منى أبوسنة
صوت الجماهير الآن هو الصوت السائد، بحيث يمكن القول إنه «لا صوت يعلو فوق صوت الجماهير»، فالنقابات من صنع الجماهير، وأعضاء البرلمان خاضعون لصوت الجماهير لأنهم هم الذين أحضروا النواب إلى البرلمان.

والسؤال الآن: إذا كانت الجماهير هى التى تقود المجتمع وتتحكم فيه، فمَن الذى يقود الجماهير ويتحكم فيها؟، هل هم رجال الدين أم المثقفون؟، وما يهمنا هنا هو المسار العربى فى علاقته بالمسار الأوروبى من حيث علاقة الجماهير برجال الدين،

هذا المسار يتحدد بحادثة تاريخية سماها «مراد وهبة» «مفارقة ابن رشد»، وهذه التسمية هى فى نفس الوقت عنوان لكتابه الذى صدر عام 2004، وخلاصة هذه التسمية أن ابن رشد حى فى الغرب ميت فى الشرق، على حد قول مراد وهبة، ويقصد بذلك أن ابن رشد قد أحدث تأثيرًا فى أوروبا إلى الحد الذى يمكن القول فيه إنه من مؤسِّسى التنوير فى أوروبا، فى حين أنه أُجهض تأثيره فى العالم العربى الإسلامى. وبذلك حدثت الفجوة الحضارية بين العالمين الأوروبى من جهة والعربى الإسلامى من جهة أخرى، مما أفضى إلى سيطرة رجال الدين الحرفيين على عقول الجماهير، فحرموهم من إعمال العقل فى النص الدينى، وبالتالى أسروا عقولهم فى المعنى الحرفى، فتوقفوا عن ممارسة التأويل الذى أجازه ابن رشد، والذى كان يعنى عنده الكشف عن المعنى الباطن للنص الدينى، وهكذا أصبحت الجماهير تحت وصاية رجال الدين الحرفيين، أو- بالأدق- الأصوليين. ومن هنا يمكن القول إن الأصولية أصبحت حركة جماهيرية، والسؤال هنا: مَن المسؤول عن السماح للأصولية بأن تكون تيارًا جماهيريًا؟!، بل مَن المسؤول عن تكبيل العقل بحيث يصبح مُغيَّبًا؟!، إنهم المثقفون على نحو ما أرى، فماذا فعل المثقفون، أو ما الجرم الذى ارتكبه المثقفون فى حق الجماهير؟، إنهم تركوا رواد التنوير بلا مدافع، إنهم خافوا وهربوا كما خاف وهرب أفلاطون بعد الحكم بالإعدام على سقراط عام 339 ق. م، وعندما عاد إلى أثينا أنشا مدرسة على أبواب مدينة أثينا، وأطلق عليها اسم «الأكاديمية»، وبذلك لم يجرؤ أن ينزل إلى الأسواق ويتفلسف، كما كان يفعل سقراط. هذه الحادثة أطلق عليها مراد وهبة «حادثة بتر فى التاريخ»، أى بتر الجماهير عن الفيلسوف، وبالتالى تصبح الجماهير بلا عقل.

فعل المثقفون فى العالم العربى والإسلامى ما فعله أفلاطون، فتركوا الشيخ على عبدالرازق وحيدًا وهو يقف فى مواجهة السلطة الدينية عام 1925 عندما ألف كتابه «الإسلام وأصول الحكم»، ليدلل على أن «الخلافة» ليست فى الإسلام، كما تركوا طه حسين وحيدًا وهو يقف فى مواجهة السلطة الدينية عام 1926 عندما ألف كتابه «فى الشعر الجاهلى»، ثم تركوه يعدل ويغير فى هذا الكتاب لكى يعيد طبعه على نحو ما أمرت به السلطة الدينية، وتركوا نجيب محفوظ لمحاولة اغتياله بسبب نشر رواية «أولاد حارتنا»، التى اعتبرها أعضاء لجنة نوبل «ظاهرة استثنائية»، فى حين اعتبرتها السلطة الدينية ظاهرة «كفر وزندقة»، وتركوا لويس عوض يواجه مصيره فى مواجهة السلطة الدينية، التى فرضت الوصاية على كتابه «فقه اللغة». ثم تركوا نصر حامد أبوزيد يواجه منفردًا إرهاب السلطة الدينية، مما اضطره إلى الهجرة.

ولكى أزيد الأمر إيضاحًا، أطلب من القارئ النظر والتأمل فيما حدث فى أوروبا فى الستينيات من القرن العشرين عندما ألف الأسقف الإنجليكانى جون روبنسون كتابه الشهير المعنون: «لنكن أمناء لله»، الذى طُبع منه سبع عشرة طبعة من عام 1963 حتى عام 1976، وفى حوار تليفزيونى معه، قال له المذيع: قيل إنك «أسقف ملحد»، فلماذا لا تستقيل؟، وجاء جوابه حاسمًا: أنا لا أستقيل، ولكن أُقال، وحتى الآن لم يُقِلْنى أحد، ومات، ولم يجرؤ أحد على تكفيره.

والسؤال: ما السبب؟، إنهم المثقفون المستنيرون الذين يشكلون تيارًا مستنيرًا يُحدِث تأثيره فى السلطة الدينية.
وهنا أطلب مرة ثانية النظر والتأمل فيما يحدث الآن فى عالمنا العربى الإسلامى من سيل من الفتاوى الخادعة، وسبب هذا السيل من الفتاوى الخادعة مردود إلى ضعف المناعة لدى عقول الجماهير، ومعهم عقول المثقفين، بل إننى أجرؤ على القول بأن نقطة البداية لهذا السيل من الفتاوى الخادعة تعود إلى السبعينيات من القرن الماضى عندما وضع الشيخ متولى الشعراوى حجر الأساس لتغييب العقل، فتم تحريم التعامل مع البنوك لأنها تتعامل بالربا، الأمر الذى أدى إلى نشأة ظاهرة شركات توظيف الأموال التى أيّدها المثقفون وتابعهم الجماهير فى هذا التأييد، فنشأت السوق السوداء، أو بالأدق نشأ الاقتصاد الطفيلى غير الرسمى فى مواجهة الاقتصاد الرسمى. وكانت الغلبة للأول دون الثانى، ومن هنا بدأ تفكك الدولة وتفكك المجتمع، ومع هذا التفكك قل ما شئت عن الفساد بجميع أطيافه وما لازمه من تغييب العقل أو غياب العقل. والسؤال الآن: مَن القادر على إحضار العقل بعد طول غياب؟، إنه المثقف، ولكن أين المثقف؟، إنه هناك.. على حد قول الفنان السياسى الساخر عادل أمام عندما سُئل عن محل إقامته فى مسرحية «شاهد ما شفش حاجة».
نقلا عن المصرى اليوم