أعتقد أنه لم يقف -فى يوم من الأيام على مدى عمره الذى يزحف إلى الأربعين عاماً- خلف ميكروفون إذاعة أو أمام كاميرات التليفزيون أو حتى يتحلق -ضمن مجموعة ممن يسمون أنفسهم النخبة- منصة فى أحد فنادق الـ5 ستارز ليردد برتابة وآلية واضحة تعبيرات متكررة مملة على غرار «شعب واحد.. نسيج واحد» وغيرها من تلك الشعارات التى ربما تدغدغ المشاعر دون أى إجراء إيجابى يجسدها.. بل إنه ترجم كل هذه المعانى بأسلوب عملى راق!

«فى مصر مفيش حاجة اسمها دينك إيه.. المحبة حلوة.. كلنا هنقابل ربنا فى الآخر.. وعملنا هو اللى هيفضل».. بهذه الجملة الصادقة والبسيطة وبدون أى تقعُر أو تعقيد ترجم مشاعره الحقيقية التى دفعته -وهو «مسيحى الديانة»- إلى أن يتحمل كل تكاليف رحلة عمرة لجارته التى يعتبرها بمثابة «أمه» ليحقق لها حلمها الذى ظل يراودها طوال عمرها وبخاصة بعد وفاة زوجها وابنها الوحيد.

أيمن جورج، شاب من آحاد الناس، الذين كان شيوخ الفتنة يحرضون بعض مريديهم على عدم تهنئتهم بأعيادهم أو حتى السلام عليهم بزعم أن ديننا الإسلامى الحنيف يعتبر ذلك «حراماً»، بالإضافة إلى أن أحد المحامين الذين كنا نحسبهم كباراً سبق أن ادعى أن «كنائسهم» تمتلئ بالأسلحة انتظاراً لـ«ساعة الصفر» لاغتيال الوطن ومواطنيه، فهو مجرد شاب تلتقيه فى وجوه مصريين كثيرين يحملون ذات الملامح سواء فى الشارع أو فى المواصلات العامة أو فى طابور أمام «كاشير سوبر ماركت» أو ربما يكون جارك فى السكن.. أو كان زميلك أيام الدراسة.. وباختصار «مواطن مصرى» مثله مثل 104 ملايين آخرين.

أما هى: فاطمة عيد سيدة تقترب من الستين عاماً، أم مصرية يتسع قلبها للجميع مثلها مثل أفراد أسرتها الصغيرة التى لم يتبق منها سوى ابنتها التى تؤنس وحدتها بعد أن رحل الزوج والابن الوحيد عن عالمنا فى العام الماضى.. أم مصرية بكل ما تحمله الكلمة من معان.. تلزم نافذة شقتها فى منطقة المرج لتطمئن على وصول ابنتها أو «الابن أيمن» جارها الذى ضمته إلى أسرتها الصغيرة منذ وفاة أمه قبل 15 عاماً.. ومن وقتها «انحصر حلم حياتها» فى أداء العمرة لزيارة بيت الله الحرام، إلى أن أذن الله سبحانه وتعالى لأن يصحبها «ابنها عماد» ذات يوم إلى حفل خيرى لتكريم عدد من السيدات وترشيحهن لزيارة بيت الله الحرام فى «عمرة»، غير أن الحظ لم يوات السيدة فاطمة يومها ولم يعلن اسمها من بين الفائزين.

دون أن يبدى أى تصرف غير طبيعى ويعلن أسفه لعدم تحقق حلم «أمى اللى ربتنى»، بعد أن لمح نظرة انكسار فى عينيها أصر «أيمن جورج» فى قرارة نفسه على تحقيق حلمها وتحمل تكاليف العمرة، واتخذ كافة ترتيب سفرها «الحصول أولاً على جواز السفر بمساعدة ابنتها دون أن تعلم الأم أى شىء.. وعلى التأشيرة» ليفاجئها ذات يوم وقبل موعد سفرها بيوم واحد باتصال هاتفى: «بكرة هتسافرى يا ماما عشان العمرة»، لتشعر بسعادة بالغة غير قادرة على وصفها..!

بملابس الإحرام البيضاء رفعت السيدة فاطمة يديها أمام بيت الله الحرام، دعاء لجارها الابن المسيحى أيمن، راجية من الله زيادة رزقه وتوفيقه فى عمله «ده ابنى اللى مخلفتوش.. قلبه أبيض وتمرت فيه العشرة فقد ربيته منذ وفاة والدته منذ 15 عاماً.. ويا رب ما اتحرمش منه ويخليه لأولاده».

ما أقدم عليه الشاب أيمن هو قمة التسامح والمحبة.. ففى كل يوم يتكرر المشهد: يرتفع الأذان من فوق المآذن ليدعو المسلمين: حى على الصلاة.. حى على الفلاح.. وتدق أجراس الكنائس صباح الأحد لتدعو «شركاء الوطن» للإسراع إلى القداس ليؤكد مسلمو الوطن ومسيحيوه فى النهاية أنهم شعب واحد تربى وعاش على أرض الوطن على فطرة الله وأوامره، سبحانه وتعالى، التى تدعو البشر جميعاً للتعايش السلمى بينهم، إذ إن الجميع -عدا قلة حاقدة- يعلم أن الله هو الرب الواحد الذى بعث الأنبياء جميعهم برسالة واحدة تحمل نفس القيم الإنسانية وإن تنوعت الأديان.. فـ«تعاليم الله واحدة فى جميع الأمم»، وعندما تتقاطع أصوات المساجد مع بعضها بـ«الأذان».. وتختلط مع رنات الكنائس يبدأ الجميع فى التوجه إلى الله سبحانه وتعالى، كل وفق ما تفرضه عليه تعاليم دينه، فمن يسجد لله سبحانه وتعالى فى المسجد.. ومن يرسم بيمينه صليب عيسى عليه السلام أمام تمثال مريم البتول فى قاعة الكنيسة دون أن يلفت ذلك الأمر نظر الآخر!

سنظل على ما اعتدناه.. وأبداً لن تتحقق أوهام «أثرياء الدم» وتجار الدين وأصحاب الفتن من جماعة الإخوان وفروعها من الإرهابيين بأن بإمكانهم أن يصبح الوطن كله «مصلوباً» أو أن يتحول مواطنوه جميعاً إلى «معتقلين» داخل جدران الخوف على مستقبل وطن سعت أياديهم المحمومة ومكائدهم العديدة إلى محاولة تشويه ملامحه التى ارتسمت فى وجداننا عبر عشرات بل مئات السنين.. أبداً لن يشكل أبناؤه ميليشيات تواجه بعضها بعضاً من خلف «متاريس «الكراهية والحقد أو الثأر».. لن يحتمى مسلم خلف جدار مسجد خوفاً من أخيه المسيحى.. وبالمثل لن يتربص مسيحى خلف متاريس كنيسة لـ«يقتنص» جاره المسلم.. فنحن شعب أبعد ما نكون عن أن ننزلق إلى «هاوية الفتنة الطائفية» بل إننا سنصبّ جام غضبنا على جماعات العنف، وسنطلق «رصاصات القصاص» العادل على من اختار أن يواجه إرادة شعب واحد ويحاول إحداث الوقيعة بين الأشقاء ليكرر قصة «قابيل وهابيل» التى ذابت بين سطور التاريخ ولن تتجسد أبداً مرة أخرى..!

أبداً لن يبدل أى مصرى مسلم مسدساً بالمسبحة التى يحملها فى يده.. ولن يغير المسيحى وشم المدفع بالصليب الذى رسمه على ساعده الأيمن.. ولن تفرق مصر بين من يسجد لله سبحانه وتعالى 5 مرات يومياً، ومن يرسم على صدره بيمينه صليب عيسى عليه السلام عندما يخطو إلى كنيسته.. وستظل مصر المحبة والتعايش السلمى بين مواطنيها.. وستظل مصر نموذجاً لتطبيق «مدنية الدولة وحقوق المواطنة» تلقائياً كما عشناها بتفاصيلها الكاملة قبل أن تتضمنهما «بنود الدستور»..!

وبكل أمان ستظل مصر «تعيش فينا ولا نعيش فيها» كما قال قداسة البابا شنودة، نيّح الله روحه، فبالأمس احتفلنا جميعاً بعيد القيامة المجيد.. واليوم سيجمعنا الاحتفال بقدوم شهر رمضان الكريم وستظل مصر تعيش قصة «محبة إنسانية» سيدوم عنوانها «حكاية فاطمة وجورج» طوال العمر، وهكذا كنا وهكذا سنظل.. ولك يا أحلى اسم فى الوجود ولكل فاطمة ولكل جورج السلامة دائماً..!
نقلا عن الوطن