CET 00:00:00 - 13/01/2010

مساحة رأي

بقلم: فرنسوا باسيلي
في ليلة عيد الميلاد الشرقي في السادس من يناير الحالي  قام عددٌ من الرجال المسلحين بإطلاق  الرصاص على الجمهور القبطي الخارج من احتفاله بالعيد في كنيسته ببلدة نجع حمادي في صعيد مصر فقتلوا سبعة و جرحوا عشرات - ورغم أن القتل كان عشوائياً فقد سارع الأمن المصري كعادته إلى نفي إن يكون للحدث  أي ابعاد طائفية دينية -  و هذا يذكر بحادث مذبحة قرية الكشح التي وقعت منذ عشر سنوات في نفس الصعيد المصري . وكنت قد نشرت عنها مقالا في القدس العربي بعد عام من الحدث اثر صدور الحكم في القضية. والعجيب والمحزن حقا هو إن ما كتبته عن الكشح يصلح تماما لمذبحة هذا العام في نجع حمادي.
وهذا هو مقالي عن الكشح - إو عن نجع حمادي - لا فرق

بعد عام وشهر تقريباً من مذبحة الكشح التى وقعت فى مطلع عام 2000 والتى ذبح وقتل فيها عشرون من الرجال والسيدات والأطفال والكهول من أقباط قرية الكشح بالصعيد المصرى، صدرت أحكام القضاء في هذه المجزرة بالحكم بالسجن على اربعة أشخاص واحد لمدة عشر سنوات وآخر لمدة سنتين وشخصان آخران لمدة سنة لكل منهما ! وهذه الأحكام التي تعد لطمة على وجه كل مواطن مصري شريف لديه إحساس بالظلم وبالعدل لابد أن تدخل قرية الكشح ضمير التاريخ المصري لتستقر به إلى الأبد، وكما دخلته وإستقرت به قرية «دنشواي» التي وقعت بها حادثة دنشواي عام 1906 وفي إعتقادي أن هول القتل وحجم الظلم الذي وقع في الكشح يفوق بكثير الظلم الذي وقع في دنشواي حين ذهب خمسة من الضباط الأنجليز لصيد الحمام فأصيب برصاصهم بعض الأهالى فهاجموا الضباط وقتلوا واحداً منهم وأصابوا آخرين فثار العميد البريطاني اللورد كرومر وعقدت محكمة خاصة لمحاكمة المصريين قضت بإعدام اربعة من الأهالي وجلد وحبس ثمانيه منهم ونفذ الأعدام والجلد في دنشواي علناً (الموسوعة العربية).
مثل دنشواي ستدخل الكشح ضمير التاريخ رمزاً للظلم .

 فإذا إرتأى ضميرنا القومي ظلماً فادحاً في إعدام أربعة من الأهالي لقتل ضابط إنجليزي وإختزن أحساسه بهذا الظلم المهين في ذاكرة مصر فلابد أيضاً أن تدخل الكشح بأحوالها ومظالمها الفظة ضمير مصر هي الأخرى لتبقى في ذاكرتنا الوطنية كمثال بالغ القسوة والإيلام على مدى الهوه التي سقط فيها كل من كان له دور مخز في هذه المأساة التى تحولت على أيدى المسئولين إلى ملهاه لها القدرة على أن تجعلنا نضحك وننتحب في نفس الوقت.   ولتنشيط الذاكرة القومية دعونا نقرأ من جديد ما كتبه قداسة بابا الأقباط الأنبا شنوده في مقاله بمجلة الكرازة (12 يناير 000 2) عن أحداث الكشح بعد إستماعه لتقرير اللجنة التي أرسلها إلى القرية لتقصي الحقائق : «من الساعه 11 من مساء الجمعة وحتى العاشرة من صباح يوم السبت 1/1 في بداية العام الجديد بدأت عمليات النهب والتخريب وكسر متاجر الأقباط وحرق مساكنهم فأين كان رجال الأمن وقت ذلك في قرية صغيرة معروف أن لها حساسية خاصة وتحتاج إلى عناية أكبر؟ وفي يوم الأحد وصباح الأثنين بدأت عمليات القتل وأستمر عدد القتلى يتصاعد حتى وصل إلى عشرين قتيلاً منهم أثنان تم حرقهما بعد قتلهما.. كان الأقباط في رعب في منازلهم لا يستطيعون الخروج ولا حتى فتح النوافذ ولا يشعرون أطلاقاً انهم في أمن كل ذلك والشرطة لا عمل لها: والموجود منهم متمركز في أماكن غير أماكن الأحداث ولا دفاعاً إطلاقاً عن الأقباط وبينما صوت الأعيرة النارية يدوي. هذا بعض ما كتب قداسة البابا وقتها.  

ويمكننا هنا أن نستعير تعبير الرئيس حسني مبارك معقباً به على مذبحة السياح الأجانب في دير حتشبسوت في الأقصر التي وقعت قبل حادثة الكشح حينما قال عندئذ أن ذلك «تهريج أمني»! رغم أن مذبحة السياح لم تستغرق كلها أكثر من ساعه اما في الكشح فنحن أمام حوادث تخريب وحرب وتكسير لمتاجر بحلول ليلة كاملة ثم تعقبها بعد يوم آخر عمليات القتل وأقتحام البيوت فهل نستطيع اذاً ان نصف هذا بأنه تهريج أمني «انني أطرح السؤال ولا احتاج الى الأجابة عنه وكان من المفروض أن يجيب عنه المسئولون في الأمن أمام رؤساءهم أو امام أعضاء مجلس الشعب الذي لم نسمع أي طلب إحاطه منهم بالتحقيق في هذا التهريج الأمني !   
فلننظر أولآ الى الناحية الأجتماعية - الأقتصادية.   فها هي جريدة «وطني» المصرية يقول فيها رئيس تحريرها الأستاذ يوسف سيدهم : «أن الحقائق المؤلمة التي تتجمع لدينا ليست خافية على مصادر كثيرة في الدوائر السياسية والأعلامية ولكن الغريب هو احجام تلك الدوائر عن اي مبادرة من شأنها تخفيف آلام أهل الكشح او تعويض خسائرهم او إعلام الرأي العام بأحوالهم الحقيقية وما يهمني التأكيد عليه انه في الوقت الذي كانت  فيه الحاجة ماسة الى موقف طال انتظاره من الدولة لتؤكد انها تعامل رعاياها من المصريين بمعايير المساواة والعدالة والرحمة خذلتنا الدولة مرة آخرى - وأقول مرة آخرى لأن السوابق في هذا المجال متكررة في ملوي وفي ديروط وصنبو وفي كفر دميان وغيرها - حيث لم تقدم الدوله يد العون أو التعويض لمن اضيروا في ممتلكاتهم أو أسر الضحايا الذين فقدوا حياتهم وقفت تتفرج على تدفق التبرعات والمساعدات والتعويضات من جهات اخرى اهمها وأثقلها وزناً كانت الكنيسة. وذلك في حد ذاته إن كان موقفاً يحمد للكنيسة إلا أنني ارقبه بكثير من القلق والانزعاج لما يخلفه من مدلولات عنصرية يرصدها البعض ويسيئون تفسيرها بأن الأقباط هم رعايا الكنيسة وليسوا رعايا الدولة. وبئس ذلك التفسير لأنه يرسخ الفرز ويعمق الشرخ الوطني بين المصريين.

هذا ما رصدته جريدة «وطني» من غياب الدولة مرة آخرى !   ولا أملك إلا أن اتساءل بدوري في حيرة هل هناك من يهمه أمر هذا الشرخ الوطني بين المصريين الذي تسببه هذه الأحداث وبالأخص يسببه موقف المسئولين من الأحداث وتصرفاتهم حيالها ؟   وماذا اذاً عن الموقف القضائي من هذه المذابح ؟   أين هي الأن الوحوش البشرية الكاسرة التي انطلقت في ليل شوارع الكشح متضورة ظامئة الى الدماء تسفكها وتشربها ولم ترحم حتى النساء والصبية واالشيوخ فقتلت وذبحت من بين من قتلت وذبحت الطفلة ميسون غطاس فهمي (11سنة)  والتي قتلوها مع شقيقها عادل الى قتيل كهل في الخامسه والثمانين من عمره هو جابر سدراك سعيد والذي قتلوه هو وحفيده رفعت زغلول جابر. ماذا فعل القضاء بهذه الوحوش الضارية التي لم تتورع عن قتل وذبح وقطع اذرع والتمثيل بجثث ضحاياها من الأطفال والشيوخ والنساء والرجال ؟  ان هذه الوحوش البشرية مطلقة السراح الآن تذرع شوارع الكشح والقرى المجاورة وتجلس على مقاهيها تشرب الشاي والأرجيلة لعلها هي نفسها. هذه الوحوش البشرية. لا تصدق هذا الذي حدث لها: لعلها لم تكن تحلم بمثل هذه النتيجة!  ان هذه العقوبات التي صدرت على قتلة العشرين مواطناً مصرياً لا تكاد تعادل حكم من صدم حماراً بسيارته فى الطريق فقتله من غير قصد!   أنها أحكام بالغة الأهانة، ليس فقط للأقباط ولكن للمصريين كلهم وبالغة الأهانة لمصر نفسها وللقضاء المصري الذي أفقدوه هيبته ومصداقيته دون إعتبار لتاريخه المشرف العظيم. بل لم يفكروا دقيقةً واحدة في الضرر البالغ الذي يسببونه لهذا القضاء ولسمعته ومكانته. بمثل هذه التصرفات والأحكام بالغة الغرابة.  

فهل يمكن ان نقول هذه احكام معقولة ومبررة؟ هل نظام العدالة في مصر يتحرج عن اصدار احكام الأعدام مثلا على القتلة؟ لقد أردت في بحثي اليائس عن أي معنى او مبرر لهذه الأحكام العجيبة. أردت ان أنظر الى نماذج الأحكام التي يصدرها القضاء في قضايا القتل والذبح.   ورجعت إلى أعداد جريدة «الأهرام» في الأسبوعين الأخيرين من شهر يناير 2001 ووجدت ما قيل في صفحة حوادث وقضايا : اهرام 19 يناير خبر عنوانه «الحكم بأعدام خمسة من أسرة واحدة قتلوا مقاولآ ومزقوا جثته الى 51 قطعة» ويقول تفصيل الخبر ان الحكم بإجماع الآراء يقضي بمعاقبة 5 أفراد من أسرة واحدة بالأعدام شنقاً وذلك بعد موافقة مفتي الديار المصريه لإتهامهم بأستدراج مقاول وتمزيق جثته بساطور.   وهكذا نجد حكماً باعدام 5 أفراد مرة واحدة اتهموا بقتل رجل واحد اي ان اشتراك أكثر من شخص واحد في قتل إنسان لم يمنع القضاء من إصدار الحكم باعدام المشتركين في القتل كلهم.  القضاء المصري إذاً يحكم بالإعدام وعلى أكثر من شخص إذا اشتركوا في قتل شخص واحد وأما في قتل 20 مواطناً بريئاً من أقباط مصر فلا يصدر حكم إعدام واحد ولا حكم بالأشغال المؤبدة لواحد!   هل فكر أحد من المسؤولين في مدي الشعور بالمرارة واليأس والخذلان الشديد الذي سينتاب أكثر من عشرةملايين مصري قبطي داخل مصر ومليونين خارجها؟ هل تبادر الى ذهن اي من المسؤولين في دوائر الأمن والحكم المحلي والنيابة والقضاء اي اهتمام او تفكير في الصدع المخيف الذي يتسببون فيه بين «عنصري الأمة» ؟!   أما ما يجعل هذا الأمر ممعناً في العبث والفكاهة السوداء فهو ان القاضي لم يكتف بأصدار هذه الأحكام وإنما صاحبها بخطبة سياسة عصماء قام فيها بالتحدث عن عظمة الوحدة الوطنية في مصر على مر العصور وكان في جلسة كانون الأول «ديسمبر» قد طلب من أهالي الضحايا معانقة أهالي القتلة المتهمين وتقبيل بعضهم بعضاً في ساحة المحكمة تعبيراً عن الوحدة الوطنية !! ثم اطلق سراح المتهمين بالقتل والذبح والحرق حتى لا يحرموا من قضاء الأعياد مع أهاليهم !! لو كنا نشاهد هذا الذي نسمع عنه في فيلم او مسرحية  فكاهية لما وجدناه مضحكاً حتى في اشد اجواء الملهاه هزلآ ومسخرة !  إذ لوجدناه خارج حدود المعقول الذي يسمح به العمل المسرحي حتي ولو كان هزلياً ! لكن هذا ما قالته لنا الصحف المصرية من أنه حدث فعلآ في ساحة المحكمة ! .. ويقولون ان هذا كله من أجل «الوحدة الوطنية»! لكأنهم قد فقدوا كل قدره علي فهم ابسط معاني الوطنية والوحدة .. فالوحدة تتطلب وتتضمن المساواة .. والوطنية تعني الأنتماء لوطن واحد الكل فيه مواطنون من الدرجة الأولى، وهم بتخاذلهم في مسؤولياتهم الأمنية والإدارية والقانونية والقضائية قد فرغوا معنى الوحدة من مضمونه وطعنوا الوطنية في صميمها. 

إن الأسباب التى نسمعها غير منطوق بها لعدم صدور أية أحكام بالأعدام ضد أى من قتلة المواطنين الأقباط مهماً كان عدد القتلى أو مدى تورط القاتل هى أن إعدام مسلم لقتله مواطناً قبطياً مصرياً هو أمر يثير حساسية المسلمين فى مصر فهل يمكن أن يوجه أنسان أهانة أكثر من هذه الأهانة إلى المسلمين في مصر؟ أليس في هذا التصور سب بذئ لكل إنسان مسلم وكأنه يفترض أن هذا الأنسان لم يعد لديه أي إحساس صحيح بالعدل وأنه لن يرضى أن تطبق العدالة كاملة على قاتل متوحش لو كان القتيل البرئ قبطياً؟ إلى هذا الحد من الفكر المريض وصلت توقعات البعض في مصر ووصلت تصوراتهم التي لم تعد تطلب من الناس الارتفاع إلى مستوى الحد الأدنى من منطق العدل والمساواة ولم تعد لها إشتراطات أخلاقية وأنسانية تتطلبها في المواطنين بل راحت تتصورهم وتتوقعهم وكأنهم قد أصبحوا فاقدي الحس والشعور والنخوة والأنسانية.. أن للمسلمين في تاريخهم وتراثهم الإسلامي نماذج رفيعة للعدالة رأينا فيها كيف قيل للخليفة عمر بن الخطاب «عدلت فأمنت فنمت» أما القتلة في الكشح والذين ناصروهم قصداً أو إهمالاً أو تسيباً فنقول لهم لم تعدلوا فكيف تنامون؟!    ألم تقرأوا في تاريخ الفتح العربي لمصر كيف أصر عمر بن الخطاب على أن يحقق العدل وطلب من عمرو بن العاص أن يسمح لشاب قبطي بأن يضرب أبنه أمامه كما فعل هو به ظلماً وعدواناً قائلاً له أضرب أبن الأكرمين فإذا كان هذا هو تراث الأمة فأين أنتم منه اليوم؟ كيف أوصلتمونا إلى زمن لا يعاقب فيه القتلة، سافكو الدماء لأن ضحاياهم من الأقباط! ثم يوجه القاضي اللوم والتوبيخ إلى ثلاثة قساوسة من رجال الدين المسيحي لأنهم أستفزوا المجرمين فقاموا بالقتل والتخريب ! وهكذا تكتمل الملهاه بألقاء اللوم على الضحايا أنفسهم !  

فلتدخل الكشح إذن في ضميرك الحي يامصر وتستقر به حتى يجئ جيل متوثب متحرر نبيل يفزع لما حدث ويخجل منه ويعقد العهد على ألا يسمح بتكراره أبداً ويقول لك عن الكشح ما قاله شاعر النيل حافظ أبراهيم عن حادثة دنشواي: 
أيها القائمون بالأمر فينا هل نسيتم ولاءنا والودادا؟ 
أمة النيل أكبرت أن تعادي/ من رماها وأشفقت أن تعادي
ليس فيها إلا كلام وإلا / حسرةً بعد حسرةً تتهادى
لا جرى النيل فى نواحيك يامصر / ولا جادك الحيا حيث جادا
أنت أنبت ذلك النبت يامصر / فأضحى عليك شوكاً قتادا 
انت أنبت ناعقاً قام / بالأمس فأدمى القلوب والأكبادا                      
وأما أنتم أيها القتلة يا من سفكتم دماء أخوتكم في الوطن فلا تقربوا النيل الجميل لكي تغسلوا فيه أيديكم من دماء ضحاياكم فالنيل لن يغسلها لكم. النيل برئ منكم ولا يمت لكم بصلة ومصر منكم بريئة إلى الأبد.

ومن المجدي للتذكرة وللعبرة أن اعيد نشر مقالي عن الكشح لنرى كيف أنه بعد عشر سنوات فان كل شيء كما هو - المذابح ضد الاقباط، مساخر جلسات الصلح التي تفرض بديلا عن القانون والعدالة، المهازل الأمنية التي تسمح بترويع إو تهجير المئات من الأقباط على مدى عدة أيام، الادعاء بعدم وجود مشاكل للأقباط وأن كل شئ علي أجمل حال

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٢ صوت عدد التعليقات: ٥ تعليق