قبل عقود غنى الشيخ إمام عيسى من كلمات أحمد فؤاد نجم: «يعيش المثقف على مقهى ريش، محفلط مزفلط كتير الكلام، عديم الممارسة عدو الزحام، بكام كلمة فاضية وكام اصطلاح، يفبرك حلول المسائل قوام»، ساخراً من بعض مدعي الثقافة الذين لا يفعلون شيئاً سوى الجلوس على مقهى ريش والتنظير لكل مشاكل الحياة وتقديم حلول سهلة وفورية، وهي الفئة نفسها التي هاجمها الشاعر نجيب سرور في ديوانه الشهير «بروتوكولات حكماء ريش» وأيضاً الكاتب الراحل محمود السعدني في بعض مقالاته وكتابه «مسافر على الرصيف».

وهذا «التصور» عن هذه النوعية من «المثقفين» تم تقديمه في السينما بشكل كوميدي في عدد كبير من الأفلام، مثل الشخصية التي قدمها محيي إسماعيل في فيلم «خلي بالك من زوزو»، و«الفنان عيسوي البوهيمي الذي يفعل ما يحلو له» فلا يعمل ولا يستحم كما قدمه الفنان أحمد راتب في فيلم «يا رب ولد»، ثم مروراً بشخصيات فيلم «فوزية البرجوازية»، وعدد كبير من الكاركترات التي قدمها عادل إمام ويوسف معاطي في أفلامهما، فرأينا الأسرة اليسارية التي «خُلِقت لتعترض كما قال مكسيم جوركي» في فيلم «السفارة في العمارة» والرفيقة الدادة أم عطيات الشغالة والشاب الذي لا يستحم، ويقرأ «مدينة البهائم»، أو الذي يخطف زجاجة الخمر من الندوة السياسية ويجري، كما قدما شخصيات أخرى في فيلم «مرجان أحمد مرجان»، عندما ذهب لأحد مقاهي المثقفين لشراء قصيدة «الحلزونة»، وهي بالمناسبة اسم لقصيدة رائعة للشاعر الراحل فؤاد حداد.

قدمت هذه الأفلام شخصية «مثقف وسط البلد» بصورة كاريكاتورية يرى البعض أن فيها تجنيا وغير مطابقة للواقع، لكن إذا وضعنا هذه التصور بجوار ما كتبه نجم ونجيب سرور ومحمود السعدني، وسليمان فياض في كتابه «كتاب النميمة»، سنعرف أن البون ليس شاسعاً، كما يعرف رواد بارات ومقاهي وسط البلد أن هناك ظلالاً لهذه الشخصية في الحقيقة، من المثقف الذي يحمل كتباً طوال الوقت لا يقرأها إلى المثقف الذي لا يفارق المقهى ولا يكف عن إطلاق النظريات حول الذين يتآمرون عليه، إلى المثقف الذي لا يستحم لأسبابه الخاصة أو العامة، أو المثقف الذي يعلن إلحاده حتى يعتبره الآخرون مثقفاً، إلى المثقف الذي كتب قصيدة واحدة طوال حياته ويعيش على ذكراها في المقاهي، إلى المثقف الذي يتحدث طوال الوقت عن الحرية واحترام الآخر وهو لا يطبقهما في حياته.

وأفضل أن أستخدم مصطلح «كائنات وسط البلد» بدلاً من «مثقفي وسط البلد»، لأن هناك فرقا كبيرا بينهما، لأن «كائن» وسط البلد ليس بالضرورة أن يكون مثقفاً، بل هو يتحول إلى مثقف لأنه أصبح من «كائنات» وسط البلد، وليس بالضرورة أن يكون شاعراً أو قاصاً أو راوياً، بل يمكن أن يقضي عمره كله على مقاهي وسط البلد يتنقل من أتيليه القاهرة إلى الجريون إلى إستوريل إلى النادي اليوناني إلى زهرة البستان دون أن تعرف ماذا يفعل أو يعمل بالضبط، قد يتنقل بين الأحزاب التي عفا عليها الزمن وتراجع رؤساؤها عن مبادئهم ـ أو تخلوا عنها أمام إغراءات الرأسمالية المستبدة ـ وقد يلتحق بإحدى الجمعيات التي تناصر المرأة، أو المنظمات الحقوقية، أو إحدى الصحف التي تصدر من تحت بئر السلم، ولا بد أن يحتفظ بكتب ماركس ولينين ـ دون أن يقرأها ـ ويضع الكوفية الفلسطينية، ويكره أم كلثوم ويحب فيروز، ويطيل شعره، ويردد أبياتاً معينة من قصائد نيرودا وأمل دنقل ولوركا، ويرتدي تي شيرت عليه صورة جيفارا أو كلمة «لا»، ويدخن البايب، ويردد في حواراته «مصطلحات كبيرة» وأكليشيهات يكررها في كل جملة، أو مثلما قال نجيب سرور «قل (فى الواقع).. واصمت لحظة! قل (لا شك) واصمت لحظة!. ثم مقدمة محفوظة من فذلكة المنهج حسب الموجة والتيار» فبهذا يتحول إلى «مثقف عميق».

وغني عن الذكر أننا هنا نتحدث عن «شكل» تقليدي لكائن وسط البلد، من السهل أن تعرفه بمجرد أن تراه في أي مقهى سترتاده في محيط شارع طلعت حرب وباب اللوق، لكن هذا الشكل، لن تجد ـ في الغالب ـ خلفه أي «جوهر» أو «مضمون»، فقد فعل كل ما يجعله يبدو مثقفاً مثل غيره من المثقفين، لكنه لم يتجاوز ذلك ليقدم شيئاً جديداً، فعل ما يجعله يحصل على «مكتسبات» و«جوائز الدور» دون أن يهتم بالاشتغال على ذاته وتطويره وأن يتحول إلى مثقف حقيقي له دور مهم ومطلوب.

لم تختف الشخصية التي غنى لها الشيخ إمام مع مرور الزمن، بل زاد وجودها، وتأصل في منطقة وسط البلد، ربما مع اتساع رقعة المقاهي في منطقة البورصة وشامبليون بعد غروب شمس «ريش»، وتحوّل السياسة والثقافة والصحافة إلى «حِرفة» في مرحلة ما بعد يناير 2011 بعد أن كانت «دوراً»، وفي ظني أن الهاشتاج الذي كان الشغل الشاغل لرواد مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأيام الماضية، عن #وسط_البلد رصد إلى حد كبير تحولات وتطور «كائنات وسط البلد»، لدرجة أنه أصبح لها قاموس ومفردات خاصة، ورغم أن بعض التغريدات اتسمت بالمبالغة والسخرية، إلا أن معظمها كان حقيقياً تماماً.

وبحسب مفردات هذا القاموس، «ففي أي مكان دمك خفيف في وسط البلد إنت مبهج»، و«في أي حتة اسمها شكراً، لكن لو في وسط البلد اسمها ممتن حد السماء،» و«ممكن نعمل غلط في أي حتة، لكن في وسط البلد هنبقى بنرتكب حماقات»، و«في أي حتة اسمه موظف، لكن في وسط البلد اسمه عبد في المنظومة الرأسمالية المتحجرة»، و«إنت متضايق عادي في أي حتة، إنما لو دخلت وسط البلد هيبقى شكلك منطفئ»، و«في أي حتة اسمه مترجم، لكن في وسط البلد: فارس الظِّل وجسر بين الثقافات»، و«ممكن تبقى إنسان فاشل لكن في وسط البلد هتبقى إنسان زاهد ذو حظ عاثر»، و«بره اسمها تعبان في شغلك، لكن في وسط البلد اسمها: روحك بتتآكل»، و«في أي مكان اسمها باشرب قهوة، إنما في وسط البلد باحتسي القهوة»، و«لما تتعور في إيدك بيبقي اسمها تعويرة عادي، في وسط البلد اسمها كاتنج لإذابة هموم الحياة»، و«ممكن تبقى صاحب جدع، لكن في وسط البلد هتبقى رفيق درب»، و«ممكن تكون إنسان عادي في أي مكان، بس لما بتنزل وسط البلد بتبقى اللامنتمي»، و«ممكن يكون لك أصدقاء لكن في وسط البلد اسمهم دواير آمنة»، و«ممكن صاحبك يبيعك في أي حتة لكن في وسط البلد اسمها خذلك»، و«لما مبتلاقيش شغل اسمها عاطل، إنما في وسط البلد هيكون اسمها إنك رافض تكون ترس في ماكينة الرأسمالية المتوحشة»، و«في العزاء بتقول البقاء لله، لكن في وسط البلد اسمها ربنا يطبطب على روحك»، و«في أي مكان اسمها خناقة، في وسط البلد اسمها مشهد عبثي».

قصدت أن أذكر كل هذه الاقتباسات من تغريدات على تويتر وفيس بوك، إذ إن كلا منها يكشف جانباً مهماً في سبب السخرية من مجتمع وكائنات وسط البلد، التي لا تكتفي بخلق لغة موازية تخصها، وإنما تستخدم اللغة ذاتها للهرب من مأساتها وتزييف الواقع أحياناً، كما تكشف أيضاً ابتعاد بعض التيارات السياسية المستوطنة في وسط البلد ـ لا سيما اليسار ـ عن الشارع وتعاليها عليه، كما تكشف أن كائن وسط البلد يعيش على الشعارات والخطب الزاعقة الرنانة الجوفاء غير مدرك للهوة الكبيرة بين ما يقوله وما يفعله، وتكشف أيضاً بعض التغريدات التي آثرت ألا أذكرها كيف يستغل البعض عملهم كمناصرين للمرأة أو داعمين للقضايا النسوية في التحرش تحت ستار الدعوة للتحرر، عبر «مصطلحات» و«مفردات» متلاعبة صارت محفوظة، لكنها كاشفة لما يجري يومياً للأسف، ولا يوجد دليل على ذلك أفضل من صاحبة كتاب «المبتسرون» أروى صالح، التي انتحرت قبل عقدين بإلقاء نفسها من الطابق العاشر، بسبب ما يفعله كائن وسط البلد الماركسي الذي باسم التحرر والتمرد «يسلك في علاقته بالمرأة كبرجوازي كبير، أي كداعر، ويشعر ويفكِّر نحوها كبرجوازي صغير، أي كمحافظ مفرط في المحافظة».

بالنسبة لي لا أرى مشكلة في أن يكون هناك قاموس خاص لكائنات وسط البلد، لأنه يعكس بالضرورة ثقافتها ولغتها المستخدمة فيما بينها، لكن الإشكالية في ظني تكمن في «الادعاء»، ومحاولة تقديم صورة غير حقيقية عن الذات والمحيط المجتمعي من جهة واستخدامها كمخدّر للنفس وللآخر، واستغلال مفردات هذا القاموس في استدراج سذاجة بعض «المنبهرات» بداعمي قضية المرأة كما أشرت من قبل.

نظر البعض إلى هذا الهاشتاج باعتباره «استهدافاً» لوقود ثورة يناير ولمجتمع وسط البلد، باعتباره المكان الذي انطلقت منه الثورة، ولا أظن أن هناك استهدافاً مقصوداً، لأن التريند ـ أياً كان ـ سيأخذ يومين وينتهي، فضلاً عن أن معظم ما ورد فيه هو نقد للغة الخطاب المستخدم، وجميعنا ضحكنا عليها لأننا نعرفها ونسمعها كل يوم بل ونستخدمها أحياناً دون قصد، كما رآه البعض جلداً للذات، وهذا غير حقيقي أيضاً، لأن «سكان وسط البلد» أنفسهم فوجئوا به، فرحب به بعضهم «وركب الموجة» وسخر من نفسه، فيما رفضه البعض الآخر.

لكن أعتقد أن ما يجب أن نفكر فيه الآن هو سبب تكون هذه الصورة النمطية على مجتمع وسط البلد، والتي في ظني أنها تكشف أنها ليست إلا انعكاساً لنمطية هذا المجتمع ذاته، وانعكاس لنمطية تفكير «كائن وسط البلد» الذي لم يتغير أو يتطور من الستينات والسبعينات والثمانينات حين هجاه أحمد فؤاد نجم ونجيب سرور وانتحرت أروى صالح.

ومن الضروري أيضاً فهم أسباب «تكوّن» كائن وسط البلد، وأعتقد أنه فعل ذلك للاحتماء بسلطة الثقافة ـ تماماً كما يفعل بعض رجال الدين عند تقديم أنفسهم باعتبارهم متحدثين باسم الرب ـ والتسلح بجهل الآخرين وتخوفهم من «المصطلحات المعقدة» التي لا يتوقف «كائن وسط البلد» عن ترديدها، كما يبدو في بعض الأحيان أن هناك نوعاً من «الوجاهة الاجتماعية» و«الفوقية» قد يراها البعض في هذه الصورة الكاريكاتورية.

لا يجب أن ننظر إلى «وسط البلد» ومثقفيها باعتبارهم كائنات مقدسة، لأن المثقف يعرف أن الإصلاح الحقيقي ـ أي إصلاح ـ يبدأ من الداخل، بل إن بعض المثقفين الحقيقيين لا يقربون مقاهي وسط البلد ويفضلون الاحتماء بمكتباتهم ومجتمعاتهم، وإذا كان مثقف وسط البلد يريد أن يستعيد دوره، فعليه أن يبدأ أولاً بإصلاح نفسه أولاً، وغني عن الذكر هنا أن المثقف المصري الحقيقي موجود، لكنه لا يمارس سلطته أو مهامه من وسط البلد فقط كما قد يظن البعض، لأنه لا سلطة له ولا مهام أكثر من أن يقرأ أكثر ويكتب ويوجه الرأي العام ويقدم حلولاً وأفكاراً لمجتمعه، لا أن يتعالى عليه وينفصل عنه، أو يغضب من أي نقد يوجه إليه.

المثقف في حقيقته دور تنويري وتوعوي، لكن ليس غريباً أمام هذه «الكائنات» أننا افتقدنا تماماً أي دور مأمول أو منتظر منه.
نقلا عن المصري اليوم