عبد المنعم سعيد
حتى وقت كتابة هذا المقال لم تكن قد ظهرت «صفقة القرن» التى طال انتظارها، وانتهى شهر رمضان ومن بعده عيد الفطر المبارك، أما تشكيل الحكومة الإسرائيلية فقد ثبت أن الأمر سوف يحتاج انتخابات إسرائيلية جديدة سوف تحدث فى سبتمبر، وهو ما يعنى أنه أيا كانت الأفكار القادمة من الولايات المتحدة فإن عليها أن تتعامل مع الحكومة الإسرائيلية الحالية أو أن عليها أن تبلغ الأطراف المعنية بتأجيل جديد فى الصفقة الموعودة. لم يرد أمر «الصفقة» على أى الأحوال، ولكن جاءت أمور تثير الاستغراب كان أولها دعوة الولايات المتحدة إلى عقد «ورشة عمل اقتصادية» فى المنامة عاصمة البحرين تشير إلى ما سبق شيوعه عن الصفقة وكونها تعبر عن سلام اقتصادى، ولكن أحدا لم يعرف عما إذا كان ذلك جزءا من الصفقة أم لا، فلعله من المدهش أن تدور الصفقات فى ورش للعمل!. وثانيها أن وزير الخارجية الأمريكى «بومبيو» صرح بعبارات تشير إلى شكوكه فى فعالية «الصفقة» وعما إذا كان ممكنا تطبيقها؛ وهو ما جعل «ترامب» يعقب بأن المسألة بالفعل صعبة، ولم يكن فى ذلك لا رفض ولا قبول!. وثالثها وبشكل مفاجئ، بدأت أطراف كثيرة على اليمين الإسرائيلى تتحدث عن رفض الصفقة لأنها تجور على إسرائيل وحقوقها. مثل ذلك كان متخيلا أن يحدث عندما تدور عجلة المفاوضات حتى تظهر إسرائيل كما لو أنها تقدم تنازلا حقيقيا عن أمر ما؛ وكان ذلك ما تنبأ به «دان كيرتزر» السفير الأمريكى السابق فى مصر وإسرائيل، ولكنه لم يتنبأ بأن ذلك يمكن حدوثه الآن وقبل الإعلان عن المبادرة الأمريكية. وإنما كجزء من مناورات ما بعد الصفقة.

.. ورابعها أن الرئيس الفلسطينى محمود عباس (أبو مازن) كان حريصا فى مؤتمر القمة العربى الذى عقد مؤخرا فى مكة على الإعلان أن السلطة الوطنية الفلسطينية لن تحضر ورشة العمل المذكورة كما لو أنه يرى فى ذلك «فيتو» على الصفقة الأمريكية كلها فى وقت كان الوجود الأمريكى فى المنطقة يحتشد لقضية أخرى تختلف تماما عن القضية الفلسطينية هى قضية الأمن الإقليمى فى الخليج بعد أحداث التفجيرات فى الفجيرة الإماراتية ومضخات النفط السعودية والتى قام بها «الحوثيون» فى اليمن لحساب إيران.

باختصار كان هناك الكثير من الغموض رغم وجود الكثير من الضجيج، وهى سمة على أية حال لمن لا يعرف من سمات الدبلوماسية الأمريكية فى عهد الرئيس ترامب. فمن يراجع دبلوماسيته تجاه الصين أو روسيا أو كوريا الشمالية أو إيران أو المكسيك أو فنزويلا فإن هذا المزيج من التهديد الفاقع، والوعود بصفقات ناجحة فى مفاوضات ساحرة هو ما ركز عليه البيت الأبيض فى عهد خرج خروجا كبيرا على ما هو معهود من الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ نهاية الحرب الباردة أو حتى ما قبلها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. لم تعد أمريكا كما كانت وعلى الساسة الذين يتعاملون معها أن يتسلحوا بقدر كبير من الصبر لأن أحدا لا يستطيع استبعاد الدور الأمريكى لا فى السياسة العالمية، ولا فى الشرق الأوسط حتى ولو كان رئيسها فى فترة رئاسته الأولى عزم على سحب القوات الأمريكية من المنطقة، وبعد هذه الخطوة الجريئة فإنه قام بالانسحاب من الاتفاق النووى مع إيران، وأعاد فرض العقوبات عليها، وكانت النتيجة هى العودة الأمريكية بالسلاح مرة أخرى إلى منطقة عزمت على الانسحاب منها.

كثيرا ما كان الاقتراح لمواجهة «صفقة القرن» ليس بالاستسلام والانتظار لما سوف يأتى منها، أو الوقوع فى أسر ما يشاع عنها وما يتسرب صوابا وخطأ؛ وإنما بأن تكون هناك صفقة عربية شاملة جاءت فى خطوطها الأولية فى مبادرة السلام العربية التى عرضت وجرت الموافقة عليها فى قمة بيروت عام ٢٠٠٢، وجرى التأكيد عليها فى العديد من القمم اللاحقة. هذه الصفقة لن تكون فاعلة ما لم يقدم الفلسطينيون صفقتهم الخاصة، ليس فقط بالإشارة إلى معادلة الأرض والسلام والقرارات الدولية ذات الصلة بالقضية، ومبادئ العدالة الواردة فى المواثيق والأعراف العالمية، وإنما بكيفية التعامل مع الحقائق القائمة على الأرض. وفى جانب من الضجيج الذى جرى مؤخرا كانت هناك تصريحات أمريكية تشير إلى أن الصفقة تأخذ فى اعتبارها عدم قدرة الفلسطينيين على حكم أنفسهم؛ وهو ما جرى الرد عليه بأن القدرة حادثة بالفعل من قبل السلطة الوطنية الفلسطينية والتى تحكم فى ظل ظروف الاحتلال والعدوان الإسرائيلى المستمر. كل ذلك صحيح، ويؤكد على الطاقة النضالية للشعب الفلسطينى، والقدرات الكامنة فيه؛ ولكنه لا يحل معضلة أمرين: أولهما ماذا يعنى ذلك كله فى ظل وجود كيانين فلسطينيين أحدهما يوجد مركزه فى رام الله، والآخر فى غزة، وفى أحدهما توجد فتح الوطنية، وفى الأخرى حماس التابعة لجماعة الإخوان المسلمين وما يتبعها من تنظيمات أخرى، ولكل منهما استراتيجيته، وممارسته للسياسة الخارجية والأمن القومى بما فيها إدارة العلاقات مع إسرائيل سواء كان ذلك بالتفاوض أو بإطلاق الصواريخ. هذه ليست حالة انقسام سياسى، وإنما هى حالة انفلاق للتكامل الإقليمى للدولة وحدودها الجغرافية، بل إنها فى جوانب كثيرة منها تشير إلى جنين دولتين لا دولة واحدة يطالب كل العرب بها. وثانيهما أنه لا يمكن أن تقام الدولة الفلسطينية دون أن يكون لها ما يوصف بأنه حق الاحتكار الشرعى لأدوات القوة وفى المقدمة منها القوة العسكرية. وفى الحقيقة فإن الرئيس الفلسطينى كثيرا ما نبه إلى خطورة أن تكون حماس فى فلسطين مماثلة لحزب الله فى لبنان والحوثيين فى اليمن؛ ولكن التنبيه إلى الخطر لا يكفى لكى تكون هناك صفقة فلسطينية تجعل الصفقة العربية فاعلة وقادرة على الخروج من زحام الضجيج والغموض الأمريكى.

وبصراحة فإن أيا كان الضجيج الذائع حول «صفقة القرن» وما أتى منها وما اختفى ربما كان مبالغا فيه، بل إن متابعة دبلوماسية ترامب العالمية تقول لنا بصريح العبارة إن قدرات الرجل فى عقد الصفقات ليست بالامتياز الذى يشيع عنه؛ وحتى ما بدا نجاحا مع المكسيك كان فى حقيقته خطوات عزمت المكسيك على اتباعها وأخطرت بها الإدارة الأمريكية قبل أن تجرى مفاوضات أو تتخذ إجراءات. وبصراحة أكثر فإن عقدة العقد أمام القضية الفلسطينية كلها تأتى فى تواجد حماس وسيطرتها على غزة وعلاقاتها مع جماعات راديكالية حاولت إفساد السياسة فى العالم العربى كله خلال العقد الحالى. الصفقة الفلسطينية والعربية تبدأ من غزة، وما عدا ذلك سوف يكون انتظارا طويلا، واستمرارا لأمر واقع كله مر وعلقم!.
نقلا عن المصرى اليوم