خالد منتصر
«السذاجة من شيم العلماء، نصبّ كامل تركيزنا فى البحث عن الحقيقة فيفوتنا النظر فى قلة عدد من يريدنا أن نجدها، لكن الحقيقة موجودة دائماً سواء شئنا أم أبينا، لا تهتم الحقيقة برغباتنا ولا احتياجاتنا، لا تهتم بحكوماتنا ولا بعقائدنا، ستبقى متربصة أبد الدهر، وهذه أخيراً هى هدية تشرنوبل»، تلك الكلمات التى قالها الفيزيائى السوفيتى فاليرى ليخاسوف كانت خاتمة مسلسل «تشرنوبل» قبل نزول كلمة النهاية، لكن هل تلك هى نهاية مطاردة الحقيقة والتعتيم عليها؟، هل هذا آخر ما سيدفعه العالم ثمناً للأكاذيب؟، تشرنوبل هى أخطر كارثة صنعتها يد الإنسان نفسه ليدمر نفسه، كما دمر وذبح إيفان الرهيب ابنه وشاهدنا لحظة جزعه ورعبه فى اللوحة المعلقة فى مدخل الكرملين، التى كان يجلس أمامها كل من ينتظر لقاء المسئول السوفيتى الأكبر أثناء خطة حل الكارثة، المسلسل من أفضل المسلسلات فى تاريخ الدراما، على الرغم من أنه خمس حلقات فقط، احتل هذا المسلسل قبل أن ينتهى حتى عرض آخر حلقاته قائمة أعلى المسلسلات تقييماً على موقع «آى إم دى بى» بنسبة 9.6 من 10، بينما جاء «صراع العروش» فى المركز السادس، وعلى عكس «صراع العروش»، الذى أخذت تقييمات حلقاته النهائية فى التراجع على موقع «آى إم دى بى» حتى وصلت حلقته الأخيرة إلى تقييم 4.3، حافظ «تشرنوبل» على التقييمات المرتفعة التى وصلت إلى 9.9 فى الحلقة الأخيرة، المسلسل من كتابة كريج مازن، وإخراج جون رينك، وهو إنتاج مشترك بين شبكة «إتش بى أو» الأمريكية، وشبكة «سكاى» البريطانية، ولكى نتعرف على كم الجهد الرهيب والإتقان يكفى أن نعرف أنه قد تم إعادة إنشاء مدينة بشكل مماثل لتشرنوبل فى ليتوانيا وعثر المنتجون على مفاعل نووى متوقف عن العمل فى فيزاجيناس شمال شرق ليتوانيا،

ليستخدم فى تصوير اللقطات الخارجية والداخلية، وهو من نفس نوع وتصميم مفاعل تشرنوبل، هذا عن التقنية والجهد الإنتاجى والإتقان المهنى، لكن الأهم فى نظرى هو الإتقان الفكرى والصدق الإبداعى والجسارة والجرأة النقدية فى فضح الممارسات التى تفرزها البيروقراطية العفنة وتسمم المناخ العام بنقص أكسجين الحرية، آلاف الضحايا، مدينة كاملة محظورة، سرطانات تنتشر فى أجيال بعد أجيال، أطفال وأجنة يمتصون الإشعاع لإنقاذ الأمهات، حيوانات نافقة ومزروعات ذابلة وأراضٍ تحولت لمدافن رعب، علماء تآكلت جلودهم وصاروا أشباحاً آدمية، جدارية رعب وفزع، والسبب ركام الأكاذيب وكراهية الحقيقة، نظام يبحث عن تجميل وجهه القبيح ليخفى الدمامة تحت ماكياج البروباجندا، الحزب الشيوعى السوفيتى كان همه فقط صورته الخارجية، عندما ذهب السياسى نائب رئيس الوزراء مع عالم الفيزياء والكيمياء والطاقة الذرية، كان يحتقر العلم ويحتكر القرار، أمره بأن يلخص له كيف يعمل المفاعل الذرى؟!، أراد أن يختزل علم سنوات فى ثرثرة سفر!، فى نهاية الحلقات أيقن أنه لو احترم العلم ما كانت الكارثة، صارح العالم شعبه فى المحكمة ولم يكذب عليه، كان الثمن هو السجن الذى قاده إلى الانتحار، لكنه كان قد أنقذ باقى المفاعلات النووية من هذا المصير المأساوى الرهيب، وأنقذ كل أوروبا الشرقية بل كل العالم.

مسلسل «تشرنوبل» مسلسل لا بد أن تشاهدوه، رائع على قدر صدمته، كاشف على قدر ألمه، صادق على قدر رعبه.
نقلا عن الوطن