شخصيات لاتنسى ..

بقلم : سامح جميل

قليل الي حد الندرة أن يحقق سفيرا النجاح الذي حققه فرج ميخائيل موسي .
كان أول سفيرا لمصر في الحبشة . وإستطاع ان يرتقي الي مستوي المستشار الأمين للإمبراطور هيلاسلاسي .
وأن يثير حفيظة السلك الدبلوماسي الأجنبي في العاصمة أديس أبابا ، الي حد أن السفير الأمريكي إحتج علي الحكومة الإثيبوبية ، لأنها خصصت للسفارة المصرية ، مكانا أوسع من السفارة الأمريكية .. القصة الكاملة يرويها إبن السفير في كتاب نشر بالفرنسية تحت عنوان « مصري ودبلوماسي » .
في بداية يرصد المؤلف قصة كفاح والده الذي ولد لعائلة بسيطة ، واستطاع ان يكمل تعليمه حتي حصل علي درجة الدكتوراه في القانون الدولي عام 1923 من جامعة ليدز بلندن .
 
وبعد ان عمل فترة بالمحاماة ثم استاذا للقانون وقد التحق بالعمل الدبلوماسي إثر صدور القرار الملكي في 18 سبتمبر عام 1923 بافتتاح أربع بعثات دبلوماسية في لندن وباريس وروما وواشنطن، وتم إنشاء وزارة الخارجية بعد ذلك بهيئتها الحديثة بمرسوم آخر في 27 سبتمبر عام 1923.وعين فرج ميخائيل موسي ملحقا بواشنطن .
 
قابل موسي الحب أخيرا بعد أن قضي أربعة أعوام في واشنطن ، جوليا وكانت من أصل مزدوج ألماني وأيرلندي قبل أن تستقر عائلتها في أمريكا. وكل محطات موسي العملية مثيرة للاهتمام، ولكن في هذا العرض سنركز علي الفترة التي قضاها في أديس ابابا كأول قنصل مصري بالعاصمة الإثيوبية، لأنها من ناحية أهم فترة في حياته المهنية لكونه من اسس العلاقات الدبلوماسية بين مصر وإثيوبيا .
 
ولأنها تعكس مدي أهمية إثيوبيا بالنسبة لمصر والعكس صحيح.
 
الوثيقة الرسمية العربية التي ترشح فرج ميخائيل موسي قنصلا في أديس ابابا، تنص علي «أن يكون مسئولا عن كل أراضي الحبشة».
 
وهو الاسم القديم لإثيوبيا.
 
وكانت والدته الأمريكية تجهل وجود مثل هذا البلد علي خريطة العالم .
 
وفي الواقع عدد قليل من الناس في ذلك الوقت هو من كان لديه معلومات عن هذه الامبراطورية التي ظلت لوقت طويل خارج نطاق الزمن ولم تذكرها الصحافة في أي من أخبارها.
 
ومن المفارقات الغريبة أن إثيوبيا المستقلة أصبحت عضوة في عصبة الأمم (الأمم المتحدة بعد ذلك)، في عام 1924، بينما مصر لم تلتحق بعصبة الأمم سوي في عام 1937.
 
وبالرغم من ذلك كان المنصب الجديد بالنسبة لوالده بعد واشنطن وبرلين مثل الذهاب إلي القمر. وقضي قنصل المستقبل وقته بين مكتبات القاهرة باحثا عن كتب بها معلومات عن الحبشة ومستغرقا في الوثائق الموجودة في أرشيف وزارة الخارجية المصرية. كان والده في ذلك الوقت عمره 36 عاما، ووزارة الخارجية عمرها 7 سنوات. وكانت الوظائف العليا بالوزارة حكرا علي الأشخاص القريبين من القصر.
 
واشترك حافظ عفيفي وزير الخارجية في ذلك الوقت في التوقيع مع الملك فؤاد علي وثيقة ترشيح أول قنصل مصري في إثيوبيا وفي رأيي هو من أفضل وزراء الخارجية علي مر التاريخ.
 
ولقد أكد الوزير للقنصل الجديد الأهمية المعقودة علي هذه القنصلية الحديثة في أديس ابابا، وأن إثيوبيا في غاية الأهمية بالنسبة للمصالح الاستراتيجية المصرية ، أكثر من دول أوروبية كثيرة يفضل أي دبلوماسي العمل بها عن العمل في إثيوبيا.
 
وبالتالي أصبح مفهوما أن قنصلية أديس ابابا عليها أن تلعب دورا سياسيا قبل أي شيء آخر. فعدد الجالية المصرية كان قليلا للغاية لا يتعدي 50 شخصا وبذلك ينتفي دور القنصلية التقليدي وهو خدمة مواطن الدولة في الخارج. وكذلك العكس صحيح، حيث كان عدد الزوار الاثيوبيين إلي القاهرة نادرا جدا.
 
ولكن المسألة الرئيسية في انشاء قنصلية في أديس ابابا كانت نهر النيل شريان الحياة بالنسبة للمصريين، وإثيوبيا من دول المنبع ويوجد بها أحد المصادر الرئيسية للنهر.
 
إلي جانب نهر النيل كانت المسألة القبطية هي السبب الثاني لافتتاح القنصلية، حيث يشترك أقباط مصر وأقباط إثيوبيا في المذهب نفسه، وهم أغلبية في إثيوبيا والمسيحية هي الدين الرسمي للدولة. وكان مطران إثيوبيا لقرون طويلة مصريا.
 
بمناسبة هذا الترشيح خصصت «الأهرام» أكبر جريدة مصرية يومية في الشرق الأوسط في عددها يوم 12 يناير عام 1929 نصف عمود عن حياة القنصل الجديد وسيرته الذاتية ونشرت صورته.
 
وهذا الأمر يدل علي الأهمية الكبري التي يعقدها المسئولون علي هذا المنصب. والاستعداد للرحيل لم يكن سهلا، لأن والدتي قابلت الكثير من الاحباطات كما دونت في مذكراتها، فهي التي تعشق الشراء ومشاهدة نوافذ العرض، كان عليها أن تشحن كل شيء معها من مصر.
 
أما والده فحرص علي حمل لوحة كبيرة للملك فؤاد وعلم مصر.
 
وبالطبع حدث ولا حرج عن العتاد الذي تم حمله من أجل تأثيث مكتب القنصل في أديس ابابا.
 
تحدد يوم الرحيل في شهر فبراير وكانت الخطوة الأولي ركوب القطار حتي بورسعيد، ثم البحر لمدة 5 أيام حتي الوصول إلي جيبوتي المستعمرة الفرنسية في ذلك الوقت، حيث انطلق من هناك القطار الوحيد الذي يتجه إلي أديس ابابا.
 
وهنا بدأت الرحلة تزداد صعوبة خاصة بالنسبة لوالدتي التي كانت في شهرها السادس.
 
وقطع القطار مسافة 800 كيلومتر في ثلاثة أيام كانت خلالها البعثة المصرية إقامتها محددة في عربة ضيقة يفتح بابها مباشرة علي الطريق. وبعد رحلة شاقة وصلنا إلي العاصمة الإثيوبية التي ترتفع أكثر من ألفي كيلومتر عن سطح البحر.
 
وكان في استقبالهم عدد من الاشخاص يمثلون وزارة الخارجية الإثيوبية. و» أديس ابابا» تعني بالأمهرية الوردة الجديدة وكان عمرها بالكاد أربعين عاما وعدد السكان 100 ألف نسمة، من بينهم ستة آلاف أجنبي. وكانت المدينة مازالت تحتفظ بمظهر بدائي ولا وجود للكهرباء.
 
في البداية استقرت العائلة في بيت يشبه الشاليهات، ثم وضع العرش الإثيوبي تحت تصرف والدى بيتا حديثا مكونا من 11 غرفة ومزودا بملعب تنس. وكان يمثل مقر القنصلية والإقامة في الوقت نفسه، تحيط به قطعة أرض واسعة بها حظيرة دواجن وبرج حمام. في هذا المنزل تأسست عائلة موسي المكونة من أبي وأمي وأخي الأكبر ميشيل الذي ولد في برلين، وأنا ترتيبي الثاني ولدت في أديس ابابا في مايو 1929، ثم أختي هيلين ولدت في مارس 1931. كانت طفولتنا في أديس ابابا سعيدة للغاية.
 
استقبل الملك تافاري ( الإمبراطور هيلاسلاسي فيما بعد ) والدي في اسرع وقت وهو ما يدل علي الأهمية التي يعقدها علي العلاقات مع مصر ، فعادة لا يستقبل حاكم البلاد القناصل المعينة ولكن تقدم أوراق الاعتماد .
 
هذا الرجل الرقيق المظهر سيعرفه العالم كله باسم الامبراطور هيلا سلاسي (قوة الثالوث)، وهو الاسم الذي اكتسبه بعد تنصيبه.
 
وكان حفل التنصيب اسطوريا واستغرق الاستعداد له سبعة أشهر! وسيكون لنا حديث مطول عن هذا الحفل.
 
كتب كثيرون عن هيلا سلاسي، ولكن حين تلقي به والدي في مارس عام 1929 كان أبعد ما يكون عن الرمز الذي تحول له بعد القائه خطابه التاريخي في عصبة الأمم في جنيف في شهر يونيو عام 1936 ، معلنا هجوم قوات موسوليني علي بلاده خلال الحرب العالمية الثانية.
 
ومنذ ذلك اليوم أطلق عليه لقب «الرجل الصغير» حبا وتعاطفا مع الامبراطور الذي كان يمتلك وجها رفيعا ونظرة عميقة، صغير الحجم ولكن كبير بذكائه ودهائه.
 
وقد وصفه أعضاء البعثات الدبلوماسية الأجانب قبل ذلك بالعديد من الأوصاف مثل الذكاء والدبلوماسية والنبل والرقة ونظارات حزينة. وأن من يراه لا يخطئ من سلوكه أنه من سلالة ملكية عريقة.
 
اختلف البعض حول مدي قوة شخصيته، ولكن اتفق الجميع علي أنه شخص دؤوب ، يستيقظ الفجر ويتابع كل صغيرة وكبيرة بنفسه. وكان أعضاء البعثات الأجنبية يدركون تماما أنه صاحب القرار الأول والأخير والجميع يسعي للتقرب منه.
 
الصداقة بين عائلتي وعائلة الامبراطور نشأت سريعا صداقة بين والدي والإمبراطور وشملت معها زوجته الإمبراطورة منين ووالدتي التي لعبت جنسيتها دورا كبيرا في هذا التقارب. كونها من أصل أمريكي وليس لدولة استعمارية مثل فرنسا أو بريطانيا أو إيطاليا.
 
ودونت والدتي في مذكراتها أن الثنائي الامبراطوري وجها لها هي ووالدي الكثير من الدعوات الخاصة لتناول الغذاء أو العشاء في القصر.
 
وعند ولادة أختي الصغري هيلين في مارس عام 1931 عرضت الامبراطورة بشكل تلقائي أن تكون والدتها الروحية أثناء تعميدها.
 
بينما أنا الذي ولدت في مايو عام 1929 أي بعد وقت قصير من وصولنا إلي أديس أبابا فقد حظيت بأب روحي مرموق وهو رئيس الكهنة في الكنيسة الإثيوبية وهو ثاني شخص في تسلسل السلطة الاثيوبي بعد الامبراطور. ومنح أبي الروحي والدي هدية تعميدي عدة سبائك صغيرة من الذهب ساعدت والدي علي شراء سيارة صغيرة تغنيه عن استعمال سيارة القنصلية الرسمية. مع الوضع في الاعتبار أن السيارات كانت شيئا نادرا في إثيوبيا في ذلك
الوقت والإحصاء الرسمي للسيارات عام 1935 أظهر أن هناك 336 سيارة في أنحاء البلاد مقارنة بـ30 ألف سيارة في مصر لنفس الفترة الزمنية.
 
واستمرت الصداقة مع عائلة الامبراطور حتي بعد وفاة والدي عام 1947، وجهت الامبراطورة دعوة لوالدتي وأختي لقضاء عدة اسابيع في إثيوبيا وهو الأمر الذي أثر فيهما كثيرا. واستقرت هيلين بعد ذلك في أديس أبابا عام 1957 والتحقت للعمل في إدارة التدريس ومنحتها الامبراطورة والدتها الروحية قطعة ارض أنشأت عليها منزلا.
 
وتوفيت الامبراطورة منين عام 1962 تاركة ذكري طيبة لكل من عرفها، سيدة جميلة جديرة بالاحترام، رقيقة لكن حازمة، ولها نشاط اجتماعي قوي. رغم اختلاف المظهر بين الامبراطور ووالدي إلا أنه كان يجمع بينهما الكثير مثل العقيدة الدينية والانفتاح علي العالم الحديث، والانتماء لنفس الجيل، مواليد نفس العام عام 1892 بل وينتمون لنفس البرج وهو برج الأسد يفصل بينهما ثلاثة أسابيع الامبراطور من مواليد 23 يوليو ووالدي 16 أغسطس. وضع الامبراطور ثقته في والدي وهو شيء نادر بالنسبة له، حيث علمته الحياة عدم الثقة في أحد، وكان والدي جديرا بهذه الثقة ومستمعا جيدا، وتمكنهما من الحديث مباشرة بالفرنسية دون الاستعانة بمترجم قربت المسافات ورسخت عوامل الثقة. ففي قصر الامبراطور كما هو الحال في أي بلاط ملكي كان للحيطان آذان. وقد استقبلني الامبراطور انا شخصيا عام 1974 قبل عامين من تنحيه خلال مهمة في أديس ابابا، ورغم مرور 40 عاما علي مهمة والدي إلا أنه استقبلني بحفاوة متذكرني دائما كما عرفني طفلا وابن صديق مخلص له.
 
في ذلك الوقت كان التمثيل الدبلوماسي محدودا في أديس ابابا لم يكن هناك سوي مفوضيات تمثل عددا محدودا من الدول وهي بريطانيا العظمي، وإيطاليا والولايات المتحدة، وبلجيكا، وفرنسا وألمانيا.
 
بينما اليونان ومصر تمثلهما قنصليتان. كان عالم صغير مكون من عشرين إلي خمسة وعشرين دبلوماسيا، حيث يعرف الجميع بعضهم ويتبادلون الزيارات في مختلف المناسبات وينظمون المسابقات الرياضية.
 
وكان الدبلوماسيون الغربيون يكتبون تقارير سنوية إلي حكوماتهم عن أعضاء البعثات الأخري، وكان انطباعهم جيدا في معظم الأحيان عن ابي.
 
إلا أن بعض التقارير التي حصلنا علي نسخة منها مثل تقرير رئيس البعثة الإيطالية تظهر أن البعض كان لديه تحفظات علي شخصية ابي وعمله.
 
ويبدو أن علاقة الصداقة التي نشأت بين الامبراطور وزوجته من ناحية وبين ابي وأمي قد اشعلت غيرة البعض.
 
فالوزير الأمريكي مثلا اعترض علي أن مساحة مقر إقامته أصغر من مساحة مقر إقامة القنصل المصري. وكانت كل المظاهر تدل علي أن العلاقات السياسية المصرية ـ الإثيوبية لها طبيعة خاصة، وبعد تولي أبي بفترة قصيرة تلقي دعوة رسمية لحضور مأدبة غذاء بالقصر الامبراطوري.
 
وكان الامبراطور يعتبر فرج ميخائيل موسي الممثل الشرعي لمصر في إثيوبيا. ويعد أقباط مصر اقدم من اعتنق المسيحية في العالم، واتنشرت في أثيوبيا في القرن الرابع علي يد مبشرين مصريين ولمدة تقرب من 16 قرنا كان بابا الإسكندرية يرسم مطرانا واحدا للحبشة مدي الحياة.
 
ورحب أباطرة الحبشة بهذا الإجراء علي مر العصور ولم يضايقهم كون المطران مصريا ، لأنهم كانوا يعتبرون الكنيسة القبطية المصرية حليفا قويا لهم تعضد ملكهم ونفوذهم . والكنيسة الأورثوذكسية الحبشية (الأثيوبية بعد ذلك)، ازدادت قوة ونفوذا علي مر القرون حتي امتلكت ثلث أراضي البلاد .
 
وهنا يجدر الإشارة إلي أنه عند تعيين فرج ميخائيل موسي قنصلا في أديس ابابا عام 1929 كان منصب المطران الإثيوبي شاغرا منذ عامين، حتي قررت الحكومة المصرية التدخل لحل هذا الأمر.
 
وقام وزير الخارجية في ذلك الوقت حافظ عفيفي بزيارة البابا في مقره بالقاهرة بصحبة والدي، حيث أوضحوا له الأهمية القصوي التي توليها الحكومة المصرية لهذا الأمر وضرورة ترسيم مطران جديدا لإثيوبيا وحل المشاكل المعلقة بين أقباط مصر وأقباط الحبشة.
 
وأتت هذه الزيارة ثمارها، حيث بدأت بعدها مفاوضات بين البابا ومبعوث هيلا سيلاسي انتهت إلي اتفاق بأن المطران سيكون مصريا كالعادة، ولكن لأول مرة في التاريخ سيرسم معه خمسة مطارنة إثيوبيين ليتولوا المسئولية في أنحاء البلاد.
 
ووصل وفد المطارنة الإثيوبيين برئاسة أحد الوزراء إلي القاهرة يوم 20 مايو عام 1929 ليتم ترسيمهم في مصر وعادوا يوم 28 يونيو إلي إثيوبيا يرأسهم الاب كيرلس المطران المصري الجديد.
 
وتشهد الوثائق أن القنصل الجديد لعب دورا كبيرا في هذا الاتفاق. في نهاية شهر ديسمبر عام 1929 وقع حدث مهم للغاية، حيث توجه البطريرك يوأنس التاسع عشر بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية الـ113 إلي أديس أبابا في أول زيارة من نوعها خلال 16 قرنا هي عمر العلاقات بين الكنيسة المصرية والكنيسة الإثيوبية، وإذا كان هذا الأمر غريبا إلا أنه الواقع وأحدثت الزيارة أثرا طيبا للغاية لتوطيد العلاقات بين الكنيستين وبالتبعية بين الدولتين. والمطران الجديد لم يكن يتحدث سوي العربية لذلك كان علي القنصل الجديد أن يلعب دورا مهما للتواصل مع باقي مساعديه الإثيوبيين وكذلك الامبراطور هيلا سيلاسي. وبدأت المشكلات تظهر حين بدأ الامبراطور الجديد إصلاحاته وكانت التقاليد تقتضي حصوله علي مباركة المطران وهو إجراء لا يمكن تفاديه. ولكي تتعقد الأمور أكثر لم يكن من الممكن أن يتواصل الاثنان إلا من خلال مترجم.
 
وعندما كانا يصلان إلي طريق مسدود سواء بسبب سوء الترجمة أو غيرها من الأمور كان الإمبراطور يلجأ إلي القنصل المصري لحل المشكلة، وهنا كان يتطلب الأمر الكثير من الدبلوماسية والحذر للحفاظ علي العلاقات الطيبة بين البلدين. وكان أبي يبذل قصاري جهده لحل الخلافات وكانت كثيرة فالأب كيرلس معروف باتجاهاته المحافظة، ولكنه لم يكن الوحيد الذي يعرقل اصلاحات الامبراطور كان هناك الكثير من المحافظين الذين يضعون العقبات في طريق الاصلاحات. ويخصص الكاتب فصلا كاملا للحديث عن إحتفالات تتويج الأمبراطور .
 
يقول : لم يكن هناك في ذلك الوقت طائرات لأديس ابابا، وكانت الطريقة الوحيدة للوصول هو القطار الذي يتحرك من جيبوتي إلي العاصمة الإثيوبية، وكل أصحاب السمو او الرؤساء وكبار الشخصيات المدعوة للحفل الامبراطوري من الولايات المتحدة واليابان وأوروبا ومصر وتركيا استقلت هذا القطار. ولم يصل بالطبع جميع المدعوين في نفس الوقت ولكن تباعا بين 18 و30 أكتوبر عام 1930 وبدأ حفل التتويج في 2 نوفمبر واستمرت المهرجانات لمدة أسبوع. وتم تنظيم برامج ترفيهية للمدعوين لقضاء الوقت حتي موعد الاحتفال، بين رحلات لصيد البط وحفلات راقصة ومآدب. وكان علي القنصل المصري استقبال والإشراف علي إقامة الوفد المصري الذي حضر الاحتفال وكان يتكون من ستة من المقربين للقصر وعلي رأسهم نسيم باشا رئيس الوزراء.
 
واستغرق احتفال الكنيسة بالتتويج ست ساعات، وبدأ في الصباح الباكر وكان الامبراطور وزوجته قد قضيا ليلتهما في الصلاة بكاتدرائية سان جورج. وقام الاب كيرلس بدوره التاريخي في تتويج الإمبراطور هيلا سيلاسي وزوجته الإمبراطورة منين وتقلدا تاجين من الذهب الخالص وعبقت رائحة البخور المكان وصاحب الاحتفال الغناء والصلوات. وتصف الوثائق الاحتفال بأنه كان مبهجا وفريدا مع وجود هذا الحشد بملابسه المختلفة والمتنوعة بين الزي الحبشي الوطني والأزياء الأوروبية والأزياء العسكرية. وبعد انتهاء الاحتفال بالكاتدرائية توجه الامبراطوران المتوجان حديثا إلي القصر، حيث كان ينتشر بطول الطريق العساكر بزيهم الرسمي وجمهور قدر بـ200 ألف شخص. الهدايا والأوسمة تلعب دورا مهما في الحياة الدبلوماسية، وكل البعثات الموجودة في أديس ابابا بدأت في التفكير في الهدايا المناسبة للإمبراطور الجديد قبل فترة طويلة من الاحتفال.
 
وتذكر الوثائق أن فرنسا فكرت في إهداء الامبراطور قطعة حربية حديثة، بينما الولايات المتحدة أهدت الامبراطور ثلاجة كهربائية الأولي من نوعها وأحدث ما انتجت المصانع الامريكية إلي جانب العديد من الهدايا المتنوعة من بينها آلة كاتبة لونها أحمر مزينة بشعار الإمبراطورية، وآلة راديو وفونوجراف في الوقت نفسه و 500 شتلة من ورود النرجس من فصيلة جديدة انتجتها وزارة الزراعة الأمريكية. أما هدية الملك فؤاد كما روي أحد أعضاء الوفد المصري فكانت مكونة من صالون كامل علي الطراز العربي.
 
والإمبراطور من جهته منح أعضاء الوفود الأوسمة، كما أهدي الحضور ميداليات تذكارية معدنية ذهبية وفضية وبرونزية وفقا لمقام كل شخص، الوجه يحمل صورة الامبراطور ومن الخلف آية من الإنجيل باللغة الجعزية لغة الطقوس الدينية في الكنيسة الإثيوبية.
 
وفي بعض الحالات تم منح الأوسمة كما في حالة القنصل المصري الذي منح وسام من الطبقة الثانية مما يعد تكريما كبيرا.
 
كما تم منحه بعد عدة أعوام وساما آخر راقيا يذكر الكاتب انه خلال بحثه في بعض الوثائق التي تخص المعاهدات الدولية التي تم ابرامها في الفترة التي تقع بين أعوام ( 1929-1935)، عثر علي وثيقة وقعها والده للتبادل التجاري مع إثيوبيا وقعت في شهر ديسمبر عام 1930 وتتعهد الدولتان أن تمنح كل منهما الأخري معاملة «الدولة الأولي بالرعاية».
 
معاهدة خاصة بتطوير التبادل التجاري بين البلدين خاصة الحاصلات الزراعية، حيث تصدر مصر إلي إثيوبيا خيوط الحرير والصودا الكاوية والبصل وتستورد من إثيوبيا البن الذي تشتهر به.
 
وكان الامبراطور واسع الأفق ولكي يفتح المجال امام التجارة الإثيوبية كان يستخدم العملة المحلية «التاليه» في ذلك الوقت والجنيه الاسترليني والدولار الأمريكي.
 
وكان هناك أيضا أوراق مالية إثيوبية تصدر عن بنك الحبشة وهو بنك خاص تأسس عام 1905 وكانت ملكيته تتبع البنك الوطني المصري ( BNE). وعندما أراد الامبراطور شراء هذا البنك ليكون تحت سيطرته حيث كان حلمه منذ فترة طويلة أن يكون هناك بنك وطني إثيوبي كان عليه أن يتفاوض مباشرة مع البنك الوطني المصري.
 
وفي واقع الامر هذا البنك كانت تملكه شركة بريطانية خاصة، ومسجل في القاهرة اي أن الحكومة المصرية لم تكن طرفا في المفاوضات. وتم ابرام الصفقة عام 1931. ولكن حين أراد اعدام العملات القديمة لإصدار عملات جديدة تتبع البنك الوطني الأثيوبي كان علي السلطات المصرية أن تشرف علي هذه العملية.
 
ومثل الحكومة المصرية القنصل المصري الذي وقع علي الأوراق الرسمية التي تفيد اعدام الأوراق المالية القديمة تماما.
 
وتعهد والدي مشاريع التعليم بجدية وإخلاص شديدين لإحساسه بأهمية التعليم حيث تعلم هو بشق الانفس لكونه من اصل متواضع، وكانت مصر قد استقبلت عددا محدودا من الطلبة الإثيوبيين علي نفقتهم الخاصة .
 
وعثرت علي صورة بين مقتنيات والدي يعود تاريخها لعام 1930 وتجمعه مع 60 طالبا إثيوبيا من المبعوثين إلي مصر دعاهم والدي إلي حفل شاي بحديقة القنصلية، وحضر الحفل وزير التعليم العام سهل سدالو، والمدرسين المصريين العاملين منذ سنوات طويلة بأول مدرسة إثيوبية عامة أسسها الامبراطور مينيك الثاني عام 1908 وتحمل اسمه.
 
ولكن هذه البعثة التي نظمها البطريرك المصري وكانت فكرته مع الحكومة الإثيوبية فشلت فشلا ذريعا، حيث اتي الطلبة، إلي مصر وهم يجهلون اللغة العربية وتم توزيعهم علي المدارس الإنجليزية والفرنسية في القاهرة والإسكندرية ولم يتم الاعداد جيدا لهذه البعثة واتي طلبة بملابسهم الخفيفة التي اعتادوا ارتدائها في وطنهم فلم يتحملوا برد الشتاء وعادوا إلي إثيوبيا محملين بالذكريات السيئة.
 
وأيقن الجميع انه لن يتم تحقيق النتائج المرجوة دون تدخل الحكومة المصرية، واقترح القنصل المصري أن توفر الحكومة في القاهرة مناهج التعليم والكتب للطلبة الذين يدرسون اللغة العربية في مدرسة مينيليك الثاني، وان يتم ارسال المدرسين المصريين إلي اديس ابابا بدلا من ارسال طلبة صغار بلا خبرة. واستمعت الحكومة المصرية لنصائحه، وأصبح القنصل شخصية محبوبة بين الشعب الإثيوبي لدرجة هتف فيها الطلبة « تحيا موسي» خلال جولة له بالمدارس مع الامبراطور وذلك كما شهد حبيب شكري احد مساعدي موسي.
 
وبدأ نظام التعليم الحديث الذي استجابت له عقول الطلبة الإثيوبيين المتعطشة للعلم. ويروي الكاتب واقعة حدثت بعد 30 عاما اي عام 1960، كانت حفيدة الامبراطور الجميلة هيرو دستا ترافقه في رحلة إلي جنيف وكان الكاتب عضوا بالبعثة الدبلوماسية هناك وطلبت منه خدمة صغيرة وهي أن يساعدها في الحصول علي كتاب لم تجرؤ علي طلبه من أحد وهو « خطاب عن الاستعمار» للشاعر الشيوعي ايميه سيزار الذي تعود جذوره إلي جزر المارتينيك.
 
ويدلل بهذه الواقعة علي أن العقول الإثيوبية تفتحت وتجاوزت الآفاق بسبب اصلاح النظام التعليمي. توطدت العلاقات بشدة بين مصر وإثيوبيا بعد افتتاح القنصلية المصرية، وتولي والدي مسئولية ترتيب زيارة رسمية لولي العهد اسفا ووسن إلي القاهرة عام 1931، وكان عمره 16 عاما وصاحبه عدد من كبار المسئولين المقربين من الامبراطور بالإضافة إلي القنصل المصري.
 
حيث تم استقبالهم استقبالا رسميا في بورسعيد، واستقلوا منها القطار لأداء الحج في القدس. وبدأت الزيارة الرسمية بعد عودة ولي العهد من القدس واستقبله الملك فؤاد بالقصر، ثم أقام البابا حفل استقبال علي شرف ولي العهد. واحتفت الصحافة المصرية بالزيارة ونظمت عدة جولات لولي العهد لتفقد المستشفيات والمدارس والمصانع، ثم توجت الزيارة بدعوته لمشاهدة أحد الأفلام في سينما رمسيس. وخلال هذه الزيارة أهدت إثيوبيا لمصر شبلين تم ايداعهما بحديقة الحيوان، وهو تقليد إثيوبي، حيث يمثل ملك الغابة القوة والسلطة...!!