د. هبة جمال الدين
كثر الحديث مؤخرًا عن الأديان الإبراهيمية، أو الدين الإبراهيمي العالمي، ودوره في تحقيق السلام العالمي والأخوة الإنسانية والمشترك الديني. وقد وصل الحد إلى ترديد شعار “معًا نصلي”، الأمر الذي يحتاج إلى تفسير ما المقصود؟ وما المعنى والهدف؟ وهل هي تسميات عابرة، أم إنها تحمل نهجًا جديدًا يرسم
مستقبلًا مختلفًا؟

الواقع أن “الديانات الإبراهيمية” هو مصطلح تم إطلاقه مع مطلع الألفية الثالثة ليشير إلى الأديان السماوية الثلاثة. وجاء طرحه ضمن مفهوم جديد لحل النزاعات والصراعات الممتدة والقائمة على أبعاد دينية متشابكة، وهو مفهوم “الدبلوماسية الروحية”، لتمثل خلاله الأديان الإبراهيمية أحد أبرز أركان هذا المفهوم الجديد. فقد تم إطلاق لفظ “الإبراهيمية” نسبة إلى نبي الله إبراهيم ورمزيته في الأديان السماوية الثلاثة، ليكون بوتقة لصهر الخلافات وتنحيتها جانبًا. وفي هذا الإطار، يرى “جيمس روزينوه” أن مستقبل العالم سيرتكز على السلام العالمي الذي سيتحقق عبر الديانات الإبراهيمية والعقائد المتداخلة، كمدخل جديد لحل النزاعات في العلاقات الدولية، وكطرح بديل لنظرية “هنتنجتون” حول “صدام الحضارات”، ونظرية “فوكوياما” حول “نهاية التاريخ”؛ بل ليعكس نهجًا جديدًا داخل علم العلاقات الدولية كانت أهم ملامحه ظهور مفاهيم جديدة؛ كالتسامح العالمي، والأخوة الإنسانية، والحب، والوئام، كمفاهيم جديدة مطروحة داخل هذا الحقل.

بهذا المعنى، فإن الأمر يتطلب ضرورة الوقوف على مغزى هذا الطرح: هل هو حقًّا بهدف الوصول للسلام العالمي؟ أم هو مجرد طرح بديل لفوكوياما وهنتنجتون يحمل نفس الغاية الصدامية التي تُعلي من هيمنة الغرب وتحقيق مصالحه بالأساس؟

الإجابة على هذه التساؤلات تتطلب استكمال تناول أركان مفهوم “الدبلوماسية الروحية”، التي تمثل مبادرة لتحقيق السلام العالمي عبر التقارب بين الأديان السماوية للوصول للمشترك الديني، وتنحية النصوص المختلف عليها عبر إعادة قراءة النص الديني، وترجمته عبر ما يُعرف بدبلوماسية “المسار الثاني” أو المفاوضات غير الرسمية، التي تجمع رجال الأديان الثلاثة معًا بجانب الساسة والدبلوماسيين لترجمة المشترك الديني على الأرض، ولإعطاء أصحاب الحق الأصلي الحق على الخريطة، ليكون مستقبل العالم رهن قرارات تلك الآلية التي ستكون هي أساس مركز الحكم العالمي التي ستدعمها المجتمعات المحلية عبر “أسر السلام” و”الحوار الخدمي”، أي الخدمات والمساعدات التي تُقدم لجذب أتباع يشعرون بالامتنان لأصحاب هذا الفكر، ومن ثم يصبحون أكبر الداعمين له.

هذا الطرح يحمل في ثناياه العديد من التساؤلات، قد يكون أبرزها: من هم أصحاب الحق الأصلي؟! وهل يمكن الربط بين هذا الطرح والجهود المبذولة من جانب إسرائيل للمطالبة بتعويضات من الدول العربية التي عاش داخلها اليهود قبل هجرتهم منها؟ خاصة في ظل ظهور كتابات تنادي بالحقوق التاريخية لليهود من قبل عدد من ضباط الموساد الإسرائيلي، بل وتلاقي هذا الطرح مع تأسيس جمعيات بالدول العربية ترفع شعار إحياء التراث اليهودي! هل الهدف هو تأصيل الادعاء بوجود حقوق تاريخية أصيلة في الأرض العربية؟! هذا تساؤل تطرحه الباحثة فقط على ذهن القارئ للتدبر والتأمل.

الأركان الأساسية للإبراهيمية
بالرجوع إلى مفهوم “الإبراهيمة” سنجد أنه يطرح عددًا من الأركان الرئيسية، أبرزها ما يلي:

محورية النبي إبراهيم باعتبار أن ذكره يحمل القبول والقدسية والتقارب، ويمثل المشترك بين الأديان.
أن الديانات الإبراهيمية هي التي ستتحاور لتصل إلى وضع ميثاقٍ تكون له القدسية الدينية كبديل عن المقدسات السماوية، يؤسس للمشترك الديني بين هذه الأديان وينحي الخلاف.

الجمع بين رجال الدين والساسة والدبلوماسيين ليعملوا معًا لوضع المتفق عليه دينيًّا على الأرض، وترجمته سياسيًّا لحل الصراعات المتشابكة.
الاعتماد على آلية دبلوماسية المفاوضات غير الرسمية (دبلوماسية المسار الثاني) كساحة لعمل وتعاون رجال الدين والساسة لمناقشة القضايا الحساسة خارج الأطر الرسمية، تمهيدًا لإعلانها لاحقًا حال الاتفاق عليها، وتمهيد الساحة للإعلان عنها رسميًّا.

أن القادة الروحيين هم من الأدوات المهمة لنشر هذا المفهوم على الأرض، وجذب المريدين والمؤمنين بالفكرة، ويتم اختيارهم بناء على معايير كثيرة، أهمها تمتعهم بالتأثير الفعلي داخل مجتمعاتهم، وتمتعهم بسمعة طيبة وعدد كبير من المريدين.

“أسر السلام” هي جماعات قاعدية تنتشر بكافة الدول والمجتمعات التي تعاني من نزاعات دينية قائمة، أو نزاعات كامنة غير واضحة على الأرض، بهدف حل الصراع والتقريب بين القيادات الإبراهيمية عبر ضمانة تطبيق الميثاق الإبراهيمي المشترك.

“الحوار الخدمي” هو أداة لجذب المريدين والمؤيدين والداعمين من المجتمعات المحلية، حيث يتم نشر الأفكار والحوار بشأنها خلال تقديم خدمات تنموية على الأرض تكفل التخلص من الفقر العالمي عبر خلق دخلٍ للأسر الفقيرة لتصبح من أصدقاء السلام العالمي.

تُعد القيادات الصوفية هي الأكثر قربًا للتعامل مع الفكرة وتقريب وجهات النظر على الأرض، حيث لا يُنظر للصوفية باعتبارها مقصورة على الدين الإسلامي فقط، ولكنها تمتد إلى باقي الديانات السماوية، بل وتشتمل على الملحدين أيضًا، كبوتقة روحية قادرة على خلق المشترك والجمع بين المريدين على الأرض.

البحث العلمي المستمر حول المشترك الديني وإعادة قراءة النصوص الدينية المقدسة لوضع الميثاق الإبراهيمي المقدس، ونشر الفكر وتحديثه، ورفع الوعي، وبناء الكوادر العلمية المتخصصة، ووضع خطط العمل التنفيذية لحل الصراعات.

هناك عدد من الكيانات العلمية الداعمة للفكرة، كالجامعات الدولية، وفي مقدمتها جامعهة هارفارد ومشروعها الذي يرصد رحلة النبي إبراهيم بين عشر دول ليرسخ للفكرة بين الدول المختلفة.

أن السلام العالمي مدخله الأساسي هو الاستقرار بمنطقة الشرق الأوسط باعتبارها أساس استقرار العالم وفقًا لأنصار فكرة “الإبراهيمية”؛ فالشرق الأوسط هو نطاق الت