القس أندريه زكي
نحتفل فى هذه الأيام بعيد القيامة المجيد؛ الحدث الفريد الذى غيَّر مسار التاريخ. وإذ نبتهج بالقيامة، نستلهم منها أفكارًا خلاقةً تجاه حياتنا وكنيستنا ومجتمعنا، تدعونا إلى عدم الاستسلام وكسر الجمود، والتطوير والتجديد المستمر لحياتنا وأذهاننا وأفكارنا وروحانياتنا.

تمثل القيامة حَجَرَ زاويةٍ فى حياة السيد المسيح التى كانت ثورةً ضد جمود وفساد النخبة الدينيَّة، والمظهرية والروحانية المترهلة الزائفة التى تفصل بين العقيدة والسلوك.

والمتأمِّلُ فى حياة السيد المسيح فى الأناجيل يجد أنه اهتم بقضية التجديد الدينى، وأنه كان نموذجًا فريدًا للتجديد. ورغم نشأته فى بيئةٍ يهوديةٍ، والتزامه بأسفار العهد القديم، فإن حياته وتعاليمه كانت نقلةً جديدةً وقفزةً غير مسبوقة إلى المستقبل.

قال السيد المسيح فى إنجيل متى 9: 16: « لَيْسَ أَحَدٌ يَجْعَلُ رُقْعَةً مِنْ قِطْعَةٍ جَدِيدَةٍ عَلَى ثَوْب عَتِيق». تأتى هذه الكلمات فى سياق اهتمامه بقراءة جديدة وخلاقة للشريعة وللنص المقدس، وتأتى أيضًا لتلخِّص الرؤية الثوريَّة للمسيَّا المبدع، الذى جعل من شخصه رجاءً جديدًا. لذا فإعادة القراءة لدوره التجديدى هى بمثابة شمعةٍ تضىء لنا الظلام وطاقة نور لإعادة فهم المسيا المقام.

من خلال القيامة أيضًا نستطيع أن نستلهم كيف تعامل المسيا مع الواقع بعد قراءته جيدًا، وكيف أعد تلاميذه للحظة القيامة، وكيف حوَّل تلاميذه من جماعة يهودية لديها أسئلة متعلقة بهويتها وثقافتها إلى جماعة منتصرة غيَّرت التاريخ البشرى كله.

التطور التدريجى فى إعلان الرسالة
لا يحدث التجديد فجأةً، ولا يُقحم على الناس من خارج سياقهم الاجتماعى والمفاهيمى. وهذا ما نستلهمه من حياة السيد؛ حيث استخدم مفاهيمَ قائمةً فى عصره لإعلان رسالته؛ فتحدث كثيرًا عن ملكوت السماوات دون شرح موسَّع، وبنفس المفهوم السائد فى عصره. تجاوب السيد المسيح مع النظام الدينى فى عصره، متفاعلًا مع المجمع ومشاركًا فى الحوارات الدينية. لهذا جاءت رسالته فى مرحلتها الأولى متجاوبةً بشكل كبير مع البيئة التى نشأ فيها.

أعلن السيد المسيح تدريجيًّا أن رسالته تتخطى حدود الديانة والقومية اليهودية إلى نطاق العالمية؛ فبعالمية الرسالة أسقط السيد مفاهيم كثيرةً سائدةً كتميُّز شعب إسرائيل بأنه شعب الله المختار، أو ارتباط الدين بالقومية والأنساب، ودمَّر حواجز التميز والأنانية.

نحتاج إذًا لقراءة بناءات المجتمع المتعددة والمختلفة، والفهم العميق للمتغيرات والتحديات خلف هذه البناءات، كما نحتاج للتدريب على التعامل مع الواقع بمنهج تدريجى يسهم فى عملية تغيير ثابتة ومؤثرة.

دقة المصطلح ودلالة الحدث
تحمل المصطلحات دلالاتٍ عميقة تستدعى انتباهًا شديدًا. لذا استخدم السيد المسيح تعبيراتٍ تميزت بدقة المصطلح ودلالة الحدث؛ فلم يستخدم لفظة «المسيا» لما لها من حساسية سياسية لدى المستعمر الرومانى وموقف دينى لدى اليهود. استطاع السيد المسيح تجاوز المصطلح فى مدلوله العادى واستخدم بدائل تعطى نفس المعنى والدلالة، من أجل استمرار رسالته وتحقيق هدفها. استخدم السيد المسيح كلماتٍ لها دلالات فى الفكر الدينى اليهودى ليشير إلى مسيانيته دون استخدام تعبير «المسيا». واحدة من هذه المفردات الهامة هى كلمة «الراعي»؛ وهى من السمات الأساسية للمسيا، كما استخدم مواقف عملية لتأكيد نفس المعنى، مثل الدخول الانتصارى إلى أورشليم، وكذلك تطهير الهيكل، وكل هذه مواقف عملية أكدت مسيانيته وسلطانه.

نحتاج اليوم لإعادة النظر فى المفردات التى نستخدمها والمواقف التى نتبنَّاها، نحتاج لمفرداتٍ لاهوتية يفهمها الجميع. ونتبنى مواقف أقوى وعظيمة التأثير ينبغى أن نتعامل معها من خلال إطاراتنا اللاهوتية ورؤيتنا للتغيير وأهدافنا المتعددة. نحتاج أن نتعلم من المسيا إدراكه لدلالة الحدث الذى نعبِّر عنه بمصطلحاتٍ دقيقةٍ.

تعدُّد البدائل وقيمة التغير
استخدم السيد المسيح بدائل كثيرة تتجاوز النماذج التقليدية؛ ففى مجال العقيدة قدم نموذجًا يتجاوز جمود الشرائع إلى فاعلية شخص الله وقوته؛ إذ قال فى إنجيل متى 5: 17: «مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ»، الاتجاه للنقض والهدم يصيب المحيطين بالإحباط والرفض، لكن النقد يعود بالنفع ويكمل المسيرة بنجاح. أعلن السيد عن تحول جذرى يعترف بالقديم لكنه لا يقف عنده، فلا يصلح أن تضع رقعة قديمة فى ثوب جديد. وهنا نرى قيمة التغيير؛ فالنظام اليهودى تم تأسيسه على الشريعة وطقوسها، وأدى دوره التاريخى فى حياة البشرية، أما النظام الجديد فهو مؤسَّسٌ على فاعلية شخص المسيح وديناميكيته فى الأحداث والزمن، ومُؤسَّسٌ على الإنسان وأهميته «السَّبْتُ إِنَّمَا جُعِلَ لأَجْلِ الإِنْسَانِ، لاَ الإِنْسَانُ لأَجْلِ السَّبْتِ» (إنجيل مرقس 2: 17)، فكل الشرائع والطقوس هى لخير الإنسان.

لقد طرح السيد بدائل عديدة تشمل التوبة الصادقة والاهتمام بالقريب وعمل الرحمة وقبول الآخر وكلها بدائل تتجاوز تقليدية الناموس وطقسيته، إلى عقل حر متجدد وتتعامل مع الله والآخرين.

سماحة النص وجمود التفسير
بالرغم من مرور ما يزيد على عشرين قرنًا من الزمان على حياة السيد المسيح، إلا أننا نستطيع أن نؤكد أن الطريقة الإبداعية التى تعامل بها السيد المسيح مع النص الدينى والمؤسسة الدينية فى عصره لا يمكن إعادة إنتاجها اليوم.

لقد أنتج الكتبة والفريسيون تفسيرًا جامدًا متصلِّبًا، مناقضًا لسماحة النص الدينى ومرونة قراءته من عدة زوايا، وفى بعض المرات، اعتبروا التفسير أقدس من النص ذاته. حاول بعض المفسرين أن يتوحدوا مع النص الدينى، ويجعلوا من قراءتهم للنص ما يشبه وحيًا جديدًا، فعقَّدوا الحياة الروحية للناس.

القيامة وإعادة صياغة رؤية الجماعة وهدفها
القيامة إذًا طاقة نور استطاع التلاميذ والجماعة الأولى، من خلالها العودة لقراءة حياة المسيا وفهم تعاليمه والإدراك الجديد لرؤيته. لقد غيَّرت القيامةُ حياةَ هذه الجماعة تغييرًا جذريًّا.

والكنيسة اليوم تحتاج أن تعيش بروح القيامة؛ فتعيد قراءة حياة سيدها وفهم رسالته بعمق جديد؛ فالتطور التدريجى لإعلان الرسالة كان رفقًا بسامعيه لينقلهم من أرض جامدة متحجرة إلى فاعليةٍ جديدةٍ هو بشخصه أساس تفاعلاتها. حرصه فى استخدام مصطلحات تحمل المعنى العميق لرسالته دون الصدام أو التهور لعب دورًا كبيرًا فى وصول رسالته إلى الجميع. قدرته فى تقديم بدائل جديدة فتحت آفاقًا جديدةً ومساحاتٍ غير تقليدية أمام تابعيه.

هذا التأثير الغنيُّ للقيامة لا يمكن حصره، لذا فإنى أصلى أن تعيش الكنيسة حياة القيامة، التى تربط العقيدة بالفعل، وتؤمن بهزيمة الموت وتثق بسيدها.

أصلِّى أن تغيِّرَنا القيامةُ، إذ نراها بعيون فاحصةٍ متأملةٍ فى معانيها، وتقيمَنا من قبور الجمود ورفض التجديد، وتطلقنا لمفاهيم أعمق تجاه مقاصد الله الجليلة لحياتنا ورسالتنا تجاه كنائسنا ومجتمعاتنا، تنفتح عيوننا لترى نور الحياة فى ظل الخير والمحبة والسلام.. أتطلع لكنيستى وهى تنتقل من مفهوم البقاء إلى مفهوم الانتصار، وإلى بلادى وهى تنطلق فى رحلة التجديد، من خلال العمل والوعى ومنظومة القيم الإنسانية المبدعة.

* رئيس الطائفة الإنجيلية في مصر
نقلا عن المصرى اليوم