د.عبدالخالق حسين
أثيرت ضجة مفتعلة، وسخيفة ضد النائبة البرلمانية العراقية من الحزب الشيوعي العراقي، و كتلة (سائرون)، السيدة هيفاء الأمين، إثر ما أدلت به في ندوة بيروت يوم 2 أيار/مايس 2019، قالت فيه أن هناك تخلف في العراق وخاصة في الجنوب...(وهي بالمناسبة من أهل الجنوب، وكذلك كاتب هذه السطور).
 
واعتبر مثيرو الضجة أن هذه الأقوال إهانة لكرامة أهل الجنوب بوصف مناطقهم بـ(المتخلفة).
 
وفي مقدمة مثيري الضجة هو السيد حسن العلوي، البعثي السابق، ومعارض للبعث سابقاً، ونائباً برلمانياً سابقاً في العهد الجديد.. وهو يعرف كيف يستفيد من جميع الظروف، أيام البعث وما بعده. كذلك كتبتْ صحيفة (المسلة) الإلكترونية مقالاً تثير العوام ضد السيدة الأمين وبدون وجه حق، ولغاية في نفس يعقوب.
 
أما حسن العلوي فهو آخر من يحق له نقد السيدة الأمين، واتهامها بإهانة أهل الجنوب أو الشعب العراقي.
 
ففي رسالة بعثها لي صديق وهو كاتب وإعلامي بارز، ذكر أنه في قناة (المستقلة) وفي شهر حزيران أو تموز من عام 2003 ، وضمن برنامج حواري ضم ستة أشخاص، ثلاثة كويتيين وثلاثة عراقيين بينهم حسن العلوي، بادارة محمد الهاشمي الحامدي، أدعى احد العراقيين المشاركين في البرنامج (موفق السامرائي) بأن الكويتيين قد دخلوا العراق بعد الغزو وسرقوا ممتلكات عراقية.
 
فرد عليه حسن العلوي: (لا يمكن. الكويتي لا يسرق. العراقي يسرق لأن السرقة في دمه، وان خالتي هلهلت وطشت ملبس عندما سرق ابنها! ). ويسأل الصديق: (لماذا يتهم حسن العلوي العراقيين بالسرقة في برنامج تلفزيوني في قناة عربية وأمام ملايين المشاهدين؟ أين وطنيته المفرطة التي يدعيها ويقدم النصائح لهيفاء الأمين التي تشرفه الف مرة؟). أنتهى
 
وقد شاهدت لقطة الفيديو لمداخلة السيدة الأمين، التي اعتبروها إهانة لأهل الجنوب، (الرابط رقم 1 في الهامش)، فلم أجد فيه أية إهانة، بل كل ما قالته هو حقيقة واضحة يعيشها كل أبناء الشعب، وبالأخص أهلنا في الجنوب.
 
فكلمة تخلف لها مدلولات اقتصادية، واجتماعية وحضارية، وكلها موجودة ليس في مناطق جنوب العراق فحسب، بل وفي كل العراق مع الاختلاف بالدرجة.
 
ولكن والحق يقال أن مناطق الجنوب أكثر تخلفاً كما قالت السيدة الأمين. ففي بلد عائم على بحر من النفط، هناك الفقر، والجهل، والمرض، ورمي القمامة في الأنهر، والطرقات، وعدم توافر مجاري الصرف الصحي، وشح الماء الصالح للشرب لأهالي محافظة البصرة، وحتى بعض أبنية المدارس طينية، وغيرها كثير من مظاهر التخلف التي لا نجدها إلا في أشد البلدان تخلفاً في العالم الثالث.
 
كذلك ما يسمى بالدكات العشائرية، وحكم العشائر، ومعاملة المرأة كبضاعة رخيصة تتم مبادلتها كدية في النزاعات العشائرية، وغيرها كثير ذكرها الكاتب السيد أياد السماوي في مقالين قيمين أدرجهما في الهامش (2 و 3). فإذا كانت هذه المظاهر ليست دلائل على التخلف، فليت شعري ما هو التخلف؟
 
في الحقيقة هناك تخلف شديد في هذه المناطق، نتيجة الإهمال المتعمد من قبل الحكومات الدكتاتورية الطائفية المتعاقبة منذ العهد الملكي وإلى عام 2003. ففي عهد البعث الصدامي كانوا يطلقون على محافظة ذي قار (الناصرية) مثلاً: (محافظة المليون نائب عريف)، لأنه نادراً ما يسمح لأهالي هذه المناطق أن يُقبلوا في الكليات العسكرية لأسباب طائفية بحتة. والمؤلم أنه عندما تبوأ الشيعة رأس السلطة بعد 2003، واصلوا نفس النهج في إهمال المحافظات الجنوبية، واعتبروها البقرة الحلوب تدر عليهم ذهباً حيث نحو 80% من مالية الدولة هي من نفط الجنوب، ولكنها محرومة من أبسط الحقوق والخدمات، وينطبق عليها قول الشاعر:
 
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ... والماء فوق ظهورها محمولُ
 
وقد تحالف على تخلف الجنوب كثيرون منذ تأسيس الدولة العراقية وإلى اليوم، فبالإضافة إلى الحكومات الطائفية المستبدة السالفة الذكر، ساهم رجال الدين الشيعة الذين ناهضوا الدولة العراقية منذ ولادتها عام 1921، والتي هي نتاج ثورة العشرين التي قام بها أهل الوسط والجنوب، ولكن رجال الدين فرضوا شروطاً تعجيزية على الدولة الوليدة للمشاركة فيها ودعمها. ف
 
أصدروا الفتاوى الغريبة والعجيبة حرمَّوا فيها على أبناء طائفتهم المشاركة في السلطة، والمناصب، والوظائف، والتجنيد، والانتخابات والترشيحات البرلمانية، بل وحتى إدخال أبنائهم وبناتهم في المدارس، لأن المدارس حسب زعمهم يعلمونهم أن المطر من البخار، وهذا كفر وإلحاد في نظرهم، بل وكما ذكر العلامة علي الوردي، نشر الشيخ محمد مهدي الخالصي كراساً في هذا الخصوص بعنوان: (السيف  البتار في وجوه الكفار، ولمن يقول المطر من البخار)!!. 
 
وكما كتب لي صديق أكاديمي حول هذا الموضوع قائلاً: (... ومنهم من حرم العمل في الدولة، ومنهم من حرم دخول السياسة والجيش، ومنهم من وقف مع الإقطاع ومنهم من سرق ثرواته، ومنهم من وقف ضد الوطنيين من ابناء العراق، ومنهم من خدع ابناء الجنوب، واستغل عاطفتهم وحبهم لدينهم، ومنهم من جند أبنائهم لحروبه، ومنهم من مكن عملائه من سرقة أموالهم ومصادرة حقوقهم، ومنهم من تآمر عليهم. 
 
وأمام هذا التحالف الشيطاني غير المتكافئ، تخلف الجنوب وصودرت حقوقه، وقُتل ابناؤه ، وسُرقت ثرواته. ولكن لن يمحوا هوية الجنوب، ولن يطفئوا نيران غضبه، ولن يخرسوا أصوات مثقفيه، وحناجر شعرائه، ولن يغيروا غيرة ابنائه وشهامة وكرم وشيم رجاله. .. ان بعد الظلام الصبح، وبعد العسر اليسر.) أنتهى
 
غني عن القول أنه لا يمكن إصلاح المجتمع أو الشعب، ومعالجة أمراضه الاجتماعية ما لم يتم الكشف عن هذه الأمراض ونقدها من أجل معالجتها. أما الانتهازيون المتزلفون فيلجؤون إلى الصراخ والعويل، والتهديد بالويل والثبور، وعظائم الأمور ضد كل من يتجرأ فيكشف هذه العيوب.
 
وهذا ما لجأ إليه حسن العلوي وأمثاله في إثارة الغوغاء الذين وصفهم مقتدى الصدر  بـ(الجهلة جهلة جهلة)، فلم يتجرأ العلوي بنقد السيد الصدر، ولكنه سرعان ما شهر "قلمه البتار" في وجه السيدة هيفاء الأمين، لأنها إمرأة، وشيوعية، يعني (حايط نصيِّص) كما نقول بالعراقي عمن يسهل العدوان عليه، وليس لحزبها مليشيات مسلحة لتحميها. فليفهم هؤلاء أننا في عصر الإنترنت، وليس هناك أحد يمكن اعتباره حايط نصيص، أو هدفاً رخواً.
 
ورحم الله من عرف حده ووقف عنده.
 
في الحقيقة هؤلاء الذين تهجموا على النائبة الأمين وأرادوا تصفيتها سياسياً واجتماعياً، رُدَّت سهامهم إلى نحرهم، فقد أساؤوا إلى أنفسهم وقدموا لها ولأهل الجنوب خدمة لا تقدر. فقد خدموها لأن الكثيرين لم يسمعوا بهذه السيدة من قبل، فأصبحت الآن أشهر من نار على علم، وأنها صاحبة قضية وطنية مخلصة، كما خدموا أهل الجنوب بإثارة قضيتهم العادلة وبذلك فقد ساهموا بتصعيد الضغط الشعبي ومطالبة السلطات بالكف عن إهمال المناطق الجنوبية، ويجب عليهم العمل المثابر للتخلص من التخلف.
 
لذلك وبناءاً على كل ما تقدم، نقول أن هذه الحملة المسعورة ضد النائبة الشجاعة السيدة هيفاء الأمين، هي بدوافع سياسية وانتهازية جبانة، ولأنها قالت الحقيقة، فيريدون خنق الأصوات الشجاعة التي تطالب بحقوق الشعب، و خدع أبناء الجنوب وإقناعهم بعدم المطالبة بحقوقهم، وإشغالهم في قضية وهمية بأن السيدة الأمين أهانتهم ووصفتهم بأنهم متخلفون !!، وبالتالي إلقاء اللوم في التخلف على الضحية وعلى من يريد مواجهته والتخلص منه، بدلاً من إلقائه على المسؤولين عنه من رجال السلطة قديماً وحديثاً. 
 
لذلك على السيدة هيفاء الأمين أن لا تعتذر أبداً عما قالت، بل تصمد، لأن كل ما قالته هو الحقيقة، وقول الحقيقة لا يتطلب الاعتذار، فالساكت عن الحق شيطان أخرس. وكما قال الإمام علي: لو سكت أهل الحق عن الباطل، لاعتقد أهل الباطل أنهم على حق.