فى مثل هذا اليوم 30 يونيو 1956م..

سامح جميل

وفاة رئيس وزراء الأردن توفيق أبو الهدى (ولد عام 1895) منتحراً في منزله.
 
ولد السياسي الكبير توفيق أبو الهدى سنة 1895 م ، ليشهد على اتساع الأحلام والرؤى القادمة ، لكن جذوره العائلية في مدينة الرملة حيث ينتمي لأسرة التاجي الفاروقي المتجذرة في الرملة ، تدفعه للعودة إليها للدراسة الابتدائية حاملاً عكا تاجاً على مسقط رأسه، وقد دفعه نبوغه في تلقي العلم إلى الارتحال صوب بيروت لاستكمال دراسته الثانوية هناك، حيث تفتحت سنوات شبابه على المد القومي في مواجهة استفحال سياسة التتريك التي مارستها الدولة العثمانية أواخر عهدها ، حيث كانت بيروت ملتقى لأحرار العرب ومنبع مثقفيهم، في وقت تكتنز سماء السياسية بالسحب الداكنة في انتظار اللحظة المناسبة.
 
كانت الأستانة ( اسطنبول) عاصمة الإمبراطورية العثمانية المكان الأنسب لدراسة أبناء هذه المنطقة، فسافر إليها توفيق طلباً للعلم ورغبة في تحصيل الدرجة الأكاديمية التي تليق بأحلام هذا الفتى العربي، فالتحق بالمكتب السلطاني في اسطنبول ودرس الحقوق لمدة ثلاث سنوات ، ولان عاصمة الدولة كانت تجمع عدداً من الشباب العربي المتعلم ، كانت مسرحاً للتواصل مع أبناء المناطق العربية لتدارس سوء الأحوال، وما آلت إليه الدولة من ضعف انعكس من خلال سوء معاملتها للولايات العربية وكبت للحريات، وفرض مزيد من الضرائب والتجنيد الإجباري ، ونظراً لذكاء توفيق أبو الهدى ومقدرته السياسية تمكن من مساعدة عدد من أحرار العرب وإنقاذهم من أعواد المشانق، مستنداً في كل ذلك إلى دراسته للحقوق وولائه الوطني والقومي.
 
ولعل الميول السياسية والتحررية لدى توفيق دفعته للانتماء إلى المنتدى الأدبي الذي كان يضم مجموعة من الشباب العربي، وهو منتدى قاومته الحكومة العثمانية ، وقد كان أبو الهدى يحتفظ بوثائق هامة بعضها يحتوي على أسماء المنتسبين للمنتدى من العرب، وقد احرق تلك الوثائق عندما بدأت الحكومة بالبحث عنها ، حتى لا تقع بأيديهم وبالتالي يلقون القبض على العرب الأحرار الذين حملوا بذلك بذور النهضة والثورة فيما بعد.
 
انطلق أبو الهدى في حياته العملية من خلال العمل مأموراً للحسابات في جهة العراق، وتمكن من خلال ذلك من اكتساب الخبرة الكبيرة في الأمور المالية، بعد ذلك بفترة أصبح كاتباً في مدرسة الحقوق في سوريا الداخلية ، ولكن بعد أن أجهضت القوات الفرنسية الدولة العربية في سوريا وأصبحت بيد الفرنسيين خلافاً للوعود التي وعد الغرب بها العرب، مما دفع توفيق أبو الهدى إلى الانتقال إلى الأردن، وقد شجعه في ذلك علي باشا الركابي الذي ترأس أول حكومة عسكرية عربية في دمشق قبل دخول الفرنسيين، وقد استجاب أبو الهدى الذي كان ينظر إلى البلدان العربية باعتبارها الوطن الكبير الذي سيكون ذات يوم ، وقد تمت دعوته للاستفادة من خبراته في القانون والشؤون المالية، وهي خبرات تحتاجها الدولة الناشئة في شرق الأردن، وعند قدومه تم تعيينه مديراً للواردات، غير أن قدرات أبو الهدى وتفانيه في العمل ساهما في دفعه إلى الأمام في السلم الوظيفي، فأصبح مديراً للمحاسبة ومن ثم مدير دائرة تسجيل الأراضي.
أن الخطوة الأهم في حياة الشاب توفيق أبو الهدى هي تعيينه عضواً في المجلس التشريعي عام 1928 م ،الذي وضعه مع كبار الساسة في تلك الفترة، حيث لم يمض عام واحد حتى أصبح سكرتيرا عاماً للحكومة الأردنية، ليكون هذا المنصب فاصلة هامة في حياة هذا الرجل الكبير في كل شيء، حيث مكنه من الاطلاع الأوسع والتحرك إلى الأمام بخطى ثابتة. لقد سجل عام 1928 الشهادة الأوثق على براعته السياسية ، فلقد وقف أمام المجلس التشريعي ودافع عن المعاهدة الأردنية البريطانية التي واجهت معارضة المجلس، فأقرت في العام 1929، من خلال قدرته - أبو الهدى- في إقناع المعارضة بالحجة والبرهان، مما فتح المجال أمامه واسعاً وليصبح رئيس المجلس التنفيذي بعد ذلك.
 
إن وصول توفيق أبو الهدى إلى منصب رئيس للوزراء عدة مرات دليل كاف على ما يتمتع به هذا الرجل من مقومات فكرية وسياسـية تعبر عن انتماء صادق ، فلقد لعب دوراً مؤثراً كرئيس للوزراء لاثنتي عشرة حكومة قادها في فترات بالغة الصعوبة والتعقيد، منذ أواخر العشرينيات والى ما بعد الحرب العالمية الثـانية، حيث كانت آخر حكومة شـكلها عام 1954 م ، وقد ساهم بنفسه العروبي المنطلق من سوريا الكبرى في المفاوضات التي أفضت إلى تأسيس جامعة الدول العربية - الفعل الحقيقي المنجز الدال على وحدة العرب- ، فهو مفكر وصاحب وجهة نظر، دفعت الكثير من السياسيين إلى انتقاده بشدة خاصة ما يتعلق بوجهاته السياسية والاقتصادية ، وهو رجل مختلف عليه عند مجايليه وأنداده في السياسة، فهو بلا شك صاحب شخصية خلافية، تقبل الاجتهاد والرأي الآخر. وبالرغم من كل ذلك ، يبقى توفيق أبو الهدى رجل مرحلة كاملة أثر فيها، ورجل دولة من طراز رفيع لم يختلف على براعته المؤيد والمعارض على حد سواء، وسيبقى السياسي الأكثر إثارة للأسئلة ، وستبقى حياته سجلاً حافلاً بالمنجزات والمناصب والتي أضاف إليها رئاسته لمجلس الأعيان لدورتين. وبشكل مفاجئ وغامض أقدم توفيق أبو الهدى على إنهاء حياته عام 1956، ومازالت الأسباب الحقيقية التي دفعته لفعل ذلك غير معروفة، وقد رافقها كثير من التكهنات، التي تؤكد ان الرجل كان ظاهرة لافتة في حياته ومماته، وهو الذي يحتفظ بالرقم القياسي بعدد تشكيل الحكومات الأردنية، حيث شكل اثنتي عشرة حكومة أردنية...!!