مجمع خلقيدونية

بقلم/ سوزان قسطندي

 30  ديسمبر 2006

"ولكن إن كان لكم غيرة مرة وتحزّب في قلوبكم فلا تفتخروا وتكذبوا على الحق،  ليست هذه الحكمة نازلة من فوق بل هي أرضية نفسانية شيطانية، لأنه حيث الغيرة والتحزّب هناك التشويش وكل أمر رديء" "يع 3: 14-16"

بعد وفاة الإمبراطور ثيئودوسيوس الصغير دون خلف يرث العرش، أغرى رجال البلاط أخته بوليكاريا -التي كانت قد نذرت العفة وترهّبت بأحد الأديرة- على الزواج من أحد أحد أكابر المجلس الروماني وقواد جيش المملكة المدعو مركيان (مركيانوس)، فنكثت عهد العفة وتزوجت به مخالفة لشريعة الكتاب، وسلّمته مهام المملكة عام 450م - وصار مركيان إمبراطوراً للشرق (450- 457م)، إذ لم تكن تقاليد الدولة تسمح بإعتلاء النساء العرش.. وكان مركيان يميل لمعتقد نسطور، وكانت بوليكاريا على جانب كبير من الدهاء والكبرياء..

كانت بوليكاريا تحسد رؤساء الكرسي السكندري على ما وصلوا إليه من الشهرة والاعتزاز وحصولهم على شرف سامٍ يفوق شرف الملوك، وخشيت امتداد نفوذ بطاركة القبط في القصر الملكي وارتفاع كلمتهم على كلمة الحكام الرومانيين، وخافت من استقلال هؤلاء البطاركة ببلادهم، وتأكدت أن ذلك في إمكانهم لعلمها بأن البطريرك المصري (الذي كانوا يسمّونه فرعون مصر) يستطيع أن يقيم ويقعد بلاده بكلمة تصدر منه.. فعملت على إذلال شرفهم في شخص البابا ديوسقوروس.. ورأى لاون أسقف رمية أن ذلك من مصلحته ليحل محل البطريرك المصري في السطوة والنفوذ، فاتفق معها على تدبير مكيدة لذلك القديس.

مجمع خلقيدونية عام 451م لاستئناف أحكام مجمع أفسس الثاني:

استدعى لاون زعماء الحزب النسطوري، وبعث إلى مركيان قيصر يلتمس منه السماح بعقد مجمع عام لفحص أعمال مجمع أفسس الثاني واستئناف أحكامه.. فلما رأى البابا ديوسقوروس أن لاون تمادى في عدوانه وسعيه في إبطال مجمع نظامي شرعي وقبوله للهراطقة، عقد مجمعاً بالإسكندرية قطع فيه لاون من شركته - الأمر الذي زاد من حدة غضب لاون.

ثم كتب مركيان إلى لاون قائلاً: "إني مستعد لعقد المجمع في القسطنطينية تحت رئاستك، وإذا كان في السفر مشقة عليك فأنا أقوم مقامك لرئاسة المجمع"، فرد لاون بأنه ينبغي في هذا المجمع البحث عن طريقة يتمكنون بها من الصفح عن الأساقفة الذين سلكوا مسلك ديوسقوروس ووافقوا على رأيه، وكان لاون يأمل أن يكون مقر المجمع في مدينة رومية، غير أن القيصر لم يكن يرغب في ذلك - إذ كانت سياسة مركيان وبوليكاريا ألا يدعا إمبراطور الغرب يتدخل في شئون الشرق الدينية.. كانت نتيجة هذه العوامل أن عقد الإمبراطور مجمعاً في قصره بالقسطنطينية دعا إليه كثير من الأساقفة - كان معظمهم نسطورياً، كما بعث إلى البابا ديوسقوروس يدعوه لحضور المجمع (كما أُشير على الإمبراطور الجديد من بعض الأساقفة كي يحضر ديسقوروس ويحاول التأثير عليه لعله يقبل التعليم الجديد القائل بطبيعتين ومشيئتين للمسيح بعد الإتحاد ويصفح عن الأساقفة المبتدعين)

أساء لاون انعقاد المجمع بمدينة غير رومية فامتنع عن الحضور وأرسل نواباً عنه- ادَّعى فيما بعد أنهم ترأّسوا الجلسات باسمه، ولكن الحقيقة أن مركيان انتخب تسعة عشر عضواً من كبار المملكة ليترأّسوا المجمع بخلقيدونية نيابة عنه.

وكان موظفو بلاط قيصر الشرق الجديد بعضهم يتحزّب لنسطور والبعض الآخر للأرثوذكسيين، إلا أن الحزب النسطورى كان الأقوى لأن بوليكاريا ومركيان كانا من أنصاره.. وقد حرص الملك مركيان وزوجته بوليكاريا على حضور هذا المجمع بالقسطنطينية ومعهما عدد كبير من أفراد الحاشية وكثير من الضباط والجنود بالملابس الرسمية، كما حضر القضاة الذين اختيروا لإدارة جلسات المجمع.

أما عدد الذين حضروا هذا المجمع فقالت مصادر أنهم 330، ومصادر أخرى أنهم كانوا ضعف هذا العدد، وهناك من قال أنه 500 أسقف.

فلما حضر البابا ديوسقوروس إلى القسطنطينية بناء على دعوة الإمبراطور ورأى هذا العدد الكبير من الأساقفة مجتمعين بلا سبب أو مبرر دُهش جداً، وهتف نحو القيصر قائلاً: "أيها الملك الأعز، ما هذا الجمع الذي أراه؟ وما سبب اجتماعه؟ إن الإيمان لفي غاية الكمال، والآن لسنا ننتظر قيام هرطقة توجب اجتماعا مثل هذا، فدع الأساقفة ليذهب كل إلى مركزه".. فأجابه بعضهم: "إن القيصر ليس بمتحقق إن كان المسيح طبيعة واحدة أم طبيعتين".. فجاهر ديوسقوروس بالإيمان السليم مستشهداً بأقوال القديسين أثناسيوس الرسولي وكيرلس الكبير ويوحنا ذهبي الفم، وأعطى مثلين لإتحاد اللاهوت بالناسوت في طبيعة واحدة بدون امتزاج، موضحاً أن اللاهوت لم يجتاز بالآلام والموت الواقع على الناسوت وحده، وهما: الحديد المتحد بالنار (حيث لا تتأثر النار بالثني الواقع على الحديد إذا ضُرب بالمطرقة)، وآلام الشهداء الواقعة على أجسادهم دون نفوسهم .. فاقتنع الكثيرون بهذا الكلام.

انزعج المقطوعون واللاونيون، ووشوا للقيصر أن يُخرِج ديوسقوروس من المجمع، فأمر مركيان بعد اكتمال عددهم بأن يرحلوا إلى مدينة خلقيدونية (خلكيدون، وهي إحدى مدن آسيا الصغرى القديمة، وقد بُنيت حوالي عام 685 ق . م  على ساحل بيثنية تجاه الموضع الذي بُنيت فيه بعدئذ مدينة القسطنطينية، ويبدوا أنها خربت في القرن الثاني قبل الميلاد فانتقل سكانها إلى مدينة نيقوميدية، غير أن يوستينيانوس عمل على إعادة بنائها وتعميرها، وتخرّبت ثانية أمام الفتح العثماني، ويقال أن موضعها الآن قرية صغيرة بإسم " قاضي قوة" بتركيا)

وعُقد المجمع بكنيسة القديسة أوفيما بخلقيدونية يوم 8 أكتوبر عام 451م، وآثر اللاونيون على القيصر بإخراج ديوسقوروس معللين بأن الذي أتي ليُدان لا ينبغي له الحضور، فلم يوافق القيصر.

براءة البابا ديسقوروس من الاتهامات:

اجتهد نواب أسقف رومية وأتباعه من الأساقفة الشرقيين في أن يتّهموا البابا ديوسقوروس عدة اتهامات فيما رأوه خطأ في مجمع أفسس الثاني لمحاكمته، ظانين أن ذلك يضعفه أو يخيفه، ولكن على العكس كان يجاوبهم بكل جرأة واحترام وكان ساكناً هادئاً مستعملاً سلاح الحكمة والبرهان عوضاً عن الثرثرة الفارغة التي كانت سلاحهم الوحيد.. وتلك هي أهم هذه الإدّعاءات ورد البابا ديوسقوروس عليها:-

أولاً: ادَّعوا أن البابا ديوسقوروس عقد المجمع برئاسته، وبدون علم أو استئذان الكرسي الرسولي الروماني (وقد طلبوا بناء على ذلك خروجه من المجمع، ورُفض طلبهم)

الرد: إذا كان الأمر كذلك ولم يعلم أسقف روما، فمن الذي بعث بنواب روما الثلاثة الأسقف يوليانوس والقس راناد والشماس إيلاريوس.. ومن الذي كتب رسالة لاون.. كما أنني لم أكن في حاجة إلى استئذان أسقف رومية في عقد المجامع التي صدر أمر القيصر بتشكيلها.. والذي رأس المجمع هو الملك، وقد ولّى معي يوبيناليوس أسقف أورشليم وطلاسيوس القيصري كما هو ثابت من المراسيم الملكية.

ثانياً: ادّعوا ضد البابا ديسقوروس بأنه جعلهم يوقّعون على أوراق بيضاء في المجمع، وأنه أجبرهم على التوقيع على قرارات المجمع فوقّعوا مُرغمين تحت ضغط الجنود شاهري السلاح. (وهذه تهمه هزيلة باطلة تنقضها أعمال ذلك المجمع نفسه)

الرد: قال البابا ديوسقوروس لأحدهم: "الآن من فمك تتبرر ومن فمك تدان، لقد استحييت من الناس وأهنت الإيمان خوفاً منهم"، وقال أساقفة مصر: "إن جندي المسيح لا يرهب القوة التي لا تُرهِب إلا الجبان، أضرموا النار ونحن نعلِّمكم كيف يكون الاستشهاد"..

وإيذاء ذلك وما توجبه هذه التهمة من شديد اللوم عليهم قالوا في الجلسة الأولى "أخطأنا ونطلب الغفران" (ومن الغريب أيضاً أن نرى المؤرخين الكاثوليك أنفسهم يقرّون في كتبهم ضعف هذا الادعاء)

ثالثاً: قالوا أيضا أن الأب ديسقوروس لم يأمر بقراءة رسالة لاون أسقف روميه في المجمع، بل قد أخفاها (وهذا غير صحيح حيث أن البابا طلب قراءتها مرتين، واعترف بذلك يوبينال أسقف أورشليم عندما سأله القضاء عن رأيه فقال: " إن الأب ديسقوروس أمر بقراءتها).

الرد: العجيب في هذا الأمر أن يتمسّك هؤلاء بتلك الرسالة التي في الواقع هي رسالة نسطورية بعيدة عن الحق إذ جاء فيها ما نصه "الكلمة يفعل ما يختص به الكلمة واللحم يختص به اللحم، فالواحد من المذكورين يبهر بالمعجزات والآخر مُلقى للإهانات، وحقاً يأتي المسيح الاثنين الإله والإنسان"، فكان الأجدر بهم أن يعملوا على إخفاء تلك الرسالة حتى لا تظهر سقطاتهم.

رابعاً: قال المدّعين أيضاً أن كَتَبة ديوسقوروس كتبوا وحدهم محضر أعمال مجمع أفسس الثاني وغيّروا فيه.

الرد: إن كل واحد من الأساقفة كان له كتبته، فكتبتي كتبوا نسختي، وكل من كتبه يوبيناليوس وطلاسيوس كتبوا نسختهم، وكذلك باقي الأساقفة الآخرين، ولقد صدّق أسقف أورشليم على قول ديوسقوروس.

خامساً: وقف أحد الأساقفة النسطوريون المدعو أوسابيوس وطلب من القضاة أن يسألوا الأب ديوسقوروس عن سبب منعه من دخول الجمع.

الرد: أسألكم أن تقرءوا شهادة ألبيديوس القائد " مندوب الملك "الذي منعه بأمر الملك. وأقّر ذلك يوبيناليوس أسقف أورشليم، وأمر القضاة بقراءة أعمال المجمع في الأمر الملكي الذي أشار إليه الأب ديسقوروس. (والغريب أنه بالرغم من اعتراض هؤلاء على البابا نراهم يسمحون للأسقف ثاوذوريتوس النسطوري المقطوع بالحضور في مجمع خلقيدونية، الأمر الذي جعل البابا يصيح فيهم قائلا "أنتم تسلبونني كأني تعدّيت القوانين، فهل أنتم تحفظون القوانين عند دخول ثاوذوريتوس؟)

 سادساً: اعترضوا على البابا لتبرئته لأوطاخي مدّعين أنه يماثله في العقيدة.

الرد: إن كان أوطاخي يذهب بخلاف مذهب البيعة فهو لا يستحق العقاب فقط بل النار أيضاً، أما أنا فمهتم بالإيمان ولست بشأن أحد من الناس، بل فكري شاخص إلى اللاهوت فلا أبالي بأحد ولا أهتم بأحد سوى بنفسي وبالإيمان المستقيم الصحيح.

(وإننا نعرف أن آباء المجامع المسكونية لا يصدرون أحكامهم على المبتدعين إلا بعد أن يتأكدوا من أنهم مصرّين على التمسك بأقوالهم المناقضة للإيمان السليم، وكانوا يتمنّون عودة المبتدعين للحق. و قد ناقش البابا أوطاخى في عقيدته فأقرّ واعترف بالإيمان السليم أمام الآباء، ثم قدّم للمجمع صورة إيمانه مكتوبة بخط يده و إذ بها أرثوذكسية صحيحة. كان على الخلقيدونيون أن يعترضوا لو أنهم رأوا في اعتراف أوطاخى ما يخالف القانون.. أما أوطاخى فقد عاد إلى بدعته ثانيه بعد تبرئته، وهذا لا دخل للبابا ديوسقوروس فيه إذ كان من الممكن أن تُعاد محاكمته في مجمع آخر، كما لا ننسى أن لاون أسقف روما قد انخدع في أقوال أوطاخى -كما انخدع آباء مجمع أفسس الثاني- وأرسل رسالة إلى المجمع يثني فيها على عناية أوطاخى بأمر الإيمان و يدعوه بالابن القس العزيز.)

سابعاً : قالوا أن البابا ديوسقوروس حكم على فلابيانوس بطريرك القسطنطينية ظلماً.

الرد: إن الأسباب التي بني عليها الحُكم على فلابيان واضحة صريحة وهي أنه كان يعتقد بوجود طبيعتين للمسيح بعد التجسد، أما أنا فلي شهادات من أقوال الآباء أثناسيوس وغريغوريوس وكيرلس تؤيد أنهم كانوا يعتقدون بعدم وجود طبيعتين للمسيح بعد التجسد بل طبيعة واحدة للكلمة المتجسد، فإذا كان في اعتقادي خطأ فيكون أصله من خطأ هؤلاء الآباء المحترمين الذين أقول أنا بقولهم ولا أتحوّل عن مبدأهم، وحتى يكون المجمع على ثقة من قولي أخبره أنني نقلت أقوالهم هذه بالحرف الواحد واعتنيت كثيراً في ضبطها على الأصل والتحقق من صحتها.

(ولكن عندما نقرأ أعمال المجمع نرى أنه لم يحكم عليه ظلماً، حيث أنه سقط في هرطقة إذ قال بطبيعتين بعد الاتحاد -و هو يفنِّد بدعة أوطاخى، متأثراً بالفكر النسطوري، وحاول الأساقفة إقناعه لكنه تمسّك بأقواله.. وإننا نتعجب من ذلك كيف أن الخلقيدونيون يؤمّنون على أعمال مجمع أفسس الأول برئاسة البابا كيرلس وفي نفس الوقت يشجبون مجمع أفسس الثاني برئاسة البابا ديوسقوروس، مع أن المحرومين في كلا المجمعين هما النساطرة.. فهل غيّرت الأيام قلب أسقف رومية من نحو النسطوريين، أم أن الميل لمقاومة البابا السكندري ألزمته بأن يتنازل عن المعتَقَد القويم ويعتنق مذهباً باطلاً ليؤيّد مركزه بأنصاره)

والنتيجة التي نستخلصها من كل ما سبق أن البابا ديوسقوروس برئ من كل هذه الاتهامات، ومن كل ما نُسب إليه ظلماً في مجمع خلقيدونية الزائف.. ومن كتابات الكنيسة الغربية نفسها يتضح لنا سلامة وصحة عقيدة البابا ديوسقوروس وحفظه للأمانة الأرثوذكسية.

أحكام المجمع:

وكان نواب لاون يتذمّرون من ترك الحرية لديوسقوروس ليبدى أفكاره، فأجابهم الرئيس: "إن هذا المجمع يقتفى آثار العدل والحق في أعماله، فهو يمنح حرية الأفكار الصحيحة لجميع الأعضاء على السواء".. وبذلك انتهت الجلسة الأولى، وعيّنوا موعداً لانعقاده بعد خمسة أيام.

لما رأى مندوبي لاون وأساقفة الشرق الموالين له أن الأمر يؤول إلى تبرئة البابا ديوسقوروس، تحايلوا بتقديم موعد الجلسة القادمة للمجمع بعد ثلاثة أيام بدلاً من خمسة، وجعلوا حضور المجمع قاصراً على أساقفة الشرق وبعض أساقفة الغرب، ومنعوا من الحضور أساقفة مصر ومندوبي الحكومة وديوسقوروس الذي وضعوا على باب بيته حراساً حتى لا يتمكّن من الخروج، ولما حاول الخروج منعه الحراس بأسنّة رماحهم.. ثم استحضروا شهود زور ضد ديوسقوروس في غيابه (كما فعل كهنة اليهود مع المخلِّص، وكما فعل الأريوسيون مع البابا أثناسيوس من قبله)

وأُعلن الحُكم ضده غيابياً، إذ قرر المجمع الآتي:

1- إلغاء قرارات مجمع أفسس الثاني.

2- تبرئة فلابيانوس أسقف القسطنطينية.

3- حرم أوطاخي (رغم اعترافه بقرارات مجمع نقية وأفسس الأول.

4- تجريد البابا ديوسقوروس من رتبته الكهنوتية وعزله (مدّعين أنه متشيّعاً لبدعة أوطاخي.

وأُرسل الحُكم إلى القيصر وزوجته وأساقفة مصر الموجودين بخلقيدونية.. كل ذلك جرى بغاية الاستعجال، الأمر الذي احتج له مندوبي الحكومة يطلبون سحب الحُكم ولكن بدون جدوى، فانسحبوا من المجمع.. كما أن مقاومي البابا السكندري رأوا فيما بعد أن حكمهم باطل وغير معتَبَر شرعاً فطلبوا من البابا الحضور، ولكنه امتنع لما علم بانسحاب مندوبي الحكومة لعلمه بسوء نية أعضاء المجمع وشر ما عزموا عليه.

أما المجمع فأيّد الحُكم، وكان من بين أعضائه من اضطر لتأييده خوفاً من بطش القيصر..

ولما اطلع البابا ديوسقوروس على قرارات المجمع رفض التوقيع- كما رفض كل الأساقفة المصريون، وكتب معلقاً في أربعة أركان حاشية الورقة ما يفيد حرم هذه العقيدة ومن يتمسّك بها.

فحرى بالمؤرخين أن يطلقوا على هذا المجمع لقب "اللصي"، فالحقيقة تؤيده عليه وتنفيه عن مجمع أفسس الثاني (الذي ينعته الخلقيدونيون باللصي).. وهكذا انفض هذا المجمع بعد أن شقّ كنيسة المسيح.

تقول مدام بتشر الإنجليزية في كتابها "تاريخ الأمة القبطية" المجلد الثاني ص58: "إن بابا روما نفسه لم يكن راضياً عن مجمع خلقيدونية ولم ترق في عينيه القرارات التي أصدرها، مع أنه تمكن بواسطته من سحق خصمه ديوسقوروس ولكنه لم يتحصّل على غايته القصوى التي كان يسعى إليها وهي التصديق من الإمبراطور أو المجمع بأولوية الكرسي الروماني وإعطائه الرئاسة على باقي الكراسي"

(ومن هذا يتضح – بكل أسف – أن الأسباب الخفية وراء انشقاق الكنيسة بعد مجمع خلقيدونية كانت غايات شخصية وحب الذات والرئاسات، متخذة من الدين ساتراً، ومن السياسة عائلاً!!)

جهاد البابا ديوسقوروس:

لما بلغ مركيان رفض ديوسقوروس التوقيع على قرارات المجمع همّ بقتله، فأُشير عليه بإحضاره أمامه، فأمر به فحضر، وأُُومأ إلى ديوسقوروس أن يذعن لرأي القيصر ليستمر في مركزه، وإذ أدرك البابا أنها مؤامرة لكي يتخلصوا منه شخصياً أو يتخلصوا من مبادئه القويمة المناهضة لنسطور قال: "إن القيصر لا يلزمه البحث في هذه الأمور الدقيقة بل ينبغي له أن ينشغل بأمور مملكته وتدبيرها ويدع الكهنة يبحثون عن الأمانة المستقيمة فإنهم يعرفون الكتب وخير له أن لا يميل مع الهوى ولا يتبع غير الحق" .. فاندهش الجميع من جرأته، وهنا قالت الإمبراطورة بوليكاريا: "يا ديوسقوروس لقد كان في زمان أبي وأمي أفدوكسيا إنسان قوي الرأي مثلك (تقصد القديس يوحنا ذهبي الفم)، فحُرم ونُفي من كرسيه، وأنت تعلم أنه لم يرى خيراً من جراء مخالفتها، وإني أرى أن حالك سيكون مثله"،  فأجابها بكل شجاعة وهدوء :"نعم، وأنتِ تعرفين ما جرى لأمك نتيجة لاضطهادها لهذا القديس وكيف ابتلاها الله بالمرض الشديد الذي لم تجد له دواء ولا علاج إلى أن مضت إلى قبر القديس يوحنا وبكت واستغفرت فعوفيت، وها أنذا بين يديكِ فافعلي ما تريدين وستربحين ما ربحته أمك".. فحنقت بوليكاريا من قوله ولم تتمالك نفسها وصفعت القديس صفعة شديدة اقتلعت له ضرسين، وما أن رأى الحراس ثورة ملكتهم حتى إنهالوا على القديس ضرب وطعن رغم شيخوخته ونتفوا له شعر لحيته، والعجيب أنه أثناء ذلك كله كان صامتاً محتملاً ناظراً إلى فوق وهو يقول : "من أجلك نمات كل النهار".. وبعد ذلك أخذ ضرسيه وشعره وأرسلهما لأبنائه بالإسكندرية مع رسالة قائلاً فيها: "هذه ثمر جهادي لأجل الإيمان، اعلموا أني قد نلت آلاماً كثيرة في سبيل المحافظة على أمانة آبائي القديسين، أما أنتم الذين إيمانكم على صخرة الإيمان القويم فلا تخافوا السيول الهراطقية ولا الزوابع الكفرية."

وأصدر القيصر أمراً بنفي القديس إلى جزيرة غاغرا بآسيا الصغرى، وكان مرافقاً له من إكليروسه القديس مكاريوس أسقف إدكو (الذي تنبّأ له البابا ديوسقوروس بأنه سينال إكليل الشهادة في الإسكندرية لأجل دفاعه عن إيمان ابن الله، وقد تمت نبوءته)، والقس بطرس والشماس ثاوديسطس سكرتيره وكاتب سيرته.

ورُوى أن البابا ديوسقوروس ومن كان معه من الأساقفة المصريين شرعوا في منفاهم ينشرون نور الإنجيل ويبشّرون أهل ذلك المكان (الوثنيين) حتى آمن كثيرون منهم بالمسيح وتعمّدوا، وقد أظهر الله على أيديهم آيات وعجائب كثيرة.. وارتفع شأن القديس في عيون أهل منفاه بعد أن كانوا أولاً يعاملونه بقسوة، وأصبح موضع احترامهم وإكرامهم.

وظل القديس ديوسقوروس في منفاه حتى تنيح بسلام عام 457م.

وتلقِّب الكنيسة القديس البابا ديوسقوروس الذي قضى حياته مدافعاً عن الإيمان القويم بـ "بطل الأرثوذكسية العظيم"

بركة صلواته فلتكن معنا.

المراجع:

تاريخ الكنيسة القبطية - القس منسى يوحنا

تاريخ الكنيسة القبطية – إصدار كنيسة رئيس الملائكة ميخائيل ومارمينا بستاتين أيلاند بنيويورك

الخريدة النفيسة في تاريخ الكنيسة - للأسقف الأنبا إيسيذورس

جميع الحقوق محفوظة لـ دراسات مصرية، موقع تابع للأقباط متحدون

© 2006 Copts United  http://www.copts-united.com/, all rights reserved .
Best view : IE6 ,IE7  Screen resolution 800 by 600 pixels