عاطف بشاي
أما ولم ننجح بعد فى تصحيح الخطاب الدينى فهل يمكن أن نفلح فى تصحيح الخطاب الثقافى؟!.. إن الثقافة هى العنصر الذى يجعل حياتنا أجمل وسلوكنا أرقى وذوقنا أرفع وعقلنا قادرًا على التصرف الصحيح فى كل المشاكل العامة والخاصة.. وهى بسعيها إلى التنوير الذى من خلاله يمكننا تجاوز محنتنا فى ردة حضارية نعيشها الآن فى غابة يسيطر عليها شياطين الظلاميين الذين يجبروننا على العودة إلى عصور أهل الكهف والتطرف الدينى والعنف وازدراء الآخر.. وجرائم التكفير والتحريم والإقصاء وثقافة الحلال والحرام.. والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والفتاوى الشاذة التى تطفئ شموع الاستناة وتلفظنا خارج التاريخ.. فالخطاب الدينى الموروث يعلن الحرب على المختلفين ويسمى هذه الحرب جهادًا فى سبيل الله.. والمختلفون الذين يحاربهم هذا الخطاب ليسوا أتباع الديانات الأخرى فحسب بل هم أيضًا أتباع المذاهب الإسلامية الأخرى.. السنة يحاربون الشيعة.. والشيعة يحاربون السنة.. والدواعش يقتحمون مسجد الصوفيين ويذبحون (310) بريئين من الركع السجود فى مذبحة مدوية.. والجميع يحاربون الجميع.. وحصاد خطاب الكراهية فى النهاية خراب وتخلف ودمار ودماء.

لكن كيف يتم هذا التصحيح الثقافى؟!.. وهل يتمكن تصحيح الخطاب الثقافى أن يشمل فى الوقت نفسه تصحيح الخطاب الدينى؟!.

يجيب عن هذه الأسئلة الناقد الكبير الراحل «رجاء النقاش» فى كتابه الهام والممتع «عباقرة ومجانين».. حيث يرى فى البداية أن المهمة الأساسية للكاتب هى أن يكون أداة توصيل جيدة وممتعة بين القارئ والأفكار المختلفة.. أما إذا حاول أن يكون مصدرًا لتعذيب القارئ بالإصطلاحات الصعبة والتعبيرات المعقدة فإنه يصبح مثل المعلم الذى يحمل الكرباج لتلاميذه..

.. ويحاول أن يفرض عليهم ألوان المعرفة بالعنف والقوة والعقوبة البدنية الصارمة.. وقد أثبتت التجارب الإنسانية المختلفة أن هذا الأسلوب لم ينجح فى خدمة العلم والثقافة بل كان على الدوام أسلوبًا يؤدى إلى نتائج عكسية غير مطلوبة.. والحقيقة أن انتشار الثقافة بصورة صحيحة يعنى أن مجتمعنا يستطيع أن يتخطى كثيرًا من الأسوار والعقبات التى تحول بينه وبين النهضة والتقدم والفهم الصحيح لهذا العصر الصعب الذى نعيش فيه.

وعن طريق الفهم والمعرفة الصحيحة يمكننا أن نقف فى وجه الجنون وما يترتب عليه من سلبيات ونستطيع كذلك أن نستفيد من العبقرية ونتعلم منها ونستنير بما تقدمه من أفكار وأضواء جديدة على مشاكل الإنسان والحياة.

وينتقل «النقاش» فى كتابه بين العصور القديمة والعصر الحديث.. وبين الأدب والسياسة والحضارة والفن وأحداث التاريخ وأخلاق الناس.. إنها سياحة روحية متنوعة فى الحياة والفن والتاريخ تكشف عن صفحات من جهود البشر فى مختلف العصور من أجل الوصول إلى الخير والسعادة والجمال.

ويبدأ بأول شخصية فى الكتاب وهى «سافو» أول شاعرة معروفة فى تاريخ الإنسانية كله.. وألمع اسم فى تاريخ الأدب الإنسانى كله.. وهى يونانية عاشت فى الفترة الممتدة بين سنة (610 – 560) قبل الميلاد.. وكانت أشعارها وأغانيها تدور على كل لسان.. وكان أبرز رجال الفكر والسياسة والثقافة ينظرون إليها نظرة إكبار وتقدير.. وقد نضجت فى سن مبكرة وأصبحت معروفة بقدرتها الفنية العالمية فى سن العشرين من عمرها..

ورغم أن أشعارها المعروفة تدور كلها حول الحب والجمال والطبيعة إلا أنها مع ذلك كان لها نشاط سياسى مؤثر.. وتعرضت للنفى مرتين.. وكان حكام مدينتها يخافون من تأثيرها على الرأى العام والتفاف الناس حولها وجرأتها الكبيرة فى إعلان أفكارها السياسية ومعارضتها لكل ما تراه شرًا أو خطرًا على أهلها وشعبها.

لقد ضربت مثلًا تاريخيًا مبكرًا للفنان الذى يرفض أن يسجن نفسه فى مشاعره الخاصة وعواطفه الذاتية.. وأن يعيش فى عزلة عما يدور حوله من أحداث.. وما يعانيه الناس من هموم ومشاكل.. وبعد عودتها من منفاها الثانى أصبحت زعيمة الفن والذوق والتأثير الوجدانى على الجميع.. وقد قامت بفتح أول مدرسة فى التاريخ لتعليم الفتيات فنون الشعر والموسيقى والرقص.. والسلوك المهذب.. وكانت صاحبة صوت جذاب ولذلك كانت تكتب قصائدها وتلحنها وتغنيها.. ومن المعروف أنها أضافت وزنًا جديدًا إلى الأوزان الشعرية التى كانت شائعة فى عصرها وقد أصبح هذا الوزن معروفًا حتى الآن باسمها وهو (الوزن السافونى).

وكانت علاقة (سافو) بتلميذات مدرستها علاقة حميمية مليئة بالعاطفة القوية مما أطلق الشائعات المختلفة حولها.. وكان أهم هذه الشائعات اتهامها بالشذوذ.. حتى لقد أصبحت كلمة «الشذوذ» عند المرأة منسوبة إلى مدينة (لسبوس) وهى مدينة الشاعرة (سافو) فالمرأة الشاذة يقال لها فى اللغات الأوروبية (لسبيان) نسبة إلى مدينة (لسبوس).

وقد بلغ من قوة أعدائها والذين أساءوا فهمها أن الكنيسة أمرت سنة (1072) ميلادية بإحراق أشعارها جميعًا.. ورغم هذا الحريق فقد احتفظ الناس فى وجدانهم بما بقى من هذا الشعر وحرصوا عليه أشد الحرص.

وقد كان لمصر فضل كبير على أشعار (سافو) ففى سنة (1897) اكتشف الباحثون عن الآثار بعض التوابيت القديمة فى الفيوم تم استخدام الورق فى صناعتها.. وعند البحث فى أوراق هذه التوابيت تبين أنها تحتوى على عدد من قصائد (سافو) التى أصبحت جزءًا من أشعارها المعروفة الآن.

إن الإبداع لا يموت.. ورسالة «التنوير» فى النهاية تؤتى ثمارها مهما كان الحاضر قاتمًا.. وثقافة الكراهية والقبح سائدة.. حتمًا سوف يطرد النور «الخفافيش».
نقلا عن المصرى اليوم