سحر الجعارة
أوصيت «الكروان» أن يستقبل الفجر نيابة عنى، على شرفة منزل «أبى»..

أن يتذكر تلك الصبية الحالمة التى كانت تكتب شعراً، وتنتظر فارساً لم يأتِ..

أن ينادينى بصوت «أمى»، علّنى أجد طريقاً للعودة.. أن يحفظ لى ضحكات البنات البريئة التى كانت تملأ الكون بالبهجة، حين كان أقصى همنا نتيجة الاختبارات!

الآن أصبحت الاختبارات قاسية، والزمن صار ضنيناً يحرمنا حتى «الحق فى الحلم».. كم تمنيت أن أعود لمنزل أبى، أسمع صوت أذان الفجر ينطلق بينما أبناء الحى يتبادلون العشق والنميمة.. إنه «الحنين»: «الملك لك يا صاحب الملك لك.. الملك لك لا شريك لك».

الحنين لا يُفلح فى إعادتنا لصورتنا القديمة، لقد ذابت ملامحنا بين السنين والمعارك والتجارب، وتركت آثارها محفورة على الجبين.

لم أجد بعد طول السنين إلا جدراناً من الأبجدية تؤوينى، لم أعد نفس الطفلة التى تلعب بالدمى، ولا الصبية التى تشتاق وتحلم وتطارد الفراشات، أصبحت متعبة.. مرهقة.. عالمى مزدحم وفارغ.. تماماً مثل قلبى.

تبتلعنى دوامة الزحام من تفاصيل الجمال، فلا أسمع صوت البحر، ولا أستمتع بزقزقة العصافير.. «أكتب لأثبت أننى على قيد الحياة» كما أردد كثيراً.

أكتب عن «المرأة» لأنها زاوية كاشفة لكل أمراض المجتمع.. إنها بؤرة الاحتقان، ووقود الصراع، فالحياة تبدأ منها لتنتهى عندها!

هى «الشفرة» التى تفك طلاسم «الدين والجنس والسياسة».. والغريب أننى كلما عدت لما كتبته قبل عشر سنوات أجدها مشنوقة بنفس الحبال!

لم أرَ المرأة ضحية ولا قدّيسة.. لم تتجسد لى كإلهة للجنس، ولا ملاكاً ينشر الفضيلة.. رأيتها كما هى: تُستخدم أحياناً كرشوة جنسية، أو تتعرض للتحرش.. تجوع فتأكل بثدييها، أو تعف عن الكلام وتعتزل الحياة خلف «نقاب»!

رأيتها طرفاً فى صناعة الإرهاب ونشر الإلحاد.. مظلومة ومجنياً عليها.

نظرت إلى مجتمعنا بعيون امرأة: امرأة متصالحة مع الفقر لتستر «البنات».. مُطاردة بلعنات التكفير إذا فكرت، أو أبدعت.. مُحاصرة بألغام الفتاوى، ومُحاربة ضد الفساد وضالعة فيه!

رأيت وجهاً عاشقاً للوطن.. ووطناً كارهاً للنساء!

«تحطيم التابوهات» فى عالم المرأة مثل دخول حقل ألغام.. فلم يعد «الجنس» هو التابو المقدس، الذى نركع له سراً ونلعنه جهراً.

من واقع النساء فى بلادى اكتشفت أن «الأديان» تحولت إلى كائن خرافى يبتلعنا.. والمرأة محنطة فى تابوت مرصّع بجماجم رائدات الحركة النسوية!

رحل «مرشد» الفاشية الدينية واستمرت المعركة: لا تجادل فتوى «نكاح المتوفاة»، لا تناهض «إرضاع الكبير»، نحن فى زمن الخرس.. فهناك ألف «مسرور» ينتظر رقبة «شهرزاد» لتصمت عن الكلام المباح.

وتأتى ثورة تلو أخرى والكلمات تنزف ألماً وقهراً.. وعشقاً لرجل هرب إلى عالم الخيال. لقد حملتنى الكلمة إلى عوالم موحشة، ومتوحشة.. طفت بين نساء «الجماعة»، ودخلت عشش الصفيح.. استمعت لهمس العشاق.. عُدت -بالكلمة- مراهقة.. رأيت وجهى على صفحة القمر، وصافحت «العذراء» فى أحلامى.

حاولت التعرف على مفهوم «الشرف»، وكشف العالم السرى للنساء.. من العذرية، مروراً بالإجهاض والأمومة.. حاولت أن أفهم، وكلما تخيلت أننى وصلت للمعنى أعود لنقطة الصفر!

حمدت الله كثيراً الذى خلقنى «أنثى».. ولعنت من سلبونا «القدسية» وحولونا إلى لحم رخيص فى أسواق الإرهاب والنخاسة ونزوات العمائم.

ربما لم يكتمل لحنى، ربما كان كل ما كتبته «نشازاً».. لكننى انتظرت طويلاً سن النضج لأتخلى عن خجلى.. وأبوح!

أحببت سطورى، وازددت معها إيماناً بأن المرأة لم تتحدث بعد.. لو أن كل نساء العالم بُحن بالحقيقة لتغير «علم الاجتماع»، ووجد العلماء تفسيراً لزنا المحارم، والسحاق، والبغاء والعنوسة والطلاق.. وحالة «الدروشة الجماعية».

المرأة حاملة أسرار الكون.. وهى المحرك الخفى لحركة التاريخ.. وتغيير المجتمعات.. لكنها «عاقلة» و«كتومة»! وستبقى «الكتابة» بوابة الهروب من «الحرملك»، ولهذا أغرس القلم -كل لحظة- فى قلبى، ثم أنزعه لأعود أنزف على الورق.

حين أعتزل الكتابة، وأعتقل حروفى خلف جدار الصمت، سأعود لمنزل أبى.. وهناك سأفتش عن ملامحى القديمة، سأحرر خصلات شعرى من أسر الوقار، وأطلق ضحكة صافية من القلب لا أخشى تجريمها أو تحريمها.

سأقف فى نفس الشرفة أنتظر صوت الكروان: (الملك لك يا صاحب الملك لك).
نقلا عن الوطن