خالد منتصر
هذا ليس عنوانى، بل عنوان مقال شهير للكاتب السودانى الكبير الراحل «الطيب صالح»، يتساءل فيه عن سبب مجىء نظام «الكيزان»، وهو الوصف السودانى للإخوان والمأخوذ عن مقولة حسن البنا بأن الإخوان كيزان يغرفون من الدين، وليس أقدر من الأديب لاستحضار تساؤلاته المؤرقة وقلمه المشرط لاستخدامه ككشاف نور فى هذا الظلام الحالك، يقول الطيب صالح فى مقاله:

هل السماء لا تزال صافية فوق أرض السودان أم أنّهم حجبوها بالأكاذيب؟

هل مطار الخرطوم لا يزال يمتلئ بالنازحين؟ يريدون الهرب إلى أىّ مكان، فذلك البلد الواسع لم يعد يتّسع لهم. كأنى بهم ينتظرون منذ تركتهم فى ذلك اليوم عام ثمانية وثمانين. يُعلَن عن قيام الطائرات ولا تقوم. لا أحد يكلّمهم. لا أحد يهمه أمرهم. هل ما زالوا يتحدّثون عن الرخاء والناس جوعى؟ وعن الأمن والناس فى ذُعر؟ وعن صلاح الأحوال والبلد خراب؟

جامعة الخرطوم مغلقة، وكل الجامعات والمدارس فى كافّة أنحاء السودان. الخرطوم الجميلة مثل طفلة يُنِيمونها عُنوةً ويغلقون عليها الباب، تنام منذ العاشرة، تنام باكية فى ثيابها البالية، لا حركة فى الطرقات. لا أضواء من نوافذ البيوت. لا فرح فى القلوب. لا ضحك فى الحناجر. لا ماء، لا خُبز، لا سُكّر، لا بنزين، لا دواء. الأمن مستتب كما يهدأ الموتى.. نهر النيل الصبور يسير سيره الحكيم، ويعزف لحنه القديم «السادة» الجدد لا يسمعون ولا يفهمون. يظنّون أنّهم وجدوا مفاتيح المستقبل. يعرفون الحلول. موقنون من كل شىء. يزحمون شاشات التليفزيون وميكروفونات الإذاعة. يقولون كلاماً ميِّتاً فى بلدٍ حىٍّ فى حقيقته ولكنّهم يريدون قتله حتى يستتب الأمن.

مِن أين جاء هؤلاء النّاس؟ أما أرضعتهم الأمّهات والعمّات والخالات؟ أما أصغوا للرياح تهبُّ من الشمال والجنوب؟ أما رأوا بروق الصعيد تشيل وتحط؟ أما شافوا القمح ينمو فى الحقول وسبائط التمر مثقلة فوق هامات النخيل؟ أما سمعوا مدائح حاج الماحى وود سعد، وأغانى سرور وخليل فرح وحسن عطية والكابلى المصطفى؟ أما قرأوا شعر العباس والمجذوب؟ أما سمعوا الأصوات القديمة وأحسُّوا الأشواق القديمة، ألا يحبّون الوطن كما نحبّه؟ إذاً لماذا يحبّونه وكأنّهم يكرهونه ويعملون على إعماره وكأنّهم مسخّرون لخرابه؟، أجلس هنا بين قوم أحرار فى بلد حرٍّ، أحسّ البرد فى عظامى واليوم ليس بارداً. أنتمى إلى أمّة مقهورة ودولة تافهة. أنظر إليهم يكرِّمون رجالهم ونساءهم وهم أحياء، ولو كان أمثال هؤلاء عندنا لقتلوهم أو سجنوهم أو شرّدوهم فى الآفاق.

من الذى يبنى لك المستقبل يا هداك الله وأنت تذبح الخيل وتُبقى العربات، وتُميت الأرض وتُحيى الآفات؟

هل حرائر النساء من «سودرى» و«حمرة الوز» و«حمرة الشيخ» ما زلن يتسولن فى شوارع الخرطوم؟

هل ما زال أهل الجنوب ينزحون إلى الشمال وأهل الشمال يهربون إلى أى بلد يقبلهم؟

هل أسعار الدولار لا تزال فى صعود وأقدار الناس فى هبوط؟ أما زالوا يحلمون أن يُقيموا على جثّة السودان المسكين خلافة إسلامية سودانية يبايعها أهل مصر وبلاد الشام والمغرب واليمن والعراق وبلاد جزيرة العرب؟

من أين جاء هؤلاء الناس؟ بل، مَن هؤلاء الناس؟
نقلا عن الوطن