خالد منتصر
دخلت معارك كثيرة وحروباً ضروساً مع تجار الأعشاب الذين يخرجون علينا فى الفضائيات بوصفات تخريفية وهمية من قبيل النصب والدجل والضحك على العقول المغيبة، كنت أعرف أننى أخوض فى حقل ألغام، وأدخل عش دبابير، وصل الأمر ضدى إلى قضايا وتهديدات ومحاولات اعتداء، لكننى تحمّلت وزدت إصراراً على استكمال المعركة ضد دجل العلاج بالأعشاب فى مصر، أنا لست ضد الأعشاب والنباتات كمصدر لمواد علاجية، فالكثير من الأدوية مثل الديجيتاليس والأتروبين والأسبيرين مستخلصة صيدلياً من الأعشاب، أقولها ثانية مستخلصة بعلم الفارماكولوجى، وليس بالفهلولوجى أو النصبولوجى، إذاً أنا ضد إعطاء الأعشاب دون خلفية علمية، أو دون استخلاص مادة فعّالة ومعرفة مدى سمّيتها وتفاعلها مع أدوية أخرى، وتحديد وضبط جرعاتها، من خلال أبحاث معملية علمية مقارنة تتبع قواعد الطب القائم على الدليل، أما ما يحدث فى مصر على فضائياتها من وصف علاجات عشبية، فهو جريمة مكتملة الأركان.

وسألخص لكم الفرق بين تعاملنا اللاعلمى العشوائى مع الأعشاب، وتعامل العلماء «اللى بجد» معها، هذه هى حكاية الصينية يويو تو التى حازت على جائزة نوبل 2015، لاكتشافها علاجاً للملاريا، أثناء حرب فيتنام انتشرت الملاريا هناك، فقرر الزعيم الصينى ماو تسى تونج إطلاق مشروع سرى بهدف اكتشاف علاج للملاريا كان يعرَّف برقم 523، وهو تاريخ إطلاقه فى الثالث والعشرين من مايو من عام 1967، اختارتها الأكاديمية الصينية بعد بحث طويل، تقول «تو» عن بداية اختيارها: «عندما بدأت بحوثى كان آخرون قد اختبروا 240 ألف مركب فى الصين وفى الولايات المتحدة، دون تحقيق نجاح يُذكر».

وبعد فترة قصيرة من انضمامها إلى مشروع 523، طُلب منها التوجّه إلى مقاطعة هاينان، وتقع فى أقصى جنوب الصين، وهى معروفة بانتشار مرض الملاريا فيها، وكان هدف الرحلة هو الاطلاع على المرض وأعراضه الأولى وتأثيراته على المصاب، اضطرت الباحثة إلى ترك طفلتها ذات السنوات الأربع فى رعاية حضانة فى منطقة سكنها، ولم تعرفها البنت بعد عودتها من فرط انخراطها وانقطاعها للبحث، وعن تلك الرحلة الطويلة إلى هاينان، قالت: «رأيت أطفالاً كثيرين كانوا فى المراحل الأخيرة من المرض، وكانوا يموتون بسرعة».

درست «تو» مع 3 مساعدين أكثر من ألفى وصفة شعبية صينية للعلاج، وقاموا باستخراج 380 نوعاً من المواد منها، وجربوها كلها على الفئران. ثم لاحظوا أن مركباً واحداً نجح فى تقليل عدد طفيليات الملاريا فى الدم، هذه المادة استُخلصت من نبات الشيح الحلو واسمه العلمى (Artemisia annua)، واصل الفريق تجارب أخرى غير أن النتائج جاءت مخيبة للآمال، فأعادت «تو» قراءة الوصفة التى كُتبت قبل 1600 سنة، وتنص على تنقيع كمية من الشيح الحلو فى الماء ثم شرب النقيع، لكن «تو» كانت تغلى المحلول، وبدأت تعتقد أن هذا هو السبب وراء انحسار تأثيره، فقامت باستخدام مذيب الأثير الذى يغلى بدرجة حرارة 35 مئوية، ثم جرّبت المحلول على الفئران والقرود، فجاءت النتيجة ناجحة 100 بالمائة، لكن العلاج قد لا ينجح عند استخدامه على البشر، وربما تكون له تأثيرات جانبية خطيرة أيضاً، وحسماً للشكوك تبرّعت يويو بتجريب الدواء على نفسها، وانتظرت عدة أيام فى انتظار النتائج، ولم تكن هناك أى نتائج، وعندها بدأت بتجربته على عمال أصيبوا بالملاريا، كانت النتيجة أكثر من رائعة، إذ انخفضت درجة حرارتهم بعد 30 ساعة فقط، واختفت الطفيليات من الدم.

إنها قصة باحثة حقيقية مخلصة للعلم، دخلت محرابه ولم تنصب أو تتاجر أو تدجل، إذاً كل ما أطلبه هو إدخال الأعشاب وغيرها من الممارسات والأفكار الطبية إلى المعمل، وتطبيق المنهج العلمى عليها، بدلاً من عمليات النصب الجماعى التى أفرزت مليارديرات، على حساب صحة الغلابة من مصدّقى الخرافات.
نقلا عن الوطن