ÇáÃÞÈÇØ ãÊÍÏæä
طباعة الصفحة

النصب المحظور وتدني الأجور

فاروق عطية | 2014-04-23 08:15:07

بقلم : فاروق عطية
واجهنا هذا العام شتاء طويل شديد البرودة وأظنه لا يريد أن يرحل ويرحمنا من زمهريره القاسي ويريحنا من هجماته الثلجية وعواصفه الرعدية. مع هذا البرد القارص الذى يستحيل معه خروج شخص مسن مثلى لممارسة رياضة المشى التى أحبـ، جعلني أجلس في بيتي مهموما لا أملك إلا أن أجتر الذكريات القريب منها والبعيد. تذكرت أول مرة حضرت فيها إلى كندا منذ خمسة عشر عاما وكان الجو مماثلا لما نعيشه هذه الأيام. كنت أقيم فى ضيافة إبنى بمنزل صغير (سيتى هاوس) تتم فيه التدفئة بتسخين الهواء عن طريق اشعال الغاز الطبيعى وتدوير هذا الهواء إلى جميع أنحاء المنزل، وكنا نضبط درجة الحرارة فى حدود 22 درجة مائوية وهى درجة مناسبة.

ذات يوم لاحظت أن مؤشر تبيان درجة الحرارة ( هيت دبتكتور) قد انخفض إلى 18 درجة فرفعت الحرارة المستهدفة قليلا ولكنى لاحظت عدم الاستجابة بل انخفاض الحرارة مستمر حتى وصل إلى 12 درجة. نزلت إلى البيسمنت فلاحظت أن مسخن الهواء لا يعمل، وكانت الساعة حوالى السادسة مساء. كانت درجة الحرارة بالخارج حوالى-22 مائوية، خشيت أن لو استمر الحال كذلك بالقطع سنتجمد داخل المنزل حين تنخفض الحرارة داخله لهذه الدرجة.

وحين عاد إبنى من عمله في السادسة والنصف مساءا أخبرته بحجم الكارثة التى قد نتعرض لها خاصة ونحن فى نهاية النهار وبداية الليل الطويل وبالطبع لن نجد مسؤولا أو عاملا يأتى فى هذا الوقت لعلاج هذا الأمر. ابتسم إبنى مطمئنا إياى ورفع سماعة التليفون واتصل يالصيانة، وكم كانت دهشتى حين حضر عامل الصيانة بعد الاتصال بخمس دقائق حاملا معه حقيبة بها كل ما يخطر على البال من قطع غيار لازمة. بالفحص وجد أن المُشعِّل ( إيجنيتور) الذى يعطى الشرارة لإشعال الغاز قد عطب ويحتاج للتغيير، ومن ثم فتح حقيبته وأخرج واحدا جديدا وثبته ثم غير فلاتر الهواء مع ابتسامة عريضة. وحين حاولت تقديم مشروبا له اعتذر بلطف قائلا أنه فى عمل ولا يقبل أى شيئ خلاله ولكنه أمام إصرارى وعد أن يحضر فى وقت آخر كصديق ويشرب معى كوبا من القهوة.

هذا أرجعني بالذاكرة لما كان يحدث فى بلادنا المحروسة، وقفز إلى ذاكرتى ما كان يحدث لى ولغيرى ممن يحظون بوجود تليفون منزلى. كنت أقيم قبل حضورى إلى كندا بمدينة الصفا التابعة لقسم عتاقة بالسويس، وكان التليفون بالنسبة لى ضرورة ملحة للاتصال بإبنى الأكبر المهاجر فى كندا وباقى الأبناء بالمنصورة. لاحظت أن كل يوم خميس وخاصة في النصف الآخير من الشهر تنقطع الحرارة عن تليفونى وعن عدد آخر من تليفونات الجيران، فاتصل من أى تليفون آخر ما زالت به الحياة لدى جار من الجيران أومن محل بقال بالحاج على رئيس سنترال عتاقة أرجوه واستعطفه لإنقاذ تليفونى من السكتة الدماغية التى أصابته.

يجيبنى بعد التدلل بعدم وجود عمال الصيانة وخاصة نحن فى آخر الأسبوع والعمال يستعدون للراحة الأسبوعية، وأمام إلحاحى يتعطف على بالموافقة على ارسال عامل الصيانة بعد عدة ساعات. وحين يحضر عامل الصيانة لا بد من إعداد الشاى والسجائر حتى يعتدل مزاجه ويبدأ العمل. يقوم بالفحص والتمحيص ثم يقول الروزيتا أصابها الصدأ وتحتاج للتغيير، ولا أستطيع التغيير إلا يوم السبت حيث أن المخزن مغلق الآن، ثم يبادر قائلا: ولكننى أستطيع شراءها من الخارج، وعند موافقتى يغيب قليلا ويعود ويتم الإصلاح وتعود الحياة للتليفون، وبعدها يقبض لزوم الدخان الذى لا يقل عن عشر جنبهات.

مع تكرار الأمر اكتشفت أنهم فى منتصف كل شهر يقومون بقطع الحرارة عن عشر تليفونات للحصول على المعلوم الذى لن يقل عن مائة جنبها تقسم بين عامل الصيانة ورئيس السنترال، ويتم هذا الأمر بمعدل كل أسبوع مع تغيير المستهدفين. مصدر رزق دائم ومستمر يزودون به دخولهم المتدنية حتى يقاومون مطالب الحياة الضرورية. وتكرر هذا الأمر معى عدة مرات مما دفعنى للذهاب إلى مدير عام الهيئة وشكوت له ونبهته لحقيقة ما يحدث فوعدنى أن هذا الأمر لن يتكرر معى مرة أخرى. وفى اليوم التالى اتصل بى الحاج على عاتبا ومبديا أسفه وواعدا أن يستمر تليفونى دائم الحرارة وإذا حدث أى تعطل مجرد الاتصال به سوف يحل المشكلة فى الحال، وصدق الرجل ولم يتعطل تليفونى طوال مدة تواجدى هناك.

هذا هو الفرق الجوهرى بين العالم النائم والعالم المتقدم. عندنا الأجور متدنية لا تكفى أن يعيش الانسان بها حياة نصف عادية، بالإضافة للتسيب وعدم المحاسبة بل واشتراك الرئيس مع المرؤس فى اقتسام الإكراميات ( لفظ الدلع للرشاوى) وعدم محاسبة المخطئ وسيادة القول المشهور" تعمل كثيرا تخطئ كثيرا فتعاقب ولا تترقى، تعمل قليلا أو لاتعمل لا تخطئ فلا تعاقب فتترقى" لذلك عمّت السلبية والتسيب وتقدم ذو الصوت العالى والبجح وتأخر النشط الذى يعمل فى صمت. أما هنا فى دنيا العالم المتقدم تعطى الأجور المناسية التى تكفى للحياة الكريمة، ويراقب العامل على أخطائه فيفقد عمله إذا توانى أو أهمل.

منذ وكسة 25 يناير وتذمر العمال مستمر ومطالبهم المشروعة برفع الحد الأدني للأجور لا تتوقف. أنا أتفهم موقفهم ومدي التدني في الأجور والفرق الشاسع بين الحد الأدني والحد الأقصى, فالحد الأدني لأجر العامل العادي لا يزيد عن 300 جنيها شهريا وخريج الجامعة مرتبه لا يتجاوز الـ 500 جنيها, في حين أن هناك فئة محظوظة  دخولها لا تقل عن النصف مليون شهريا وقد يحصل البعض علي أكثر من مليون.

كما أن الخلل في توزيع الثروة يدعو للجنون, حيث يستحوز 1% من السكان على 30% من ثروات البلاد و20% من السكان على 80% من الثروة ويعيش 80% من المواطنين على أقل من 20% منها. والغريب أن المطالبون برفع الأجور لا يعملون ويكتفون بالإضرابات والتظلمات حتي أصبحت معظم المصانع شبه متوقفة ولا تنتج حتي ما يغطي الأجور. منذ قامت وكسة 25 يناير والحياة تسير سير السلحفاة, امتلأت الميادين بمن يسمون أنفسهم بالثوار وفرغت المصانع من العمال . وزادت جرئم التحرش والاغتصاب والقتل لأهون الأسبات حتر توقفت السياحة وتباطأت عجلة الاستثمار. والحكومات المتعاقبة منذ الوكسة أياديها مرتعشة وغير قادرين علي الإصلاح أو وقف ما نعيشه من تدهور مستمر يكاد يصل بمصر الحضارة للإفلاس.

لتسجيل الموقف كصحافي سرت خلف المتظاهرين المطالبين برفع أجورهم من شارع إلي شارع حتي وصلنا لمقر مجلس الوزراء فاستقلبتنا الشرطة بالغازات المسيلة للدموع مما زاد من حنق المتظاهرين فاندفعوا خلف قوات الشرطة للفتك بهم مما دعي الشرطة لاستخدام العنف الزائد لتفريقهم. وسمعت دويّ إطلاق النار لا أدري من الذي بدأ العدوان, فقط أحسست بقذيفة تدوي بجانب وجهي مما أفقدني الصواب فارتميت علي الأرض صارخا.. لاستيقظ من نومي مفزوعا أتصبب عرقا وأم العربي تنظر إلي في إشفاق.

 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع

جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com