَحِبَّائِي لَابُدَ أَنْ تَخَاطُبَهُ بَلَغَتْهُ قَبْلَ أَنْ تُخَاطِبَهُ بِمُعْتَقَدَاتِهِ وَهُوَ الْأَمْرُ الَّذِي وَقْعٍ فِيهِ الْكَثِيرَ مِنْ رِجالِ الدِّينِ فَخَسِرُوا مَعْرَكَتَهُمْ مَعَ الْمُلْحِدِينَ فَالْأَمْرُ يَحْتَاجُ إِلَى الْمَنْطِقِ وَقَدْ عَلِمَتُ عَنْ إحْدَى الْكَنَائِسِ عَقَدَتْ نَدْوَةٌ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ وَتَعَثُّرِ الْمُتَكَلِّمِ وعَجِزَ عَنْ الرُّدُودِ عَلْى ابْنَاءِنا فَتَسَبَّبَ الْأَمْرُ فِي بَلْبَلَةٍ وعثْرةٍ أتَتْ بِكُلِ أسْفٍ بِنَتَائِجٍ عَكْسِيَّةٍ.
 
فَالرَّدُّ عَلَى أَهُمْ تَسَاؤُل فِي عَقْلِ الْمُلْحِدِ يَجِبُ أَنْ يَبْدَأُ بِطَرْحِ أسْئِلَة مِيتَافِيزِيقِيَّةِ وَإِنْ بَدَتْ غَرِيبَة لَنَا وَلَكِنَّهَا مَدْخَل مُهِم لَهُ فَلَنَبْدَأُ بِالسُّؤَالِ: لِمَاذَا يُوجَدُ الْوُجُود بَدَلًا مِنَ الْعَدَمِ؟ لِمَاذَا نُوجَدُ نَحْنُ، لِمَاذَا تَوَجَد هَذِهِ الْأرْضِ، لِمَاذَا يُوجَدُ هَذَا الْكَوْنُ بَدَلًا مِنَ الْعَدَمِ؟ هُنَاكَ أَرْبَعَةِ إِجَابَاتٍ مُحْتَمَلَةٍ لِفِكْرَةِ الْوُجُودِ إِمَّا أَنَّ الْحَقِيقَةَ سَرَابٌ، أَو الْحَقِيقَة مَخْلُوقَة بذاتها، أَو الْحَقِيقَة أبَدِيَّة مَوْجُودَة بذاتها أَو الْحَقِيقَة مَخْلُوقَة بَوَاسِطَةَ شَيْءِ قَائِمِ بذاته. مِنْ هُنَا يَبْدَأُ الْبَحْثُ عَنِ الْإِجَابَة.
 
ظَهَرَتْ أَفْكَارٌ فِي الماضي كَانَتْ تَقَوُّل أَنَّهُ لَا تُوجَدُ حَقِيقَةٌ فَالْحَقِيقَة مُجَرَّد سَرَابٍ أَوَوَهْمٍ وَلَكِنَّ جَاءَ عَالَمُ الرِّيَاضِيَّات وَالْفَيْلَسُوف الشَّهِيرِ ديكارت وَقَالَ مَقُولَتِهِ:" أَنَا أُفَكِّرُ إِذَا أَنَا مَوْجُودٌ، أَنَا أُفَكِّرُ لِذَا أَنَا لَسْتَ سَرَابَا أَوْ وَهُمَا." فَاِلْوِهُمْ أَوِ السَّرَاب يَتَطَلَّبُ وُجُود شَيْء إِذَا رَأْيَتِه تَقُول عَلِيه سَرَابًا.
 
الْفَرْضِيَّةُ الثَّانِيَة وَهِي أَنَّ الْحَقِيقَةَ قَائِمَة بذاتها وَهِي فَرْضِيَّة غَيْرِ مِنْطَقِيَّةٍ ايضاً فَالشَّيْء لَا يُوجَدُ قَبْلَ ذاته فَإِذَا خَلقَت نَفْسُكَ هَذَا يَعْنِي أَنَّكَ كُنْتُ مَوْجُودًا قَبْلَ أَنْ تَخَلَّقَ ذاتك، لِأَنَّكَ هُنَا الْخَالِقُ وَالْمَخْلُوقُ وَهَذَا بِبَسَاطَةٍ لَا يَمُّكُنَّ أَنْ يَحْدُثُ. فَنَظَرِيَّةُ التَّطَوُّرِ تُشِيرُ إِلَى فِكْرَةِ " النُّشُوءَ التِّلْقَائِيَّ " وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ هُنَاكَ شَيْءِ يَنْبِعُ مَنْ لَا شَيْءٌ وَهُوَ أَمْرُ غَيْرِ مَقْبُولِ عَقْلًا وَقَدْ رَفَضَهُ الْكَثِيرُ مِنَ الْمُلْحِدِينَ أَنَفْسُهُمْ.
 
الْفَرْضِيَّة الثَّالِثَة هِي هَل الْحَقِيقَة أَزَلِيَّة، الْمُلْحِد يَتَصَوَّر أَنَّ الْمَادَّة أَزَلِيَّة وَأَنَّ الْأرْض أَزَلِّيَّة وَلَيْسَتْ مَخْلُوقَةٌ لَنْ أُدْخِلَك عَزِيزِيَّ الْقَارِيْ فِي أبْحَاث طَوِيلَة أَكَّدَتْ أَنَّ الْكَوْن لَهُ بِدَايَة مِثْل الْقَانُون الثاني لِلتَّفَاعُل الْحَرَارِيِّ، الصَّدَى الْإِشْعَاعِيَّ لِلْاِنْفِجَار الْعَظِيمِ الَّذِي تَمِّ اِكْتِشَافِه فِي بِدَايَة الْقَرْن الْعشرَيْن، وَقَبُولَ الْعُلَمَاء لِحَقِيقَةٍ أَنَّ الْكَوْن يَتَمَدَّد وَيُمْكِن تَتَبعُ بِدَايَتِهِ إِلَى نُقْطَةِ مُحَدَّدَة، هَذَا بِخِلَاَف نَظَرِيَّة آينشتاين النِّسْبِيَّة، كُلَّ هَذَا أَكَّد فِكْرَة أَنَّ الْأرْضَ مَخْلُوقَة وَأَنَّ الْمَادَّة مَخْلُوقَة.
 
فَفِكْرَة أَنَّ " الْمَادَّةَ أَزَلِيَّة " لَا تَتَنَاسَبْ مَعَ قَابِلِيَّة الْمَادَّة لِلتَّغَير فَكَيْفَ لِلْمُتَغَيِّرِ أَنْ يَكُون أَزَلِيًّا، وَالْمَادَّة تَحْمِل فِي طَيَّاتِهَا عُنْصُر الضِّعْف، وَلَيْسَ مِنَ الْمَعْقُول أَنْ يَكُون الضَّعِيف أَزَلِيًّا وَقَدْ كَتَبَ " إدوارد كَيْلَ " أُسْتَاذ عِلْمِ الْأَحْيَاء " إِنَّنَا نَسْتَطِيع أَنْ نَسْتَنْتِج أَنَّ هَذَا الْكَوْن لَا يَمُّكُن أَنْ يَكُون أَزَلِيًّا، وَإِلَّا لِاِسْتَهْلَكَتْ طَاقَتُه مُنْذُ زَمَنٍ وَتَوَقُّف كُلَّ نَشَاطٍ فِي الْوُجُود، وَهَكَذَا تَوَصَّلَت الْعُلُوم دُونَ قَصْدٍ إِلَى أَنَّ لِهَذَا الْكَوْن بِدَايَةً، وَهِي بِذَلِكَ تَثَبُّت وُجُود الله لِأَنَّ مَا لَهُ بِدَايَة لَا يَمُّكُن أَنْ يَكُون قَد بَدَأَ بِنَفْسُه، وَلَابِد مِنْ مُبْتَدِئٍ أَوْ مَنْ مُحَرِّك أَوَّل أَوْ مَنْ خَالِق وَهُوَ اللهُ "