تمر علينا الذكرى السابعة والأربعون لرحيل الكاتب والمناضل الفلسطينى غسان كنفانى على يد الموساد الإسرائيلى وهو ما زال على أعتاب السادسة والثلاثين من العمر، كل شىء فى حياته بدأ مبكراً عن أقرانه، المعاناة والقهر والفن والكتابة والموت أيضاً، وكأنه يسابق الزمن ويختلس العمر من رصيد القدر الضنين البخيل. عندما أقرأ روايته العبقرية «رجال فى الشمس» لا أستطيع تصديق أنه قد كتبها ونشرها فى سن السابعة والعشرين من العمر!! قرأتها بعد أن جذبتنى فيلماً سينمائياً أخرجه المبدع توفيق صالح باسم «المخدوعون»، التهمت الرواية فى ساعة، وذبحتنى فى دقيقة، إنه يكتب بنصل سكين لا بقلم حبر، أحسست بلفح هجير صحراء الكويت يكوى وجهى عاصفاً من بين السطور، الفلسطينيون الثلاثة داخل خزان المياه فى السيارة اللورى التى تعبر بهم الحدود من البصرة إلى الكويت، كل منهم يحمل حلمه المجهض بالخلاص، لقاء عشرة دنانير من كل مهاجر حالم، دفعوها للسائق «أبوالخيزران» الذى يعانى من عجز جنسى وشهوة طمع لا تنطفئ، يتفق معهم على الاختباء فى الخزان قبل نقطة التفتيش ثم الإفراج عنهم والخروج من الصهريج الملتهب بعد المرور بسلام، كانت مجرد دقائق قليلة لكنها تمر عليهم دهراً كاملاً وتعصرهم عرقاً وصهداً، تحملوها أملاً فى الخلاص.

 
نجحت الخطة فى النقطة الأولى ثم الثانية، جاءت نقطة التفتيش الثالثة وامتد الحوار بين السائق والموظف الذى ظل يحكى له عن الراقصة ومغامراتها، ظل نصف ساعة يحكى ويثرثر، والسائق العاجز مُنتشٍ بالتفاصيل الوهمية وشحن بطاريته المعطلة بكهرباء قصص الجنس والليالى الحمراء، عاد ليجد ثلاث جثث هامدة داخل الخزان، العيون جاحظة والعروق نافرة والجسم هامد خامد، وكان السؤال المؤرق: لماذا لم يدقوا جدار الخزان؟! لماذا لم يصرخوا؟ لماذا لم يعلنوا عن أنفسهم إنقاذاً لحياتهم؟ لماذا ارتخت قبضاتهم وهم ينزفون عرقاً وتجففهم الكارثة وتبخرهم المأساة؟! هل تغلب احتفاظهم بالحلم على رغبة الحياة؟ هل بارقة الأمل كانت لديهم أهم من زفرات الروح؟ تشبثوا بسراب أمانى الخلاص فسقطوا فى فخ الموت الذى بلا قاع، جرّدهم السائق من كل ما يملكون، تركهم عرايا من غطاء الستر بعدما تعروا من رداء الحلم، ألقى بهم فى كوم النفايات، دفنهم فى القمامة ورحل، حاملاً معه غنائم السرقة وإحباط العجز، يتهمه الناس بأنه بلا قلب أو إحساس، ومنذ متى كانوا يعاملونه بقلب أو إحساس أو تعاطف، كان قد تصالح مع وتعود على الجميع الذين دهسوه بالأحذية، فقرر أن يدهس بعربته جثث القيم.
 
لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟ هذا هو السؤال الذى لم أجد إجابة عليه حتى هذه اللحظة، فما زال اللاجئون العرب يغرقون فى موج البحر المتوسط، يتناقلون حكاياتهم، وبالرغم من ذلك تمتلئ القوارب بالآلاف الذين تبتلع جثث معظمهم أسماك القرش، لكنهم مثل أبطال الرواية لم يفكروا يوماً فى الصراخ قبل الغرق أو دق جدران الخزان قبل الاختناق، يداعبهم دوماً أمل الخلاص من أنياب المجهول وبراثن المتاهة، ويظل السؤال ينبش ضمائرنا بنصل السكين الذى كتب به غسان، لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟.
نقلا عن الوطن