ÇáÃÞÈÇØ ãÊÍÏæä
طباعة الصفحة

مظاهرة الحرنكش

ماجدة سيدهم | 2014-01-23 07:33:11
ماجدة سيدهم
 
 كتب  ونشر26يناير 2011     
بالأمس صادف وجودي بالقرب من إحدى المظاهرات المحكي عنها  والتي تراكمت أخبارها طيلة الأيام الماضية ،وبينما تركت في نفوس البعض الكثير من المخاوف والتوجس والحيطة  نجد الأمر لم يثر اهتمام الأغلبية فهو محض تكهنات ، كعادتي رحت أتوغل بين كتل الزحام ،هذا يستهويني جدا ،الانزلاق بين الناس ،الالتحام  بملامح التعب ورائحة الكد والسهر  وبساطة الحلم ،وأما أقصي الحلم هو أن يعود كل عابر  بقروشه إلى بيته وأولاده سالما ، بداية كانت

الشوارع  على حال حركتها اليومية ، اختارت الناس كعادتها سكنى حالهم تاركة الأحداث للمهتمين بالأمر ، وأثناء سيري مع إحدى صديقاتي للتبضع  بين أروقة بدايات  تخفيضات الموسم ،تردد على مسامعنا  حذرا وأن  يركض الجميع ولتغلق المحلات ابوابها ،فالمظاهرة قادمة مرورا من هذا الشارع التجاري الشهير والمكتظ بالمحلات والمارة وشاغلي الطريق لتمتد إلى الشوارع والروافد الأخرى ،وفي لحظة ما وجدتها صديقتي..! ، ورغم أنها مظاهرة سلمية لكن لفرط التوجس  سارع أصحاب المحلات بالغلق دونما ترتيب لبضائعهم فيما هرول باعة الأرصفة بعرباتهم المحملة بالحقائب والإكسسوار الحريمي

والجوارب والأدوات المنزلية  وملابس الأطفال والملابس الداخلية والكوفيات والطرح والمفارش الصيني  ولعب الأطفال وحوائج العطارة وأشرطة الكاسيت فضلا عن المزيد من بضائع العربات المتنقلة وكل حاجة عليها "بسبعة  ونص " يهرولون ويزجون بعرباتهم في الشوارع الجانبية ،وقع منها ما تكسر وتهشم ،يندس بعجلته بائع الفطير خلف ركام المبنى المتهالك ، بينما اندفع بائع الحرنكش بعربته يحتمي داهما  محلا  لبيع الذهب و الذي كان يقف قبالته كي  يلحقه قبل إسدال الباب الحديدي وما استطاع ذلك فلحق بما يجاوره وكان معرضا للملابس الحريمي - فهشم  من زجاج فترينته مما دفع بصاحب المحل أن ينقض كهر أعمى  ضاربا بمظاهرات الدنيا ليمسكه من ياقة جلبابه المتهرئ مهينا ما تبقى للمسكين من كرامة بينما يتوسله الأخير ليركض خلف حرنكشاته

البرتقالية  والتي تدحرجت  بين صيحات  المارة تختبر بدورها  قامة الصياح  ومتعة التمرد فمضغتها ساخرة أحذية الشرطة و المتظاهرين وسائر المهرولين والفضوليين ، وما فلت منها أكمل المسيرة متدحرجا هنا وهناك ،  راح المتفرجون يصطفون الأرصفة يستقبلون مَقدم الهُتاف الحيوي والمثير ليشاهدوا رؤيا العيان ما تخيلوه قبلا وما كتب عليهم وحفظوه في كتب التاريخ المبتور، فمن أين لهم  بمشاهدة  حية لمظاهرة  تنديدية بغير الأفلام التاريخية فقط ،مرت المظاهرة والتي أثارت فضول  الكثير  المارة أن يواكبوا سيرها شغفا وراء  توقعات  وتكهنات ما عساه يكون نهاية المطاف ..! مشهد آخر هناك آخر

الرصيف  جموع كثيرة وافدة من المحافظات والقرى المجاورة  التفت حول محل الحلويات الشرقية الكبير ،لم تثنيهم الهتافات بالخبز والحرية أن  يتبادلون رغم الصقيع بسكويتات الأيس كريم وقطع الكنافة بالقشدة المسيلة للعاب ،فهم بسطاء ، أنهكتهم  الطرق وكل المحاولات  طيلة يوم وعمر شاق بحثا عن علاج أو تجهيز عرائسهم أو ...، يتكئون الرصيف العاري ، يتكورن في تلا فيف زهدهم ليحتموا من  صقيع الغلاء وروماتيزم التعليم ومشقة البيئة وجهل الصحة

وجفاف الحياة برمتها  ليجدوا أنفسهم وقد إنفصلوا تماما  عن فئة يقال أنها النخبة أو الصفوة أو الرموز ،من يثرثرون ليل نهار عبر الشاشات نيابة عنهم  بينما لا يحس ولا يعلم بهم أحد ، كان شابا تبدو عليه ملامح التهكم راح يرقب الأمر عن كثب دون أيه تعليق أو حتى سؤال فيما جلسوا هم  يفترشون الحكايا والحواديت "بيقولوا ..، مش عارفين ..، لا لا دا أكيد ،ناولني فطيرة من أم سكر وحياة أبوك ،وإحنا مالنا بالمظاهرات يخربيت أبوهم الوقت اتأخر وعاوزين نروّح، العيال وحدهم في البيت ، طب يدونى 100 جنيه وأنا امشي في أجدعها مظاهرة ، هم عاوزين ايه ؟ والنبي حسنى كويس ، بس اللي  حواليه شوية حرامية ولاد كلب وهرمة ، يعني هو مش عارفهم  ..! تعالي  بسرعة نرجع  الخلاط دا ونجيب الثاني أرخص كتير ونجيب  بالمرة العـُبيان اللي شوفناها ،هو فيه إيه يا ولاد ، أنت منين يابا الحاج ،هو فيه ايه يا ولاد ؟ رد الشاب المتهكم :هايرخصو لك اللحمة يابا  عشان تاكل والناس كمان تاكل وتلظلظ وها تلبس كوتشي عشان تتنعم أكتر في بلاليع الخرابة  دي ، هو الريس ماشي معاهم  يا ولاد ، صباحك فل يابا ..ريس مين..  دا أنت اللي ريس "
 
 ومازال خلف حباته الثائرة يركض على أربع ،بائع الحرنكش ،يشبه العراه ،بعد أن جرده صاحب المحل المتضرر فأبقى له ما يكفي من خيبة وعري ، فشلت محاولاته لإنقاذ كريات الحرنكش من تحت النعال ، عب  البعص  منها في كيس من البلاستك الأسود الممنوع ، اشفقوا عليه فافسحوا له  المكان ،جلس
\ بجانبهم على الرصيف يهذي ، يتابع  دونما اهتمام  دوران المشهد،  سيارات النجدة تجر في أذيالها لسعة الإسعاف المثير للانتباه ، بينما جمهور المتفرجين يفوق جدا الأعداد المتظاهرة والتي بدأت تخبو بعض الشيء ،  وزع حرنكشاته عليهم ، يواسونه ، ويسخرون من المشهد برمته "  ماتزعلش .. دا حرنكشك  قام بمظاهرة  عظيمة ودخل التاريخ ، عشان نغني بعد كدا بلح زغلول وحرنكش .. اسمك ايه..؟ ، سعد ، ياسبحان الله  وحرنكش سعد ، روق ياعم سعد " 
شاطرهم في  الفطير الساخن المحشو بالقشدة والصبر والنكات الساخرة بيقولك واحد دخل مظاهرة ماطلعش ، ليه ..؟ طلعت موزّاهرة ،ماتزعلش يا عم سعد إحنا عاوزينك تضحك ، الله يعوض عليك ، أمّال أعمل أنا  إيه ، جاي من آخر الدنيا ، داير بإبنى على الدكاترة وكوم روشتات وما حدش بيقول حاجة زى التاني .. دكاترة همْ " ،  وسط هذا الضجيج سأل أحد الشباب الواقف  " أنت بتحلم بإيه يا عم سعد ، ما بحلمش ، هم كانوا بيجروا ليه والمحلات بتقفل ليه ،

أصل فيه مظاهرة ، يعني إيه ، ناس طالعة تصرخ وحريم  تشد شعرها وتلطم ، على مين  يا بني  هو حد مات ...؟، آه، الشعب مات من  زمان فكرا يطلعوا  يصوتوا عليه النهارده  ويدفنوه بالمرة  بعد ما عفن وبأت ريحته فرجة للي يسوا واللي ما يسواش ، فيه  إيه يا بنى ما تفهمني ،أنت بتتسمخر  منى دا  أنا  أد أبوك ، والمصحف أبدا يابا الحاج  جزمتك على راسي، بس بنفضفض شوية ، شوف ياحاج  المظاهرة دى  عشان بيطالبوا بحقوقنا و يحققوا أحلامنا  ، بيقولوا كده بس  دا مش صحيح ، ماتعرفش مين اللي بيتظاهر ومين معاهم وإيه الحكاية أصلا ..، وأنت يابني  مش عندك أحلام زيهم ليه مش معاهم ..!، لا يابا الحاج أنا ما عنديش إي أمل خالص ، أنا باجرى على أمي واخويا الصغير وبشتغل قى محل السجاجيد  اللي  وراك دا  ، أصحي اسب والعن العيشة كل طلعة صبح والحمد لله ، يا بنى أشكر ربنا أنت أحسن من غيرك  بكرة ربنا يكرمك ، بأولك مش نافعه  يابا الحاج ،تجيبها كده تجيبها كده هي مِطبلة ،تعرف ياحاج بكره المظاهرات دي هاتقع في حيص بيص ونفضل نحلل فيها ونتكلدا لو حد عبرنا وفي الآخر ممكن يطلع لها ميت عفريت ومصلحجي  وبعدين يصفوا

حساباتهم على قفا  الغلابة اللي زينا ، الصبر حلو وبعدين إيه يمنع العيال دول يحققوا  أحلامهم من  غير زيطة  هو حد حايشهم ، أيوه الحكومة ، وهي  يابني الحكومة مالها ومالهم ، قصدك مالها ومالنا يابا الحاج  ،الحكومة أصلا مش عارفة إن فيه ناس في البلد دي اسمهم إحنا-  ويا ريتها  تسيبنا في حالنا وتخليها في حالها وكفاية اللي إحنا فيه"  قالت مرات الحاج   " أيوه يا بني لا إحنا بتوع مشاكل ولا حمل وجع القلب يادوب نربي العيال ونمشي جنب الحيط ،  طب لما يهيصوا كده يعنى ها يرجعولى الحرنكش اللي انداس،  ياعم سعد إحنا عندنا حكومة مش تاكل  الحرنكش..دي لاهفة لحمنا  حي ،مسؤولين  زي الفل والعسل ، عددهم ما شاء الله  كتير أوي، وعلى طول تلاقيهم بيضحكوا في الصور زى العبط  ،شوية جهلة  مايعرفوش غير العجن واللعبكة  حتى كلامهم كل غلط ، ما هو من الخيبة والوكسة  يا بني ، معاك حق ياحاجة كل ما يكحلوها يزودوا الشّشْم ويعْمونا أكتر ، الله يحرقهم بجاز عكر ، دا اللي يستعبط غلابة زينا عمره ما هايورد على جنة ولا حتى على نار ، والمصحف أنت فيلسوف يا حاج ( قالت احدى الشابات من مفترشات الرصيف وهي تأكل الأيس كريم  وطبعا انشكحت مرات الحاج ) ،"والله  راضيين بكده يا بنتي بس  مايخربوهاش  أكتر من كده"، يالاّ يامّه نروح مش هانلاقي مواصلات تودينا البلد.
 
  يحاول أحدهم وأصحابه يخترق  بسيارته الفارهة  كتل التجمهر، يصل للمسامع نعيق الكاسيت النافر من سيارته  " وشربت حجرين ع الشيشة ... والشارع اللي ورايا أدامي ..! "، دول بأه ياحاج مالهموش دعوة  بحاجة خالص ، عيال مستوردة على كيفك ودماغ مضروبة  مية مية ، لا  مظاهرات ولا الدنيا الخايبة بتاعنا ولا عيشة لمؤاخذة عرة  ، ما تسمعنا يا روح ماما عيشة أهلك حرام في حرام ،هم دول بياكلوا حرنكش..؟والله العظيم لو أبو واحد فيهم سمعك يا عم سعد  ليظبطك ، بالإذن  يا جماعة  نشوف حالنا  كفاية كده ، ضيعوا وقتنا ولاد الكلب 
 
 خفتت وتباعدت الضجة سريعا- وسريعا ما عادت الحياة إلى سابق رتابتها قبل ساعات لكن ثمة هاجس ما بعث ولم يبرح الأقاويل وهل  انتهى الأمر هنا أم أنه قابل للتجديد ، الاتجاهات متشعبة ، والطرق متضاربة ، والرؤى معدومة ليجتهد كل منهم بذاته ، التفت عم سعد ،يتابع  عبر  تلفاز محل الحلويات   كل تعليقات الحدث  ، ورغم السلمية  سمع عن إصابات بعضهم  واعتراكات بين المتظاهرين والأمن  وافتعالات أخرى ، لا يهتم ولا يصدق إحداها ، تلهث نظراته النهمة تبحث عن بقايا  لثمراته الصغيرة ، يدب أذنه في جوف أمنيته عله يسمع المعجزة ويعود بيته  بقروشه القليلة ،لف بوجه المتدلي مخذولا على رعشة كتفيه ويهذي" هم الناس اللي في التلفزيون  دول مصريين زيّنا  ولا أنا اللي مش من هنا..هم بياكلوا حرنكش ..؟! " ، انحنى يتتبع  فوق حراشيف الإسفلت أثار لدم الحرنكش الشهيد ..! 
 
*مرت أعوام ثلاثة تؤكد أنها  أحداث  أو مظاهرة أو ثورة  لم تكمل يومها الثالث حتى تآفعت وتوحشت وأغلظت النوايا 28 يناير وتشتت الرؤى  وتصارعت الثعابين ومازالت الدماء تتدلى والأحلام ما فتئت تدق الأبواب فقط أن يعود الحرنكش يسود ضاحكا شوارع المدينة -
ولم ينته بعد ..
 

 

 

جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com