د. كمال زاخر

 عندما كانت مقولة «كل الطرق تؤدى إلى روما» ترد على ذهنى، قبلاً، كنت افهمها على أن هناك بدائل عديدة لحل أى مشكلة أو أزمة، يمكننا أن نفاضل بينها ونختار أنسبها، ثم أدركت أنها قبل ذلك تقرير لحقيقة تاريخية على أرض واقع الإمبراطورية الرومانية التى بسطت سيطرتها على جل بقاع العالم القديم، فقد حرصت القيادة السياسية للأمبراطورية على مد الطرق بين العاصمة روما وبين المستعمرات الخاضعة لها فى أربعة أرجاء المسكونة، وكان الغرض الرئيسى تمكين الجيوش الرومانية من الانتقال إلى أى بقعة فى العالم بسرعة، بمعايير وقتها، سواء لإحكام السيطرة أو إخماد حركات التمرد أو التوسع فى بسط النفوذ، وعلى صعيد آخر كانت الطرق هى البنية الأساسية لبناء اقتصاد قوى لتلك الإمبراطورية، عبر انتقال عناصر الإنتاج، المواد الخام والمحاصيل الزراعية والأيدى العاملة ووسائل الإنتاج والمنتجات التامة الصنع فى حركة بينية لا تتوقف بين المقاطعات وبعضها أو بينها وبين حاضرة الإمبراطورية، وعبرها تلاقحت الثقافات ودعمت بقواها الناعمة ترابط الإمبراطورية الرومانية، فى تأكيد على أن التعدد والتنوع ثراء وقوة، وكانت اليونانية اللغة بدقتها وعمقها عاملاً فاعلاً فى تشكيل الذهنية العامة، ومنها انطلقت المدارس الفلسفية والفكرية وما أنتجته من إبداعات فى فضاءات متنوعة مازالت آثارها شاهدة على عظمتها.

 
لم تكن مصر بعيدة عن هذا الحراك بل كانت فى قلب المشهد، فكانت تعد سلة غلال الإمبراطورية، وأحد المراكز الفكرية والثقافية والفلسفية المؤثرة، وكانت الإسكندرية ومدرستها واحدة من منارات التنوير التى تعلم العالم، رغم كون مصر آنئذ واحدة من مستعمرات الإمبراطورية، لكنها استطاعت أن تسهم بقدر فى تشكيل عقل الإمبراطورية، وحين صارت المسيحية واحدة من الأديان المعترف بها بعد مرسوم التسامح الإمبراطورى مع اطلالة القرن الرابع الميلادى، مرسوم ميلانو 313م، تقفز مدرسة الإسكندرية لتصير واحدة من أهم المدارس اللاهوتية آنذاك.
 
تجرى فى النهر مياه كثيرة هادرة فى أغلبها، وتخرج مصر من ربقة مستعمر لتقع فى أسر آخر، ويضربها الانقطاع المعرفى بعنف، وهى تنتقل من لسان إلى آخر، لقرون وأحقاب ممتدة، لكنها تظل فى بؤرة اهتمام القوى العظمى، المتعاقبة، بفعل موقعها الذى يمنح من يضع يده عليها أن يؤمن مساراته الى الشرق الأقصى والجنوب وثرواتهم الطبيعية وأسواقهم.
 
وعبر القرنين القرن التاسع عشر والقرن العشرين وبفعل التقلبات العالمية، وأفول شمس قوى وحلول أخرى وانزواء رجل أوروبا العثمانى المريض الذى جثم على صدر المشرق طويلاً، تشهد مصر تحولات صادمة لبياتها الممتد بفعل الحملة الفرنسية وقدوم محمد على وتكتمل صدمتها الحضارية ببعثاته للغرب، وعبرهما تشهد تقلبات ما بين قمم وقيعان، ترتد فى العقودالأخيرة إلى متاهات التطرف والانكفاء وتعانى مجدداً من انقطاع معرفى وحضارى مع توالى أنظمة لا تملك رؤية سلمتنا إلى دروب استنزفت مواردنا فى مغامرات وطموحات مفارقة للمنطق، وتنتهى الى تحالفات مع قوى ظلامية مفارقة لحركة التاريخ ومرتدة الى ما قبل الدولة، تريف المدينة وتسلفن القرية، وتعلى العرف على القانون، وتقفز القوى الظلامية لتمسك بمقدراتنا وتوجه دفتنا ناحية التطرف وتفكيك الوطن، فإذا بالعشوائية تصير خبز يومنا وتوفر ملاذاً آمناً للفساد والانهيار المجتمعى والسياسى والإقتصادى، وقد تمدد ليطول صنوف الإبداع أدباً وفناً فيسقط معه الذوق العام ولغة الحوار، وتتفاقم الأزمات، حتى تباغتنا ثورة 25 يناير 2011 التى تجمعت فيها كل إرادات الغضب وتخوض مواجهة مُرّة مع الدولة العميقة وتحالفات مصالحها، التى تكاد تبتلعها وتعود بها الى سيرتها الأولى لولا حراك 30 يونيو 2013، الذى استرد ثورته، وراح يبحث عن مخارج حقيقية من نفق طال.
 
لكن مقاومة الخروج إلى النهار لم تتوقف، فالقوى التى ازيحت من المشهد تقاوم بضراوة لتعود مجدداً، وتستدعى تحالفات اقليمية ودولية تدعمها، وثقافة التراخى تقاوم، والفاسدون يقاومون، والذين تشكلت ذهنيتهم فى مناخات العشوائية يقاومون، ومن يدعمون اقتصاد الريع يقاومون، وكذلك من يفسدون اقتصادنا بالعمل خارج القانون يقاومون، وأنصار الأنظمة السابقة يقاومون، ومن يتبنون توجه التنظيم السياسى الأوحد يقاومون، والقوى الاحتكارية تقاوم. والقائمة ممتدة.
 
الخروج من النفق يستوجب العمل على محاور متوازية يدعمها المكاشفة والشفافية والحزم، عبر آليات الإعلام وشبكات التواصل، وتوفير البيئة القانونية التى تحمى مكتسبات الإصلاح، ورد الاعتبار لمفاهيم وقيم العمل، واعادة هيكلة التعليم وربطه باحتياجات سوق العمل، واعادة هيكلة التعليم الفنى الصناعى والزراعى بما يوفر الأيدى العاملة المهنية والمدربة لانطلاق التصنيع، وخلق قنوات للتعاون بينه وبين المصانع والكيانات الانتاجية الكبرى، ومراجعة منظومة الجمارك والرسوم فيما يتعلق بالمواد الخام ومستلزمات الانتاج والآلات باعتبارها العناصر الأساسية فى حساب تكلفة المنتج وقدرته على المنافسة فى الاسواق العالمية، وغير بعيد نحتاج الى دعم العمل الأهلى الاجتماعى ليسترد دوره فى دوائر إنشاء المدارس والمستشفيات وغيرها كما كان فى أربعينيات القرن الماضى وهو ما أسهم فى تكريس السلام الاجتماعى بامتداد عقود.
 
ويكلل هذا بالعمل على بناء الثقة بين مختلف القوى الاجتماعية الوطنية وهو مسئولية الكل، إعلام وتعليم وثقافة وأحزاب، لحساب وطن يستحق.