البرادعي وزويل ورئاسة مصر: آلام الاحتضار وأحلام التغيير

فرانسوا باسيلي

بقلم: فرانسوا باسيلي
أصيب معظم المصريين بالدهشة والفرحة والزهو والحسرة معا حين شاهدوا مقابلات تليفزيونية مطولة في عامي 2009 و 2010 مع رجلين تجمع بينهما عدة متشابهات هما د. مصطفى البرادعي الحائز على جائزة نوبل للسلام عام 2005، و د. أحمد زويل الحائز على نوبل في الكيمياء عام 1999.. الدهشة والفرحة والزهو والحسرة صاحبت تساؤلاً حارًا صعد بسرعة وحرقة في صدور المصريين وهم يستمعون إلى هذين الرجلين يتحدثان في مزيج مبهر من الحكمة والمعرفة والذكاء والخبرة مع بساطة آسرة ودماثة خلق ورهافة حس وثقة في الوطن والمواطنين.. لقد شاهدوا الرجلين فعرفوا سر تقدير العالم لهما، وتصاعد تساؤلهم الموجع: كيف لا يحكم مصر هؤلاء الرجال أو رجال في قامتهم؟!
كيف يكون في استطاعة مصر أن تلد وتنتج مثل هؤلاء الرجال ثم لا تستطيع أن تصل بهم إلى مواقع القيادة العليا بها؟ كيف يكون لمصر القدرة على تكوين مثل هذه المواهب والفرائد الإنسانية ثم تسلم نفسها لجماعات من المنتفعين الذين لا يعرفون سوى (حاضر يافندم) و"سيادتك تأمر يافندم" في غياب بائس للرؤية الوطنية أو حتى الإدارية وتخبط فاضح في القرارات والمشروعات مما أدى على مدى أكثر من ثلاثين عامًا إلى حالة من الانحطاط لم تعرفها مصر منذ عهد "المماليك" قبل أن يقضي عليهم محمد على في مذبحة القلعة؟! من عمق آلام الاحتضار التي يعانيها المجتمع المصرى اليوم وفي بريق الحلم بالتغيير الذي طال انتظاره وحان استحقاقه يتساءل المؤمنون بمصر والمصريون: لماذا لا يكون البرادعي أو زويل رئيسًا لمصر؟!.

فى مساء الثاني من فبراير 2010 وقع حدث إعلامي وفكري غير مسبوق في مصر حين ظهر د. أحمد زويل في قناة دريم المصرية الخاصة، والحدث غير مسبوق في عدة أوجه، فقد قامت الإعلامية المميزة منى الشاذلي بدعوة الإعلامى الأشهر محمود سعد للاشتراك معها في محاورة د. أحمد زويل في حلقة خاصة من برنامج "العاشرة مساء"، كما جاءت الحلقة غير مسبوقة في طولها إذ استغرقت حوالى أربع ساعات مما منح المشاهدين فرصة فريدة للاقتراب بشكل حميم من عقل وقلب العالم العربي الأشهر.. ثم ازداد عمق وثراء الحدث حينما أتيحت الفرصة لعدد من المثقفين والمبدعين المصريين بالاتصال هاتفيًا بمداخلاتهم وأفكارهم لتكتمل أمام المشاهد المندهش أركان احتفالية علمية وثقافية وسياسية بالغة الإثارة والمتعة والفائدة.. ورغم أن د. زويل حاول أن ينأى بنفسه عن الخوض في السياسة، إلا أن الاحتفالية ألقت بنا في خضم الواقع السياسي في مصر اليوم لأنها فجرت في صدور المشاهدين سؤالنا الذي بدأنا به وهو: كيف لا يكون أحمد زويل، أو شخص في قامته، رئيسًا لمصر؟!
والذى منح هذا الحدث الأعلامى المميز أهمية إضافية هو أنه جاء بعد أحداث إعلامية بالغة البؤس والسفاهة وقع فيها الإعلام المصرى بكل أشكاله، سواء في سقوطه في مسخرة الحرب الكروية بين مصر والجزائر للتأهل لنهائيات كأس العالم في الأشهر السابقة، أو في المبالغة الممجوجة في أعياد الفخر والنصر وإدعاءات التفوق الحضاري لحصول المنتخب المصري على بطولة إفريقيا في الأيام القليلة السابقة لظهور زويل على شاشة دريم.. هذه المبالغة في نصب أعراس النصر والفخر تكشف كيف انتهى أمر المصريين المسحوقين في واقع يومي مرير ينضح بالفشل في أهم الجوانب الحياتية إلى التشبث في اهتمامه بالمجال الأخير الذي يمنحهم نصرًا وفرحًا وهو المجال الكروي، إنه فرح مشوب بالحسرة لأنه الاستثناء الذي يؤكد واقع الوجع الوطني الشامل الذي ينزف حزنًا وبؤسًا يوميًا في أرض الكنانة، وجاءت مقابلة زويل لتمنح المصريين أمل وإمكانية انتصارات في مجالات أخرى إذا ما تقدم الركب شخصيات مثل هذه.

كما أن هذا الحدث الإعلامي جاء قبل أسبوعين أو أكثر بقليل من اليوم الموعود الذي يصل فيه الدكتور البرادعي إلى وطنه مصر في التاسع عشر من فبراير 2010 وما يثيره هذا من آمال وأشواق في قلوب المصريين التواقة إلى غدٍ أكثر جمالاً وعزة تستحقه مصر الكبيرة القديمة المتجددة أبدًا كنهاية لمسيرة انحداراها المستمر بعد آخر إنجاز حقيقي لها في حرب العبور الباهرة عام 1973.
ولكن ماذا في شخصية وخصال البرادعي أو زويل ما يجعل الكثيرين من المصريين يحملون لهما كل هذا الفرح والنداء والأمل والرجاء؟ هل هي ظاهرة التعلق بالمخلص المنتظر والبطل المنقذ الفذ الذي تنعقد عليه آمال وأحلام الأجيال؟، أعتقد أن الأمر أعمق من هذا، وله جوانب أخرى.. إحداها هي أن ظهور البرادعي وزويل بالشكل والجوهر والمستوى الذي ظهرا عليه قد منح المصريين فجأة بديلاً مثيرًا متلألئًا بدت على ضوئه الاحتمالات الأخرى المطروحة على الساحة السياسية - وهى إما التمديد للرئيس مبارك أو التوريث لابنه أو الإخوان- بدت هذه الاحتمالات باهتة فقيرة فاقدة لأي بريق أو إثارة.. فهي لا تقدم لنا سوى إما المزيد من سنوات البؤس الحالي على أيدي نفس المسئولين عن صناعة هذا البؤس، أو التحول إلى الدولة الدينية بكل ظلامها وظلمها على أيدي الإخوان المسلمين ورؤيتهم الخارجة عن العصر والغارقة في أحضان السلف بأفعالها وأقوالها وفتاواها وتقواها الشكلية الفارغة من المعنى والمعادية للعصرية والمدنية، وهدفها النهائي إقامة الدولة الدينية وإعادة الخلافة!.

في غمرة بؤس هذه الاحتمالات التي كانت تدفع اليأس في قلوب المصريين التواقين لأنوار التغيير، ظهر البرادعي وزويل كنموذج من لحم وشحم ومن فكر وثقافة وثراء إنساني مثير لما يمكن أن يكون عليه البديل الحقيقي للقائد وللمنظومة الفكرية السياسية المصاحبة له التي يمكن أن تحكم وتقود مصر إلى مستقبلها المنشود.
لقد جاء البرادعي و زويل ليمنحانا مثالاً حيًا وإمكانية واقعية تقول لنا إنه من الممكن الحصول على بدائل ورؤى أكثر إثارة وجمالاً لمستقبل مصر، لقد كاد المصريون أن ينسوا- وهم يرزحون تحت ثقل وخمول النظام الثقيل المتراخي الممل الفقير الموهبة الفاقد للرؤى الذي لم يعرفوا سواه على مدى جيلين كاملين - كادوا أن ينسوا كيف يتحدث ويفكر ويحلم ويعمل الموهوبون المميزون المثقفون من الرجال القادة، كل في مجاله، حتى شاهدوا البرادعي وزويل فتذكروا أن هناك نوعية مختلفة تمامًا من النماذج الإنسانية المصرية التي يمكن أن توجد وتتقدم وتتقلد الزمام وتقود وتحلم وتحكم، نوعية تختلف عن نماذج تمرغت في الفساد السياسي عقودًا بعد عقود وأصبحنا نشاهد ألعابها البهلوانية وأكاذيبها المفضوحة على ملأ الأشهاد في كل قضية أساسية يدمى لها قلب مصر مثل قضية الفتنة الطائفية الأخيرة في نجع حمادى والتي تعامل معها المسئولون بأساليبهم البالية في التشدق والفجاجة والتزييف العلني، بالإضافة إلى البذاءات والتهديدات التي يقذف بها بعض "رجالات" الحزب الوطني كل من يفضح أساليبهم الملتوية.. وما يُسمى بالفتنة الطائفية ليست سوى مظهر واحد من مظاهر الفشل الفاضح الذي تنتجه القيادات الحالية في كافة مظاهر الحياة الأساسية للمصريين، ويكفى أن الملايين من المطحونين يسكنون قرى وأحياء عشوائية كاملة بلا مياه جارية أو صرف صحي تسقط بيوتها فجأة فوق ساكنيها - بينما ينعم المسئولون في قصورهم ومدنهم الجديدة.

جانب آخر من جوانب الجذب لهذين الشخصيتين هو إدراك المصريين لحاجتهم إلى شخصية "شاهقة" تتمتع بمكانة عالمية لا يتطرق إليها شك وإلى مصداقية ونزاهة وتميز إنساني ومهني عليه إجماع عالمي – وذلك حتى يمكن لها، وبها، الصمود أمام الحرب الضارية الشرسة التي سيشعلها في وجههما أنصار وزبانية وكتبة وحرس النظام الحالي المنتفعين من مزاياه ومنحه من مناصب وسلطات ونفوذ.
فقد شاهد المصريون كيف انتهى الأمر بكل من يتحدى النظام سياسيًا أو مدنيًا إلى غياهب السجون - كما حدث مع د. سعد الدين ابراهيم الذي أعلن القضاء براءته ولكن بعد سنوات من السجن و"المرمطة" في المحاكم، وما حدث بعد ذلك لأيمن نور الذي اجترأ على ترشيح نفسه ضد الرئيس مبارك في الانتخابات وأدخل السجن وخرج منه بعد أكثر من ثلاث سنوات فجأة على أساس صحي ومازال محرومًا من ممارسة السياسة.

كان من الواضح أن أي شخص مهما كان واعيًا وصاعدًا فلن يستطيع أن يصمد أمام مثل هذه الضربات التي تنتظر كل من يجرؤ على تحدي النظام المُصِّر على التمديد أو التوريث، لذلك كان لابد أن يكون المُتحدي هي تلك الشخصية الشاهقة التي تستطيع الصمود والنجاح. ولهذا هرع المصريون بشكل عفوي وجماعي مثير ملتفين حول زويل والبرادعي، مرسلين لهم النداءات والمناشدات المتحمسة المؤثرة، وعندما تصاعد اسم زويل في البداية كمرشح محتمل – وكان قد بدأ يزور مصر سعيًا وراء حلمه ببناء صرح علمي كبير يؤسس لنقلة نوعية لمصر في المجال العلمي، وبعد أن تعاونت الدولة أولاً ووضعت معه حجر الأساس لهذا الصرح، توقف كل شيء فجأة بعد أن تصاعدت شعبية زويل وأصبح يهدد مشروع التوريث - واضطر زويل في النهاية أن يعلن عدم رغبته في الترشيح لرئاسة مصر.
أما البرادعي فبعد فترة من التريث والدراسة صرح بأنه مستعد لدخول معركة الرئاسة إذا ما توفرت شروط معينة يضمن بها الحد الأدنى من أوليات العمل السياسي النظيف من شفافية وحيادية وانتخابات نزيهة.. وسرعان ما راحت العشرات من الجماعات والأحزاب تتسابق في إعلان رغبتها في أن ينضم البرادعي إليها و مبادرتها للقيام بحملات توقيع في عرض البلاد لتجييش المواطنيين لتأييد البرادعي والمطالبة بالسماح له بالترشيح رغم مهزلة تفصيل مواد بعينها في الدستور لكي ينحصر الترشيح في مرشح الحزب الوطني، أي ضمان التوريث لجمال مبارك تحت غطاء لعبة برلمانية وحزبية مفضوحة!.

جانب ثالث من جوانب انبهار المصريين هو اكتشافهم أن كلاً من البرادعي وزويل قد نجح في اكتساب أسلوب التفكير العلمي المنهجي الموضوعي السائد في المجتمع الغربي الذي عملا فيه لسنوات وتفوقا حسب معاييره الصارمة، مع احتفاظهم بروحهم المصرية الجميلة المحببة بما فيها من حرارة إنسانية وسخاء عاطفي ودفء وعذوبة مع غياب لافت لأمراض نفسية تنضح بها بعض الشخصيات المصرية وخاصة النافذة منها في مصر اليوم مثل الصلف و"العنطزة" والتعالي والبهلوانية والتقافز عبر المواقع والمبادئ.. لقد رأى المصريون في البرادعي وزويل شخصية متزنة هادئة عقلانية تتقن التفكيرالمنطقي بشكل يحتاجه المصريون بشدة في مجتمع أصبح يعاني من لوثات نفسية وعشوائية ودينية متزايدة.. ولذلك نحتاج إلى عقلية اكتسبت الانضباط الفكري من الحياة في الغرب مع مرونة وشجاعة القدرة على التطبيق في مصر.
في نهاية لقاء زويل في "دريم"، سألته مني الشاذلي عن الأبحاث العلمية المتعلقة بإمكانية إعادة الزمن إلى الوراء - هل هذا ممكن؟ فقال زويل إن هذا غير ممكن اليوم ولكن قد يمكن في المستقبل - وهنا اتصل هاتفيًا بالبرنامج الكاتب الساخر بلال فضل وقال إننا في مصر قد سبقنا علماء العالم كله ونستحق أن نحصل على نوبل لأننا استطعنا أن نرجع الزمن إلى الوراء! فضحك الجميع ضحكًا كالبكاء، وتظل لدى المصريين تلك القدرة المعجزة على رؤية الطرافة والجانب الساخر في الواقع المأسوي.
 ومضي زويل يتحدث عن نسبية الزمن في نظرية "أينشتاين"، فعلق محمود سعد قائلاً إن هذا يتفق مع ما جاء في القرآن الكريم بمعنى نسبية الزمن، ولم ينزلق العالم المصري الأمريكي إلى عالم الغيب الذي يستهوى المصريين كثيرًا فيعيشون فيه فعلاً وروحًا كل لحظة من يومهم، حيث أصبحت مظاهر التدين ولغته وطقوسه هي المسيطرة على الحياة المصرية بشكل يقترب من الحالة المرضية الخطيرة، وكان رد العالم المصري العقلاني هو: "إن السؤال الذي يشغلني في هذا هو: ما هو الزمن؟!".

فصمت محمود سعد، وصمتت منى الشاذلي، فهذا سؤال لا يقوى على الاقتراب منه أو حتى طرحه سوى من يملكون ملكة وشجاعة الإبحار في عوالم لا يحدها الخوف من استبداد النصوص في فم "علماء" مصريين من نوع آخر.. علماء ينشغلون بفتاوى مثل تلك التي نُشرت مؤخرًا في مجلة "عقيدتي" ردًا على مهندس زراعي مصري أرسل للمجلة يسأل "إن كانت الجن لها سلطان على الإنس؟!!"، هذا ما يشغل اليوم مهندس الزراعة المصري بدلاً من انشغاله بكيفية تطوير الزراعة المصرية ذات السبعة الآف عام حتى لا تستورد مصر - على آخر الزمن- "سخلات وسبخات" من إسرائيل كما أراد أحد الوزراء! علاقة الجن بالإنس هو ما يشغل المهندس المصري الذي تلقى العلم في "أزهى عصور الديموقراطية"! بينما ينشغل زويل، والعالم الغربي الذي دربه على التفكير العلمي، بتحدي تطوير الخريطة الجينية - من الجينات وليس الجن – للإنسان لكي يمكن علاجه من أمراض الجسد وأمراض العقل معًا.
لهذا تحتاج مصر إلى أمثال زويل والبرادعي قبل الوصول إلى نقطة اللاعودة التي أصبحت قاب قوسين. وسيصل البرادعي إلى مصر وقد التف حوله بشكل غير مسبوق معظم المثقفين والنشطاء المصريين على مختلف أطيافهم رافضين أن تورَّث مصر كالعزبة، متطلعين إلى غدٍ يليق بمصر بعد طول رقاد.

كاتب من مصر يقيم في نيو يورك
fbasili@gmail.com