سحر الجعارة
ما زلت أتذكر صوت الرصاص الطائش وهو يحصد الأرواح البريئة ليبقى «حكم المرشد»، أشتمّ رائحة الدماء الزكية التى أعادت ترسيم خريطة الوطن لتحرره من «الفاشية الدينية»، أحتفظ فى غرفة ابنى «جهاد» بالواقى من الغاز المسيل للدموع، وتنهمر دموعى كلما تذكرت مشهده وهو عائد من مواجهة «ميليشيات الإخوان»، من المظاهرات المطالبة بتحرير مصر.. أتذكر «المغير» ومخابرات «الشاطر» وعته «مرسى» وخبثه وهو يطالب بالحفاظ على أرواح «الخاطفين والمخطوفين»، والمخطوفون كانوا جنودنا فى سيناء.. ما زلت أحمل على قلبى الأحجار التى كنا نزيحها لنسير عكس الاتجاه حين تخرج المظاهرات من «اعتصام رابعة» المسلح لتقطع الطريق وترعب الآمنين.. ما زلت أحتفظ على جهاز «الأنسر ماشين» بالتهديدات التى كنت أتلقاها، ومشهد زجاج سيارتى الذى يتهشم كل يوم لأبتلع لسانى وأسكن خانة الصمت.. وأرضخ لحالة «الحظر» فلا أقول إن «مرسى» خائن وهارب من السجن!.

لكننى الآن فقط أشعر بالطمأنينة، أشعر بالانتصار الذى حققته قواتنا المسلحة فى مواجهة التنظيمات الإرهابية التى انتشرت فى كل بقاع «المحروسة» واستوطنت سيناء.. فمع كل بيان من القيادة العامة للقوات المسلحة كان الشعب بأكمله يشعر أنه استرد الإحساس بالأمان.. أصبحنا جميعاً ننتظر كلمات «المتحدث العسكرى» أياً ما كان اسمه.. نتابع عملية تنويع مصادر السلاح، وجولات الرئيس «عبدالفتاح السيسى» بين الأفرع المختلفة لقواتنا المسلحة.. نلهث ونحن نتابع ماراثون الرئيس مع طلبة الكلية الحربية.. باختصار سقطت السيوف من على رقابنا، أصبح لنا وطن محدد الملامح والحدود.. وحتى مشكلاته وأزماته الاقتصادية واضحة، وخطته للإصلاح معروفة.. فلماذا تذكرت تلك الأيام العصيبة الآن؟!

تذكرتها بمناسبة عودة الصورة القميئة لظهور «أبوبكر البغدادى»، زعيم تنظيم «داعش» الإرهابى، إلى المشهد مجدداً.. بعدما ترددت أنباء كثيرة عنه، ما بين إصابته وتسمُّمه ومقتله، وفى الوقت الذى رصدت فيه الولايات المتحدة الأمريكية 25 مليون دولار لمن يدلى بمعلومات تساهم فى القبض عليه.. بعد آخر ظهور له فى عام 2014.

وفى التسجيل المصور الذى نشره التنظيم عبر تطبيق «تليجرام» تحت عنوان «فى ضيافة أمير المؤمنين»، يظهر «البغدادى» بلحية طويلة بيضاء ومحناة الأطراف، واضعاً منديلاً أسود على رأسه، وبدا وزنه زائداً، مما أثار السخرية من ظهوره على «فيس بوك».

يقول «البغدادى» فى بداية المقطع، إن «معركة الباغوز انتهت»، فى إشارة إلى طرد التنظيم من آخر جيوبه فى شرق سوريا قبل ما يقارب الشهر على يد «قوات سوريا الديمقراطية». ويشدد البغدادى فى الفيديو على أن مقاتلى التنظيم، الذى مُنى بهزائم عسكرية متتالية على مدى السنتين الماضيتين «سيأخذون بثأرهم»، مؤكداً أن الاعتداءات الأخيرة التى استهدفت سريلانكا فى عيد الفصح وتبناها تنظيمه جاءت «ثأراً» للباغوز.

لقد خسر «البغدادى» دولة «الخلافة» التى أقامها لأكثر من ثلاث سنوات، والآن يختبئ فى كهوف الصحراء السورية، بحسب محللين.. وبعدما كان يتحكم فى وقت ما فى مصير سبعة ملايين شخص على امتداد أراض شاسعة فى سوريا وما يقارب ثلث مساحة العراق، لا يقود «البغدادى» اليوم إلا مقاتلين مشتتين عاجزين بأنفسهم عن معرفة مكان وجوده.

تكلم زعيم «داعش» بشكل مصوَّر عن سقوط نظام الحكم فى السودان، ووجَّه التحية لبعض الميليشيات الليبية، وهنا يجب أن ننتبه إلى أنه لا يمكن أبداً فصل ليبيا عن مصر، فالتحدث عن ليبيا يعنى ضمناً الحديث عن الأمن القومى لمصر!.

وتحدث «البغدادى» عن صراع بين «أمتين، أمة الصليب وأمة الإسلام»، وهذه جزئية من صميم استراتيجية التنظيم، وإشارة واضحة إلى أن كل العمليات التى ستجرى وحتى العمليات التى جرت فى نيوزيلندا وسريلانكا ستأخذ هذا البعد، أى الإسلام المتطرف مقابل الديانات الأخرى.

فظهور «البغدادى» فى هذا التوقيت يدل على أن هناك دوراً وظيفياً جديداً سيلعبه التنظيم مستقبلاً، وهو دور قد يكون عابراً لمنطقة الأزمات والاضطرابات التى كانت محصورة إلى حد ما بالعراق وسوريا.. وهذا يدعونا لمراجعة وقراءة جديدة فى ملف جريدة «الوطن» الذى تناول «الدواعش العائدين»، والذى عرض لمختلف الزوايا الأمنية والنفسية، وشرح أساليب البقاء والصراع على السلطة الذى تدور حوله الكيانات البديلة، وتكنيك عملياتهم.. فقد أكد «الملف» أن الحرب ضد «داعش» هى بالأساس حرب فكرية، وأن «المعلومات» هى أقوى سلاح فى مواجهة الإرهاب، وهى -أيضاً- الفريضة الغائبة!.

لقد ظهر «البغدادى» ليجمع كوادره ومصادر تمويله من جديد، مثلما بثَّ «أبومحمد العدنانى»، القيادى الداعشى، تسجيلاً صوتياً فى 2014، يأمر فيه المتعاطفين مع التنظيم بقتل رعايا دول الائتلاف المناهض لـ«داعش» فى سوريا فى أى مكان، دون العودة إلى قيادة «داعش» أو حتى الانضمام إليه تنظيمياً.. وهو ما أظهر ما يسمى بخلايا «الذئاب المنفردة»، التى كان أشهرها فى مصر «محمود شفيق» منفذ عملية تفجير الكنيسة البطرسية.

فى العدد القادم سنعود للحديث عن أدبيات التنظيم الإرهابية، والمعركة التى لم تحسم بها، وهى المعركة الفكرية.
نقلا عن الوطن