عادل نعمان
ولا أقصد بـ«هواه» هنا هوى الحب والعشق فقط، بل أقصد بهواه أيضًا هذا الهواء الذي يحيطه ويلفه ويغلفه، وما يحمله من ريح ورائحة تخترق الحصون والقلاع، فأضمهما معًا. ولا أعرف مَن منهما يسبق الآخر إلى نفسى، وأخمن أن هواءه يسبق هواه، أو قل رائحته تسبق لحمه، منذ اليوم الأول لوصوله إلى بيتنا، ويحط بسلام وأمان بلفائفه إلى مخابئه ومخازنه وسراديبه السرية، وحتى فك أربطته وحل وثاقه ونزع أحزمته، وتقطيع لحمه، فلا يتجول في بيتنا سوى برائحته فقط، ولا نشم سواها، دون بلوغه أو الوصول إليه أو إدراك مخبئه، أو كشف سره وستره، والغريب أن رائحته لا تختلط مع نسمة الصباح أو الأصيل، أو حتى مع عطر الحقول، أو يخالط كوب الشاى المغلى بالقرنفل الذي يطرد رائحة الشياطين، حتى هذا لا يقدر عليه، وكأنه دومًا متخاصم مع الغير لا يحب أنيسًا أو شريكًا أو رفيقًا، يتغلب ويفوز عليهم جميعًا بالقاضية، فما عُرض علىَّ يومًا على مائدة زاخرة وعامرة بكل أصناف الطعام، إلا واستجبت له، ولبيت رجاءه ونداءه، ووقعت في إغرائه، وفضلته على لحوم الآخرين، قل عنى ما تقول، ربما أحتاج يومًا في العام أن أعود فيه إلى جذورى وأصولى الأولى، وأتناول الطعام على «طبلية» جدتى، وأشرب من «قلتها» الملفوفة بالخيش في صينية على شباك بيتها في الدور العلوى واحدة هنا، والأخرى في الدور الأسفل للمارة وعابرى السبيل، أحتاج إلى بداياتى الأولى للخلق في الكهوف والبوادى والوديان، ألا تشعر يومًا بشوق إلى شارعك القديم الضيق المتهالك؟ أو تتوق إلى النوم ليلة في شقة الطفولة في نفس الشارع القديم الضيق المتهالك؟ تستعيد بداياتك الأولى، تتلمس في رفق أطلالك ورفات تاريخك القديم، وتشم وتتذوق رائحة بواكير طفولتك حولك، وتسمع وقع أقدامك المتعثرة وخطواتك المتثاقلة على درجات السلم المكسور، أو فشل المحاولة في تسلق سور الشرفة العالى حتى تطل على أقرانك، أو تمسك بتلابيب طفولتك فتشمها وتداعبها وتفرح بها، وتتمدد في شارعك وبيتك الذي كنتَ تمرح فيه وتلعب وتلهو وتنط وتقفز وتتسابق، ثم تقف حائرًا كيف كنتَ تلعب وتلهو في شبرين أو قدمين أو مترين، وكيف استوعبت هذه الأماكن الضيقة ضحكاتك على اتساعها، وخطواتك المتسارعة على طولها، وقفزاتك المتلاحقة على عرضها؟!. كنا صغارًا وكبرنا وضاقت علينا الأمكنة، هكذا هو، أحن إليه وأشتاق إلى لقياه، ولما أعود أشعر بالحنين يتسلل إلى طفولتى ولقيمات أمى، التي كانت تدفعها في فمى بعيدًا عن أعين الجميع، حتى لا تُلام على أذى الصغير.

ولى مع الفسيخ ذكريات جمة منذ الصغر، عندما كانت أمى تحرمنا منه ونحن صغار خوفًا علينا، فزاد تعلقنا وشغفنا به، وانتظرنا البلوغ والرشد حتى نقدر على لحمه وملوحته، والوصول إلى مائدته، وكانت أمى تكفينا بالبيض في شم النسيم، ولم يكن البيض ملونًا، فلم نعرف تلوين البيض إلا في قاهرة المعز الملونة، الفرق بين قريتنا والقاهرة هذه الأصباغ والألوان التي تغطى قشر البيض، كما تغطى وجوه وطلعة نسائها، كل شىء في الريف على طبيعته، أو قل بطينه، أو بـ«عبله»، وكم كانت تستهوينا ألوان البيض وألوان النسوة أيضًا، وربما كانت العلاقة وطيدة والشبه كبيرًا بين طراوة البيض وبضاضة أجساد النساء. يجلس كبار العائلة على الموائد يشمرون الأكمام، ويفتحون البطون، ويأكلون بشغف ونهم وشراهة، ونحن شاخصون نحلم أن تجمعنا يومًا صحبتهم على موائده، وربما فاز الواحد منا بلقمة أو لقمتين مغمَّستين على هوامشهما، أو قل مسّته مسًا، أو لمسته لمسًا، أو صافحته على عجالة، قل عنه غشا في الميزان، رحمة من عم من الأعمام، أو خلاصًا من رذالتنا من آخر، أو غشًا من ثالث، أو عطفًا من الأم. وحين بدأنا أول عهدنا به كان يسبق وصوله شم النسيم بأسبوع على الأقل، وكان يختفى في مكان آمن، بعيدًا عن القطط التي كانت تجوب البيوت بحرية، إلا أنها لم تنجح مرة في الوصول إليه، على انتشار رائحته التي تجوب البيت من الصباح حتى تمل وتختفى انتظارًا لليوم التالى، نساء الريف بارعات في إخفاء وتخبئة ودفن ما يريدن ألّا تطوله أنوف القطط أو أيادى الأطفال والآدميين قبل أوانه أو قبل «لمة العائلة» ببراعة وفطنة على ضيق المكان، وربما مات من النسوة في ريفنا الكثيرات ومعهن أسرار وكنوز اختفت وتوارت ودُفنت معهن..

ولم يكن لنا نصيب في بدايات الإفراج عن أكل الفسيخ في واحدة كاملة، كم كان الحلم يراودنى لسنوات طويلة أن تخصنى أمى بواحدة من بابها، أتعامل معها دون وصاية أو تلقين كما يفعل كل الكبار، فكانت تناولنى أول العهد لقمة وراء الأخرى حتى ينفد صبرها، ثم تشيح بوجهها عنى وتقول: «كفاية عليك كده»، حتى تتفرغ لبقية الإخوة ونفسها، أحيطك علمًا يا أمى بأننى الآن أسحب واحدة كاملة وأخرى، وكلما أمسكت بواحدة وأجهزت عليها، تذكرت لقيماتك، كم كانت شهية وطيبة وناعمة، بطعم قلبك الطيب، كل عام وأنتم بخير، وهو باق حتى نموت.
نقلا عن المصرى اليوم