صفوت البياضي
حرق برج أقدم كنيسة فرنسية يرجع تاريخها إلى القرون الوسطى وتشكل موقعًا سياحيًا عالميًا يقصده المؤمنون وغير المؤمنين، فى بلد أوروبى ليس بينه وبين أى دولة أخرى من أى منطقة على الخريطة العالمية معارك أو عداوة، لا دينيا ولا عقائديا، أمر مقلق ومحزن حقًا.. لقد فتحت فرنسا أبوابها، شأنها شأن دول أوروبية أخرى لقبول الذين يلجأون إليها سياسيًا أو أمنيًا حتى وإن اشتركوا فى ذات الديانة ومن أتباع ذات العقيدة، ولمثل هؤلاء مواقفهم التى قد يرضى عنها البعض من أبناء وبنات بلدانهم، وغيرهم من الخارجين على سياسة حكوماتهم ويعرفون جيدًا مصيرهم لو بقوا فى بلدانهم، فلجأوا إلى بلاد الغرب مدركين جيدًا أن يد العدالة لن تقترب منهم، وفى ظنى أن العقلاء منهم يدركون أنهم فى مأمن من كل جانب، إذ إنهم بعيدون عن الحساب والعقاب دونما خوف أو حتى ارتياب. والحكمة تقتضى التزام الغرباء بآداب وقوانين البلاد التى رحبت بهم وضمنت لهم حماية وأمانًا، وأن لهم ما لمواطنى تلك البلاد، وعليهم ما على أصحاب هذه الأوطان.

من العار تدمير صرح تاريخى وإنسانى عريق، وليس فقط دار عبادة أهل هذه البلدان التى رحبت بمن جاءها لاجئًا من مطاردة حراس القانون، أو من جاءها طلبًا لعيش أفضل وفرص عمل أوسع وعائد مادى أفضل، حتى إن منهم من أصبح قادرًا على مد يد العون لذوى القربى وذوى العقول الواعية، ومن باب رد الجميل أن يحافظوا على أمن هذه البلدان وسلامة أراضيها ومن وما عليها، ومن باب أولى دُور عبادتهم وفق عقائد أهلها.

إن ثقافة أبناء الضاد التى نشأنا عليها هى حفظ الجميل لآباء ربونا ومعلمين علمونا، حتى قالوا فى تعبيراتهم البسيطة والتى لا نتفق معها حرفيًا وإنما تشير إلى بساطة التعبير والمبالغة فى رد الجميل «من علمنى حرفًا صرت له عبدًا»، فما بالنا بدول فتحت القلوب قبل الحدود، وأطعمت الجياع وطمأنت كل مرتاع.
إن حادث حريق كنيسة عريقة التاريخ بالعاصمة الفرنسية لن يفقر شعبًا تسابق فى العطاء دون أن تحمل الدولة أى أعباء مالية، بل تسابقت الجموع فى التبرع، وفى ظنى أن جهات أخرى من دول عربية وغربية سوف تتبارى فى العطاء لتعود الكنيسة كما كانت، وتعود الخسارة التى لا عوض عنها على كل من شارك بالفعل أو بالقول فى هذا الحادث الجلل الذى دمر معالم تاريخية لم يكن لأصحابها ذنوب أو عيوب إلا أنهم فتحوا الأبواب ومن قبلها القلوب، ليس عن خوف واضطرار، بل عن خُلق وثقافة واختيار.

ولما كان الحدث الجلل هذا لم تمض عليه أيام قد تعلن الحقيقة وراء حريق ذلك الهرم التاريخى بالنسبة لأبناء فرنسا وبالنسبة لملايين البشر من ديانات وعقائد متعددة، وستعود هذه التحفة المعمارية كما كانت وتعود البسمة لكل وجه صبوح وتبقى الحسرة والملامة على كل يد آثمة امتدت لتتسبب فى هذا الحدث الذى ترفضه العقول النيرة والنفوس السوية والقلوب العامرة بفضائل المولى وحب وعطاء وكرم شعوب عامرة بالإيمان، ولسوف تنجلى الحقائق وعندئذ نقول: لقد انتهى الدرس والعبرة لمن يعيه، حتى تتبدل اليد المدمرة بيدٍ معمرة، وعندئذ نقول: لا غرابة بعدُ إذًا ولا ريب، فقد عدل المسلك واستنارت العقول ليعيش الكل بلا خوف ولا تخريب أو تدمير، بل معًا للبناء والتعمير.

تحية للشعب الفرنسى وللمسئولين الفرنسيين، حكومة وشعبًا، لتناول الموضوع فى حكمة وروعة، فلم نسمع اتهامات يقذف بها دون سند أو علم يقين، وتحية لأصحاب القلوب المحبة للسلام والتى تتسابق فى العطاء بسخاء، ويقينى أن دولًا أخرى سوف تتسابق للمشاركة فى عودة الصرح العظيم إلى أفضل مما كان.
نقلا عن الدستور