فى مثل هذا اليوم 8 من مايو 1937م..
تم توقيع معاهدة مونتريه لإلغاء الامتيازات الأجنبية بمصر، وكان من شروط المؤتمر الذي عقد في جنيف للتوقيع على "مونتريه" أن تستمد مصر تشريعها من التشريع الغربي. وقد نشأت الامتيازات الأجنبية بعد الاحتلال البريطاني لمصر 1882م. ..

في سنة 1883 أجرت الحكومة تحديثا شاملا للقضاء المصري (المحاكم الأهلية) يجعله قضاء عصريا وكفؤا ومستقلا. وحاولت الحكومة آنذاك تقنين أحكام الفقه الإسلامي (المسمى خطأ شريعة إسلامية) فيما يتعلق بالمعاملات المدنية والتجارية، غير أن علماء الأزهر رفضوا هذا التقنين، مما دعا الحكومة إلى ترجمة المجموعة المدنية المعروفة باسم (Code Napoleon) والتي كانت تطبق أمام المحاكم المختلطة لتطبق بالتالي في القضاء الأهلي، خاصة وأن هذه المجموعة لم تكن تختلف عن أحكام الفقه الإسلامي إلا في القليل، وهو أمر ثبت على مدى الأيام. ولأن الحدود (العقوبات الأربع الواردة في القرآن الكريم عن السرقة وقذف المحصنات والزنا والحِرابة) لم تكن تطبق في مصر طوال الإحتلال العثماني، بل وقبل ذلك بكثير، فقد كان قانون العقوبات بمثابة عقوبات تعزيرية فيما تضمنه.

وحتى يدفع الإحتلال البريطاني الأجانب المقيمين في مصر، من أصحاب الإمتيازات، إلى أداء بعض الضرائب فقد أصدرت الحكومة البريطانية قرار في 17 مارس 1885 يلزم رعاياها دفع الضرائب، مثلهم في ذلك مثل المصريين ؛ وهو ما أرادت هذه الحكومة أن تجعله أساسا ومثلا لإلزام باقي الأجانب أداء ضرائب. وبالفعل ساعد ذلك على موافقة الأجانب على دفع بعض الضرائب، وفى 18 مارس 1891 صدر دكريتو بإخضاع الأجانب في مصر لبعض الضرائب.

في 31 يناير 1889 صدر دكريتو ينظم التشريع في المسائل الجنائية (العقوبات) بحيث لا يجوز أن تُوقع على أي شخص عقوبة الغرامة التي تزيد عن جنية مصري أو الحبس الذي يزيد عن سبعة أيام بغير قانون يصدر بذلك سلفاً. هذا إلى أن تعرض الحكومة المصرية على الجمعية العمومية للمحاكم المختلطة اقتراحاتها بسن تشريعات جنائية.

قامت ثورة 1919 بزعامة سعد زغلول لتحقيق استقلال مصر من خلال محورين:-
أولهما: إخراج المستعمر البريطاني فيها، وثانيها: إصدار دستور ينظم الحكم ويرتب حقوق المواطنين. وفي 1923 صدر دستور ينظم لأول مرة في العالم العربي أسلوب الحكم وحقوق وواجبات المواطنين، في صورة عصرية محددة. وكان مما شمله الدستور مبدأ أن الملك يملك ولا يحكم إلا من خلال وزارة تشكلها الأغلبية السياسية وتكون مسئولة مسئولية تضامنية أمام نواب ينتخبهم الشعب، ومبدأ الفصل بين السلطات الثلاث : التنفيذية والتشريعية والقضائية، واستقلال القضاء، والمساواة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات.. إلى آخر ذلك.

اتجهت الحكومات المصرية المتعاقبة إلى التفاوض مع الحكومات البريطانية المتتالية للحصول على الإستقلال، وفى 1936 توصل عدد من كبار الساسة المصريين بزعامة مصطفى النحاس إلى توقيع معاهدة، كان المفهوم وفقا للظروف الدولية آنذاك أنها خطوة مهمة على طريق الإستقلال التام. وأهم ثمار هذه المعاهدة إلغاء الإمتيازات الأجنبية في مصر. ففي المادتين 12، 13 من المعاهدة أقرت بريطانيا بسيادة مصر على جميع الأجانب المقيمين فيها وتعهدت بالعمل على مساعدة مصر في إلغاء الإمتيازات الأجنبية التي كانت تشكل حائلا وعقبة أمام هذه السيادة. وفى 8 مايو 1937 عُقدت معاهدة مونتريه (بسويسرا) بين مصر والدول صاحبة الإمتيازات، حيث تم الإتفاق على إلغاء الإمتيازات التشريعية والمالية والقضائية. واستردت مصر على الفور سيادتها في القضاء الجنائي على جميع المقيمين فيها من مصريين وأجانب، بعد أن كان الفصل في المسائل الجنائية التي يكون أحد أطرافها أجنبي من اختصاص قنصل بلده وحده. وصدر قانون العقوبات سنة 1937 ليُنفذ على الجميع، واتُّفق على إلغاء المحاكم المختلطة بعد اثني عشر سنة، وبالفعل ألغيت في 14 أكتوبر 1949، ونفذت المجموعة المدنية الجديدة إعتبارا من اليوم التالي مباشرة. وتلا هذا إصدار قوانين للضرائب التي تسرى على الجميع دون أي استثناء.

مفاد ذلك أن الإمتيازات الأجنبية بدأت أصلا في الأستانة – وهى في المنشأ مدينة بيزنطة والقسطنطينية – ذات التاريخ البعيد في منح الإمتيازات. وقد كانت الإمتيازات تُمنح بمقتضى براءة (أو فرمان أودكريتو) تصدر عن السلطان العثماني من جانب واحد ولا تُفرغ في صورة معاهدات أو إتفاقيات تنظم حقوق والتزامات الطرفين، وطريقة ومدة استعمال الإمتياز، على تقدير فقهي (غير شرعي) بعدم جواز التعاقد مع حاكم أو أمة تقع في دار الحرب ولا توجد في دار السلام (أو الإسلام). غير أن هذا التقدير كان نظرا قاصرا مؤقتا، ذلك بأن الإمتيازات التي كانت منحة صارت مع الوقت حقوقا لأصحابها ترتب التزامات على السلطنة العثمانية، ولا تضع أي إلتزامات على المستفيدين منها، وهو ما لم يكن ليحدث لو كانت الإمتيازات قد تحددت نتيجة معاهدات أو إتفاقيات مشتركة. ورثت مصر الإمتيازات الأجنبية من السلطة العثمانية، باعتبارها إيالة لها (أي آلت إليها بالغزو فصارت من أملاكها). وتفشت الإمتيازات في مصر نتيجة لعوامل كثيرة فصارت انتقاصاً كبيرا من سيادتها وعدوانا بالغاً على أبنائها. وحتى تستطيع مصر التوصل إلى إلغاء الإمتيازات كان عليها أن تُنجز إصلاحات مهمة لتحديث النظام الحكومي وضمان استقراره وعدم تغوّل الإدارة أو سوء استعمال السلطة (وهو ما حققه إلى حد كبير دستور 1923، دون النظر إلى التطبيق السيء أو التأويل الفاسد).

كذلك أن تعمل مصر على وضع قوانين بالأسلوب العصري الذي يتضمن تقنين الحقوق والإلتزامات والجرائم والعقوبات في نصوص واضحة محددة، تضمها مجاميع مُيسّرة مثل القانون المدني وقانون العقوبات والقوانين الإجرائية.. إلى آخر ذلك. وقد أنجزت مصر هذا كله، بل وقننت أحكام الأحوال الشخصية (الزواج والطلاق والنفقة والحضانة..) والمواريث والوصية اعتبارا من العشرينيات.

يضاف إلى ذلك أنه كان من اللازم إنشاء نظام قضائي حديث كفء ومستقل؛ وهو ما عملت الحكومات المصرية المتعاقبة على تحقيقه. وفى سبيل ذلك فقد صدر قانون استقلال القضاء سنة 1943، وأنشىء مجلس الدولة سنة 1946، وأهم ما فيه اختصاص القضاء الإداري بإلغاء القرارات الإدارية إذا شابها عيب أو انبنت على سوء استعمال للسلطة، وقد كانت سلطة القضاء من قبل تقتصر على التعويض عن آثار القرار الباطل أو المعيب دون إلغائه.

هذه العناصر الثلاثة: حكومية مدنية مسئولة، ونظام قانوني عصري، وقضاء كفء مستقل، صارت هي المقومات الأساسية للدولة في المفهوم الدولي المعاصر، وفى المجال الإنساني العام، وهى التي يجب أن تكون واضحة مفهومة للجميع، وأن يؤكد عليها كل من يريد ويعمل على احترام مجتمعه واستقلال بلده. حتى لا تنفذ إليها قوى غريبة تفرض لنفسها إمتيازات خاصة، تغلّفها بأسماء مختلفة وتسترها بعبارات ذات بريق. أما من يحاول العدوان على هذه المنظومة، وتفكيك عراها، بصورة أو أخرى، سواء كان ذلك بتخريب النظام الحكومي بالفساد أو الرشوة أو التعسف أو بالعدوان عليه أو بتوهين قوائمه أو بتدمير قواعده ؛ أو كان ذلك بتقويض النظام القانوني بعصيانه أو عدم إعماله أو ازدرائه أو نشر عدم احترامه، أو كان ذلك بضرب السلطة القضائية بالإهمال أو الغش أو الجهل أو التحيز أو سحب الضمانات أو استغلال الحصانات.. أو، أو، أو... من يفعل ذلك عامدا أو جاهلا فهو في الحقيقة يضر وطنه ضررا جسيما ويؤذى مجتمعه إيذاء بالغاً...!!