CET 00:00:00 - 17/07/2009

مساحة رأي

بقلم: فرانسوا باسيلي
لماذا يوضعون في ملف أمني؟ 

التصادمات و التوترات الطائفية التي تقع بين الأقباط و  المسلمين في مصر تحمل إرهاصات وإنذارات بأخطار حقيقية لا أعتقد أن المسؤولين  في مصر يدركون أبعادها الكاملة بوضوح، وهذا ليس غريبا فالمسؤولون في الكثير من النظم العربية الحاكمة، وخاصة من كان منها يجلس علي كرسي الحكم لسنوات طوال أصيبت معها مفاصل هذه الأجهزة بالتكلس والأورام، طالما عجزوا عن رؤية ما يحدث حولهم من نذر ومتغيرات، واستمروا في سياسيات جلبت الخراب علي بلادهم وشعوبهم. وحينما تتحرك الدولة في بطء وتكاسل لاحتواء الأزمة وليس لحلها ـ فهم دائما مهتمون باحتواء الازمات أي التغطية عليها ودفنها وليس حلها ـ يقدم لنا فلاسفة الركود والتبلد الإعلامي الحالي في مصر شعارين يمثلان خلاصة الاستراتيجية العبقرية التي ينتهجها النظام لمواجهة الفتنة الطائفية وكل فتنة أخري يعاني منها المجتمع المصري المطحون، الشعار الأول هو: الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها والمعني وراء هذا الشعار هو أن هذا الذي يثور من أجله الأقباط في مصر والمهجر ليس سوي إثارة لعواطف نائمة ليس من المفروض إيقاظها، وأن المشكلة ليست في القضية ولكن في الذين يثيرونها... فعليهم اللعنة.

أما الشعار الثاني الذي يلخص منهج النظام في حل المشكلات فهو شعار المصارحة والمصالحة ، اي جلسات بين الأطراف المعنية يقومون فيها بالمصارحة والمصالحة. ويذكرني هذا بأسلوب المصاطب القروية في مصر حيث يقوم العمدة أو شيخ البلد بدعوة الكبار من العائلتين المتخاصمتين للجلوس معه حول فناجين الشاي في جلسة مصارحة ومصالحة تنتهي بأن يقبل كل رجل وجنتي الرجل الأخر ثم يقبل كل منهم يد العمدة. هذا هو الاسلوب المطروح اليوم ومنذ زمن طويل لحل مشاكل الأقباط في مصر!
وأسلوب المصاطب هذا هو الذي اتبعته الدولة منذ  سنوات لاحتواء أزمة مذبحة الكشح التي قام فيها العشرات من الوحوش الآدمية بالاندفاع الاهوج في شوارع الكشح علي مدي يومين وليلة يحرقون فيها المساكن والمتاجر دون أي تواجد لرجال الأمن الذين نفضوا أيديهم من الأمر، وكان أن تم ذبح وقتل عشرين من الأقباط من بينهم نساء وأطفال وشيوخ، وفي قاعة المحكمة التي عقدت لمحاكمة القتلة ـ الذين لم يحكم علي واحد منهم بالسجن المؤبد ولا حتي بعشر سنوات ـ طلبوا من أهالي الضحايا المجللين بالسواد أن يقبلوا رؤوس القتلة الذين ذبحوا أهاليهم منذ أيام قليلة مضت. نعم هذا هو ما حدث رغم غرابته وبشاعته! وكان أسلوب المصارحة والمصالحة هو المتبع لحل مشكلة الأقباط في الكشح، وكان شعار إن الفتنة نائمة ولعن الله من أيقظها هو الإجابة الجاهزة كلما ارتفع صوت يعبر عن أوجاع الأقباط في مصر في العهد الذي لا يكف فلاسفة إعلامه البليد عن التأكيد أنه أزهي عصور الحرية والديمقراطية.

الحكومة نائمة لعن الله من أيقظها
الحقيقة المفجعة التي لا يراها المسؤولون ولا تشغل بالهم هي أن الفتنة الطائفية في مصر ليست نائمة أبدا فهي حية تنهش وتأكل في قلوب الأقباط والمسلمين معا منذ أن وقع حريق كنيسة الخانكة بالقاهرة عام 1972، الفتنة الطائفية ليست نائمة أبدا وإنما النائمة هي الحكومة بأجهزتها ومؤسساتها وحزبها الحاكم، الحكومة هي النائمة عن حاجات المواطنين المطحونين الفقراء الذين تركتهم يتولي الله أمرهم والغالبية الساحقة منهم تعيش في الأحياء الشعبية بالقاهرة وكافة مدن مصر معيشة بائسة منكسرة ملوثة، يلهثون فيها وراء لقمة العيش مضطرين للحصول عليها إلي تخدير ضمائرهم ومضاجعة الفساد وتقبل الرشوة واحتمال البلطجة والعشوائية والمحسوبية في أصغر معاملاتهم اليومية، وهكذا لا يتبقي لهؤلاء المسحوقة كرامتهم تحت الأحذية سوي التشبث البائس بمظاهر التدين إلي حد الهوس والانغماس في عصبية دينية مريضة تكره النفس والآخر والدنيا وكل مظاهرها الإبداعية الحية، هؤلاء هم الذين يعانون من الأمية التي تجاوزت نسبتها الستين في المئة.. وهل ننتظر من أميين بهذا الشكل مستوي أفضل وكل ما حولهم قبيح ورديء وفاسد؟ وهل يحق لهذا النظام الذي حقق للمصريين أمية فكرية وثقافية وروحية وحياتية أن يدعي بأن مصر تعيش أزهي عصورها؟

أين الدولة؟
تقول جريدة الأهالي، وهي من الجرائد المعدودة ذات الضمير الحي في مصر اليوم: تشهد البلاد توترات طائفية في مواقع مختلفة ولم يظهر أي دور لأجهزة الدولة حتي الآن.. علي الرغم من وصول هذه التـــــوترات في بعض المناطق إلي نقطة الخطر .
وفي مكان آخر تقول الأهالي: أين الدولة؟ السؤال المحير هو أين الدولة وأجهزتها وسط الذي يجري علي أرض الوطن؟ بعد كل الذي نشر حول التوترات الطائفية والحكومة لا تسمع ولا تجيب !
والذي تشير له الأهالي لم ينشر في صحف الدولة الكبري ـ الأهرام والأخبار والجمهورية ـ فهذه الصحف تنتظر دائما حتي تصلها الأوامر بما تنشر وما لا تنشر، فهي أبواق للنظام والحكومة والحزب الحاكم ليس إلا، إنها لا تقدم لنا سوي أسلوب الإعلام الرسمي في الاستسهال والإسهال والعشوائية الفكرية والمهنية التي يمارس بها القائمون عليه مهامهم... إن الإعلام الرسمي المصري أصبح أضحوكة تبكي لها قلوب المصريين كل صباح لمدي افتضاحه وتهافته وهرولته لخدمة وتلميع السادة الكبار

هل الأقباط عصابة؟
هل الأقباط عصابة من المجرمين والمشاغبين حتي يقال لهم كلما طالبوا بحقوقهم أن قضيتهم صعبة الحل لأن الأقباط جزء من الملف الأمني ! ونستغرب كيف يمكن أن يوضع  15مليون مواطن هم جزء أساسي لا يتجزأ من شعب مصر، كيف يوضعون كلهم في ملف أمني ؟ يحق لأقباط مصر أن يتساءلوا: من المسؤول عن هذه الإهانة البليغة والبدعة الغريبة؟
رحم الله عهدك يا سعد زغلول حين كان الأقباط عنصرا متساويا من عنصري الأمة وحين كان الدين لله والوطن للجميع. ورحم الله عهدك يا عبد الناصر الذي لم تقع فيه حادثة إرهاب أو قتل أو ذبح أو حرق واحدة ضد الأقباط، وحيث كان التوجه الكلي للدولة توجها وطنيا قوميا ناصعا لا تشوبه الفتن الطائفية ولا الاعتداءات الجاهلية البغيضة ضد الأقباط. فقد كان آخر اعتداء ضد الأقباط هو حادثة السويس الشهيرة   عام 50  قبل الثورة، ثم أول اعتداء بعد ذلك هو حرق كنيسة الخانكة عام 72  في عهد السادات. حتي وصلنا إلي حالتنا البائسة الراهنة التي نجد فيها تواطؤ بعض المسؤولين في أجهزة الدولة من أمن إلي محافظات إلي حكم محلي إلي الحزب الحاكم في بعض المناطق والمحافظات في أحداث مشينة يفرقون فيها بين المواطنين علي أساس الديانة. ونجد أن توصيات الحلول التي قدمتها لجنة العطيفي بعد أحداث حرق كنيسة الخانكة ما تزال دفينة الإدراج المظلمة والعقول المظلمة لا يريد أحد من المسؤولين لها أن تري النور بعد ثلث قرن من صدورها باللغة العربية التي من المفروض أن الجميع يجيدونها!.

إن مشاكل الأقباط وقضيتهم الأساسية هي قضية حقوق مواطنة وحقوق إنسان وعدالة ومساواة في كل شيء.. إنها ليست قضية أمن ولا يجب أن تكون، وهي ليست قضية ينفع معها أسلوب المصاطب في المصارحة والمصالحة، ولا أسلوب الفتنة النائمة ولعن من أيقظها.. إن هذه كلها أفكار ومقولات بالية قديمة لم تعد تصلح للتعامل مع العصر ومع ذلك فما تزال هذه هي لغة وفكر المسؤولين في مصر وفي الإعلام الرسمي المتحجر.

إن الأقباط يشتكون منذ عقود من ممارسات مريضة تشي بمرض المجتمع كله وسقوطه في أوحال التشنج الديني والهوس الطائفي الذي لا يمكن أن يصلح من أحوال أحد لأنه لا ينتج شيئا أو يضيف شيئا ذا قيمة للمجتمع أو للحياة. و هذا تحت سمع وبصر المسؤولين في قري ومدن الصعيد المهمل الذي لم تعره الحكومات اهتماما، إذ انصب جل اهتمامها علي إنشاء المدن السياحية الفارهة الجديدة علي الساحلين الأحمر والأبيض للأغنياء والسياح. وهناك قائمة طويلة بمشاكل الأقباط معروفة كلها للنظام، بل ومنشورة كلها في الكتب والصحف وعلي رأسها جريدة وطني التي يمكن اعتبارها سجلا تاريخيا مفصلا لقضايا الأقباط ومشاكلهم علي مدي أكثر من ثلث قرن.
أما استمرار الادعاء بأن هذه كلها مشاكل فردية تحدث للمواطنين من كل دين وفي كل مجتمع، فمردود عليه بأن غياب الأقباط المخيف عن المواقع القيادية بالمدن والمحافظات المصرية والمؤسسات الحكومية هو الدليل الواضح علي أن القضية ليست قضية رجل هنا أو سيدة هناك، ولكنها قضية تفرقة دينية موثقة بالأرقام التي لا تعرف الكذب والخداع. فلغة الأرقام تقول أن هذا النظام لم يعين رئيس جامعة واحدا من الأقباط، أما في السلك الدبلوماسي فالأقباط لا يصلون نسبة ثلاثة بالمئة! ونفس الحال في بقية المناصب العليا بالوزارات السيادية، رغم أن نسبتهم تزيد علي 18% من السكان وأكثر من هذا بين المتعلمين.

من الغضب إلي السياسة
علي الأقباط تحويل غضبهم إلي فعل سياسي، فما داموا يتهمون الحكومة و النظام باضطهادهم فعليهم الانضمام إلي أحزاب أخري تهتم بهم وترعي حقوقهم، مثل الحزب التقدمي الذي يرأسه الدكتور رفعت السعيد، وهو الرجل الذي كان من أوائل الأصوات المرتفعة منذرة بأخطار الفتنة الطائفية، حينما أصدر منذ حوالي  25عاما كتابه المميز الهام: ماذا جري لمصر؟ ولكن كالعادة تصرف النظام وكأن الكتاب لم يصدر ولم يكشف عن الواقع المتردي للعلاقة الهامة بين المسلمين والأقباط في مصر. ولن يجدي مع هذا النظام سوي الانفصال السياسي عنه وعن حزبه والانضمام لأحزاب المعارضة، التي عليها أن تتحدد لتقديم جبهة سياسية موحدة تقف ضد الحزب الحاكم لتحقق التغيير الذي يستحقه المصريون وتستحقه مصر.

إن نظاما يعامل خمس عشرة ملايين من مواطنيه بهذا الإهمال والابتذال، محولا مشاكلهم وحقوقهم إلي ملف أمني مهين، متغافلا عن صرخاتهم وأوجاعهم ومخاوفهم وهم أقلية مسالمة لا تملك سلاحا ولا تنخرط في جماعات إرهابية، وكل ما تطلبه هو المساواة في الحقوق، وفي الوظائف، وفي بناء دور العبادة للصلاة علي موتاها، النظام الذي يتغافل عن هذا طول هذه السنوات ويترك المرضي المتعصبين ليصولوا ويجولوا يحرقون ويرهبون الأقباط ومساكنهم ومتاجرهم هو نظام لا يستحق أن يتحدث عن الإصلاح أو المستقبل أو الديمقراطية أو الحرية... وقد آن الأوان لكي يحول الأقباط غضبهم وصراخهم إلي عمل سياسي قوي منظم ينضمون فيه بوضوح إلي القوي الوطنية المخلصة التي تريد لمصر التغيير والتنوير.
واسلمي يا مصر.

كاتب من مصر يقيم في نيويورك

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٣ صوت عدد التعليقات: ٦ تعليق