مفيد فوزي
نغفل أسماء نجوم حقيقيين لم يظهروا فى مسلسلات أو كانوا ضيوف برامج تنال من سمعتهم أو يتمرغون فى وحل مقلب مدفوع الأجر! نغفل أسماء نجوم حقيقيين للبطولة عندهم طعم آخر، بطولاتهم صامتة بلا ضجيج إعلامى ولا ميديا، لا يظهرون على الشاشات ولا تلهث وراءهم العدسات! ألست أقول لكم إنهم نجوم من طينة أخرى؟ هؤلاء النجوم لا فرق عندهم بين ليل ونهار أو بين برد قارس وحر خانق، ففى كل الحالات حاضرون مستعدون ينسون بيوتهم وأولادهم ولا يشكون! هؤلاء النجوم لا يعرفون الحياة الطبيعية العائلية، الأهل والخلّان والأطفال والأحفاد واللّمة التى تعرفها العيلة المصرية.

إنهم لا يعرفون طعم الاستقرار، وهكذا تفرض المهنة طبيعتها عليهم، إنهم أبناء مؤسسة مصرية عميقة الجذور اسمها مؤسسة الأمن ودورها محدد: أمن المواطن المصرى فى بيته وعرضه وماله. إنها شقيقة المؤسسة العسكرية كبيرة المقام وعلى عاتقها مهمة حراسة حدود مصر براً وبحراً وجواً.. المؤسستان تشاركا وتناغما وعزفا على أوتار الأمان أثمن كلمة فى حياة الشعوب. أما لماذا هذه المقدمة عن رجل أمن مصر، فلأن عطاءه صامت، وقد يذهب لعملية فلا يعود منها، ويقرأ الناس نبأ استشهاده فى سطرين أو ثلاثة، ومن النادر- إلا قليلا- من يحس أن بيتا (خلا) من سيده وغيّبه الموت، وترك لأرملته حزن السنين، ولأولاده وأطفاله حيرة فى العيون: أين ذهب الأب؟ يطرحون سؤالاً بلا إجابة، لكن الدولة فى أعلى مراتبها تقدر هذا الدور البطولى وترعى العائلات المكلومة المنكوبة لأن عائلها راح! من هنا وصفت «أداءهم» بالبطولة الحقة لكى تنام أنت وأنا بالعمق الذى وصفه شكسبير بأنه «السعادة»!

.. وليس هذا فقط، بل ينعم الأطفال باللعب ساعات النهار بلا قلق عليهم لأن عيون أمن مصر لا تعرف النوم، وإذا اتصلت بواحد من هؤلاء قال لك فى اقتضاب: «أنا فى مأمورية» ثلاث كلمات بعدها يعود أو لا يعود! ثقافة خاصة اعتاد عليها أهالى رجال الأمن الذين ارتبطت حياتهم بهؤلاء النجوم الحقيقيين، قلق مدمر يأكل الأعصاب، حتى يعود الضابط من المأمورية الناجحة أو يسقط شهيداً يلاحقه النواح والصراخ والأسى.

مأمورية

اثنان من رجال أمن مصر، واحد منهما برتبة اللواء جمال شكر، مدير أمن أسيوط والثانى برتبة النقيب عمر ياسر معاون مباحث أبوحماد شرقية، كلاهما كان فى مأمورية، الأول كان يتمم بنفسه على كمائن الشرطة المنتشرة على الطرق فى أسيوط والثانى كان فى مأمورية مطاردة عصابة سرقت سيارة مواطن، أبلغ عن السرقة، فتحرك على الفور النقيب عمر ياسر.

اللواء جمال شكر انقلبت به السيارة خلال المأمورية، والنقيب عمر ياسر أصابه طلق نارى نافذ فى الرقبة خلال المأمورية، كلاهما- مع فارق الرتبة- ودّع الحياة فى ظروف غير عادية.. فمن أهم المهام المكلف بها مدير أمن أسيوط (التتميم) على الكمائن المزروعة على الطرق فى صعيد مصر الجوانى والتتميم مصطلح شرطى، يعنى المرور بنفسه ورؤية العين وأخذ (التمام) من ضابط الكمين، ولا يستطيع اللواء جمال شكر تكليف أحد رجاله بالقيام بالمأمورية، فضميره المهنى يرفض التحايل على أداء المأمورية. حدث هذه لحظة الإفطار فى رمضان، واللواء جمال ليس جالسا فى بيته فى انتظار مدفع الإفطار وحوله أسرته الفاضلة، بل فى سيارة شرطة تمر على الكمائن، كمين وراء الآخر، كانت كلمة (هدوء) تجذبه ومغزاها الأمنى: كل شىء تمام لا قلق ولا مشاكل، كانت قد تعددت حوادث الاعتداء على الكمائن فى أوقات متفرقة تؤكد أن الإرهاب فى الداخل مازال (ينتقم) من رجال أمن مصر، فكان لابد لمدير أمن أسيوط صاحب الرتبة الكبيرة أن يحصل على «تمام» من كل كمين ضارباً بعرض الحائط تقاليد العائلة المصرية بوجود كبيرها على (السفرة) لحظة المدفع وانطلاقه إيذانا بالصوم المقبول والإفطار الشهى.. فى تلك اللحظة كان اللواء جمال شكر فى سيارة إسعاف، وكان قد فارق الحياة. عفوا، فى المسلسلات الرمضانية قد يلقى البطل حادثا جللا، ولكنه بعد قليل يغادر الاستديو فى أتم صحة ويترامى إلى أذنه كلمات إطراء من المخرج.. إنه حادث افتراضى ينفعل به المشاهد للتليفزيون، ولكن ما جرى لمدير أمن أسيوط حادث حقيقى، توقف قلبه على أثره، وبعدها استعدت الأسرة المكلومة لتقبل العزاء فى كبيرها الذى أدى واجبه كما الرجال، واستحق الاحترام من مؤسسته الوطنية وناس بلده.. لقد مات اللواء جمال شكر فى مأمورية.

مأمورية
لا حدود للمخاطر التى يتعرض لها رجال أمن مصر، نسبة الأمان غير ثابتة، أتذكر أن مدير أمن هماما أتذكر أنه بعض القبض على شقى روع المجتمع اسمه كما سجلته ذاكرتى (عزت حنفى) وقد رويت قصة المطاردة فى حديث المدينة التى انتهت بأن انقلبت سيارة مدير الأمن الذى استشهد فى المستشفى فى اللحظة التى كان ابنه يستعد فى نفس ذات الليلة للزواج! والسفر صبيحة اليوم التالى لشهر العسل.. وانتظر الجميع عودة الأب من مأمورية مطاردة عزت حنفى، ولكن انقلب إلى مأتم عندما علموا بوفاته وهو يؤدى واجبه.. هذه المخاطر لابد أن نحترمها ونثمنها وننحنى لها، وهى مخاطر لا تفرق فى الرتب بين لواء وملازم أول.. هذه المخاطر مكون أساسى فى ثقاقة رجل الشرطة، فليس رجل الأمن (بدلة ميرى ونجوم) ولكنه استعداد دائم لمقابلة الموت.

هذا هو ما حدث للشهيد عمر ياسر معاون مباحث أبوحماد شرقية، ابن الثامن والعشرين المتفتح للحياة، المتفانى فى خدمة الناس، كما تعلم واللامبالى بالأخطار كما تفرض رجولته.. ماذا كانت المأمورية؟ (إعادة حق لصاحبه) إننا كثيرا ما نشكو أن الحق المغتصب ضاع، ولم يعد! نعم، هناك حيل شيطانية للمجرمين وقطاع الطرق تقوم بتزوير الواقع، ولكن أمن مصر يدفع ثمنا غالياً للوصول إلى هذه الحيل.

لقد خرج معاون مباحث أبوحماد فى «مأمورية» إعادة سيارة مسروقة لمواطن عادى ذهب إلى القسم وأبلغ عن السرقة فى محضر أحوال. المواطن واحد من الناس وليس (ذا حيثية) يقول لى هاتفيا الدكتور ممدوح غراب محافظ الشرقية الذى كان على رأس المشيعين فى جنازة الشعيد ياسر «خرج ابننا عمر معاون المباحث يطارد عصابة سرقة سيارات وتغيير ملامحها بأساليب جهنمية، كان يريد القبض على العصابة التى كان يريد القبض على أفرادها، كان الهدف (إعادة السيارة المسروقة إلى صاحبها) ومن أجل هذا الهدف دفع الضابط الشاب حياته ثمناً للهدف، تلقى طلقاً ناريا نافذا، قام الجناة بإطلاق النيران على سيارة الأمن لوقف تقدمها ومحاولة الهروب، لم يحدث أن استخدم الضابط الشهيد سلاحه. أدهشنى هذا الموقف، ففى حوارى مع الراحل زكى بدر وزير داخلية مصر يوماً ما قال إنه إذا واجه الضابط جناة رفعوا عليه السلاح لابد أن يبادر ويستخدم سلاحه على الفور، لقد حدث نفس الشىء للنقيب أحمد المسلمى معاون مباحث شرطة بلبيس الذى استشهد بطعنات نافذة من أحد العناصر الإجرامية منذ شهرين فقط، وكتب عمر ياسر معاون المباحث على الفيس بوك فى صفحته «وجعت قلبنا يا أحمد. الفراق صعب» وواجه عمر ياسر نفس النهاية التى أوقعت قلب أسرته إلى حد جلوس الأب الدكتور ياسر عبدالعظيم، العميد الأسبق لكلية التربية الرياضية بجامعة الزقازيق بجوار جثمان ابنه يخاطبه وقلبه يعتصر ودموعه تخذله ويردد آيات من المصحف الكريم فى يده، لم تنم ليلتها قرية «سنهوت» التابعة لمركز منيا القمح حزنا على ابنها الشهيد الراحل.. الرجل الذى خرج يطارد عصابة اعترضت مواطنا على طريق أبوحماد- بلبيس وسرقوا سيارته وتلقى طلقاً نارياً قبل أن يحقق مأموريته.

مأمورية
الضباط جمال شكر وعمر ياسر وأحمد المسلمى، راحوا وهم يؤدون مأموريات كلفهم الواجب بها، وليس هؤلاء فقط إنما يحفل دفتر أحوال أمن مصر بعشرات، يقدمون حياتهم لتعيش أنت فى أمان، يسهرون وأنت نائم، يتلقون الطلقات والطعنات وأنت آمن. يدفعون عنك وعن حياتك الأذى والأذى يلحق بهم. إنهم (الرجال الرجال فى مأموريات الرجولة) سواء عاد منها محققاً الهدف أو عاد جثة يغطيها الحزن وتمطرها الدموع.
نقلا عن المصرى اليوم