انشقاقات الكنيسة بعد مجمع خلقيدونية

بقلم/ سوزان قسطندي
13 يناير 2007
"أنتم تعلمون أن رؤساء الأمم يسودونهم والعظماء يتسلّطون عليهم، فلا يكون هكذا فيكم، بل من أراد أن يكون فيكم عظيماً فليكن لكم خادماً، ومن أراد أن يكون فيكم أولاً فليكن لكم عبداً") مت25:20-27(
"لأني أخاف إذا جئت أن لا أجدكم كما أريد، وأوجَد منكم كما لا تريدون، أن توجَد خصومات ومحاسدات وسخطات وتحزّبات ومذمّات ونميمات وتكبّرات وتشويشات" (2كو 12: 20)

أولاً: انشقاق الكنيسة إلى خلقيدونية وغير خلقيدونية
كانت نتيجة لقرارات مجمع خلقيدونية عام 451م أن انقسمت الكنيسة إلى شطرين:
1- الكنائس الغير خلقيدونية: وتضم الكنيسة القبطية (ومعها الحبشية)، وكنيسة أنطاكية ،وكنيسة أورشليم، وكنائس آسيا الصغرى -عدا القسطنطينية- التي –كنائس آسيا الصغرى- ظلت متمسكة بقرارات المجامع الأولى ومعتقدات أثناسيوس وكيرلس وديسقوروس في طبيعة واحدة للمسيح أي اتحاد اللاهوت بالناسوت بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير. (وحالياً الكنائس الشقيقة للكنيسة القبطية الأرثوذكسية هي الكنيسة الحبشية والإريترية والسريانية والهندية والأرمنية).
2- الكنائس الخلقيدونية: تضم كنيسة رومية، وكنيسة القسطنطينية - اللتين اعتنقتا المعتقَد القائل بأن للمسيح طبيعتين ومشيئتين.
والحقيقة أن كل من يقف على حوادث ميل أساقفة رومية للرئاسة العامة وكيف أنهم في سبيل الحصول عليها أراقوا دماء الأبرياء، لا يندهش إذا سمع بتنديدهم بمجمع أفسس الثاني القانوني وأحكامهم الغير قانونية في مجمع خلقيدونية- ما أدى إلى انشقاق الكنيسة.
واختصت الكنيسة المصرية (القبطية) نفسها وكنيسة سوريا (أنطاكية) التي على مذهبها وكل من تبعها بلقب "الأرثوذكسية" (أي المستقيمة الرأي).
سُمى أنصار مجمع خلقيدونية بـ "الملكيين" لأنهم كانوا على رأى الملك الروماني الخلقيدوني، وسُمى الأرثوذكسيين بـ "المتأصلين" أي الذين لم يغيّروا معتقدهم.. كما وصفت الكنائس الغربية- الكنائس الشرقية على أنه "مونوفيزيةMonophysite (أي تؤمن بطبيعة واحدة في المسيح)، بينما وصفت الكنائس الشرقية- الكنائس الغربية بأنها ديوفيزيةDiophysite (أي تؤمن بطبيعتين في المسيح).. وقد قاد أقباط مصر حركة المونوفيزية الأرثوذكسية في كل الشرق.
رفضت الكنيسة القبطية الاشتراك مع الهرطقة والاعتراف بقرارات مجمع خلقيدونية، وأبت الاعتراف بسلطة بطاركة الأروام الذين كان القيصر يعيّنهم على الكرسي السكندري.. واشتركت الكنيسة الحبشية مع أمها القبطية في ذلك، ورفضت رسامة مطارنتها بيد غير الأقباط الأرثوذكس ولا تزال على هذا الرأي إلى يومنا هذا.
بعد نياحة البابا ديوسقوروس في منفاه نصّب الأقباط بطريركاً لهم على الكرسي السكندري البابا ثيموثاوس الثاني (أيلورس) (26)، الذي عقد مجمع بالإسكندرية حرم فيهما مجمع خلقيدونية ورسالة لاون، وحرم البطريرك الخلقيدوني "بروتوريوس" الذي عيّنته الإمبراطورة على الكرسي السكندري وكل الكهنة التابعين له -والذي قام الأقباط بثورة هائلة ضده، أقمعتها جنود الرومان، وأستشهد فيها الآلاف من الأقباط معظمهم من الأساقفة والكهنة والرهبان ومن بينهم القديس مكاريوس أسقف إدكو- وتبرأ من شركة كنيسة رومية، والقسطنطينية (التي انحازت للخلقيدونيين بتأثير مركيان قيصر وبوليكاريا امرأته) وأنطاكية (التي كانت في أول أمرها منحازة للمذهب الخلقيدوني).
ثم عقد البابا تيموثاوس أيلورس مجمعاً آخر بالقسطنطينية عام 468م -بمساعدة القيصر الأرثوذكسي باسيليسكوس- بلغ عدد أعضائه 500 أسقف يتقدمهم البابا السكندري وحكم فيه ثانية بحرم مجمع خلقيدونية ولاون وطومس وأصدر منشوراً عاماً يقرّ بوحدة طبيعة المسيح ووجوب التمسّك بالإيمان النيقاوي الذي ثبتته ثلاثة مجامع مسكونية بالقسطنطينية وأفسس الأول وأفسس الثاني، وقد وقّع عليه ثيموثاوس السكندري وبطرس الأنطاكي وبولس الأفسسي وأنسطاسيوس الأورشليمي وأساقفة آسيا الصغرى والشرق، أما أكاكيوس بطريرك القسطنطينية فقد تردد في التوقيع.
وفي عهد البابا السكندري بطرس الثالث (منغوس) (27) عقد مجمعاً بالقسطنطينية عام 481م - بمساعدة الملك البار الأرثوذكسي زينون- لقبول شركة القسطنطينية بعد التحقق من توبة البطريرك أكاكيوس، واتفقا معاً على الإتحاد، ووقعا على "كتاب الإتحاد" المعروف باسم "هيوتيكون"، وحُكم فيه بحرم تعاليم آريوس ونسطور وأوطاخي وطومس لاون ومجمع خلقيدونية، وأُثبتت بنود كيرلس، وأُيدت مجامع نيقية والقسطنطينية وأفسس، ووقّع عليها البابا بطرس منغوس السكندري وبطرس القصّار بطريرك أنطاكية وأكاكيوس بطريرك القسطنطينية.
وقاوم فيلكس أسقف رومية مشروع الإتحاد، وعقد مجمعاً عام 484م حرم فيه البابا بطرس السكندري وأكاكيوس، فحرماه هما الاثنان بدورهما من شركتهما.
ثم في عهد أوفيميوس بطريرك القسطنطينية الذي كان على مذهب الملكيين، قطع هذا العلاقات الأرثوذكسية مع البابا بطرس السكندري.. فكان الذين اتحدوا مع باباوات الإسكندرية جهاراً من بطاركة القسطنطينية هم: أكاكيوس 481م، وأفراويطاس 491م، وتيموثاوس الأول 511م، وأنتيموس 535م، وسرجيوس 608م، وثيوذوروس 666م، ويوحنا 721م.. وخلاف ذلك تقّر كنيسة القسطنطينية بالمذهب الخلقيدوني.
أما الذين سلّموا في مصر بقرارات مجمع خلقيدونية فلم يكن بينهم مصري وطني واحد، ولكن جميعهم كانوا من الفئة اليونانية (الروم – الإغريق) القاطنة بمصر- وهي الفئة التي كانت تروّج بهذه البلاد لكل بدعة يبعثها إلينا الغرب، ولا ريب أن الطائفة الآريوسية التي شغلت الكنيسة القبطية مثلاً كانت بالضرورة يونانية.. بينما أن الشعب الأرثوذكسي الذي كان يسميه أعداؤه بالسابليين أو فيما بعد بالأوطاخيين كان بالضرورة وطنياً، وهذه الطائفة الوطنية الأرثوذكسية أو إن شئت قل المصرية كانت تشمل تلك الهيئة العظيمة نعني بها هيئة المتعبدين والرهبات وهؤلاء كانوا أقباطاً صميمين كما يتبيّن جليّاً من أسمائهم ومن جهلهم اللغة اليونانية وكانت تشمل أيضاً الجزء الأكبر من مسيحي الإسكندرية.. ونفس الهيئة اليونانية بمصر هي التي كدّرت سلام كنيستنا بالتسليم برأي المجمع الخلقيدوني.. وصار الأقباط من تلك الساعة يلقّبون أتباع ذلك المجمع بالسنوديين (أي المجمعيين) أو الإمبراطوريين.
كان نتيجة لهذا الانشقاق أن أضطهد قياصرة القسطنطينية الكنيسة المصرية وحاولوا بشتى الطرق أن يثنوا الكنيسة المصرية عن إيمانها ولكن باءت محاولاتهم بالفشل، فأرسلوا بطاركة من قِبلهم إلى الإسكندرية ليحلوا محل البطاركة الأقباط، وعُرف أولئك البطاركة المعيَّنين من قِبل الملوك بالبطاركة "الملكيين" وهم من أنصار معتقد مجمع خلقيدونية.. وبهذا أصبح في مصر بطريركان أحدهما يختاره الأقباط الأرثوذكس والآخر يرسله القيصر.. وكان الأقباط يرسمون بطريركهم سراً وكان لا يُسمح لهم بدخول الإسكندرية.. وظل الحال على هذا الوضع حتى سقوط الإمبراطورية الرومانية ودخول العرب مصر.
وقد أطلق خطأ بعض المؤرخون على الأرثوذكس المصريين لقب "يعاقبه" قائلين أن ذلك نسبة إلى "يعقوب" تلميذ البابا ديوسقوروس الذي أرسله إلى مصر عقب نفيه بحكم مجمع خلقيدونية لكي يثبّت الأقباط على معتقد الطبيعة الواحدة، وعلل البعض الآخر سبب هذه التسمية نسبة إلى "يعقوب البرادعي" الذي رُسم أسقفاً سنة 541م على إقليم أديسا إسمياً فقط لأنه كان كمرسَل يجول في أنحاء الولايات الرومانية لكي يضم سكانها إلى حظيرة الكنيسة المصرية.. وسواء صح هذا التعليل أو ذاك فإنه من الخطأ أن يطلَق على الأقباط المصريين هذه التسمية.

وتعترف الكنائس الغير خلقيدونية وهي الكنيسة القبطية ومن تبعها بثلاثة مجامع مسكونية فقط هي نيقية 325م، والقسطنطينية 381م، وأفسس 431م -وهي التي تعترف بها جميع الكنائس الشرقية والغربية (كما تعترف بقانونية مجمع أفسس الثاني 449م، إلا أنها لا ترفعه إلى درجة المجمع المسكوني حيث لا تنطبق عليه كل شروط المجمع المسكوني).. بينما تعترف الكنائس الخلقيدونية وهي الكنائس الكاثوليكية والروم الأرثوذكس بسبعة مجامع مسكونية هي نيقية 325م، والقسطنطينية 381م، وأفسس 431م، وخلقيدونية 451م (حيث تضم مجمع أفسس الثاني مع أعمال مجمع خلقيدونية)، والقسطنطينية الثاني 553م (لإدانة بدعة التناسخ أو التقمُّص)، والقسطنطينية الثالث 681م (لإدانة ذوي مذهب الطبيعة الواحدة، وإقرار مذهب طبيعتين ومشيئتين للمسيح)، ونيقية الثاني 787م (لإدانة محاربي الأيقونات، وإقرار وجوب تكريم الأيقونات لا عبادتها).

ثانياً: انشقاق كنيسة رومية عن كنيسة القسطنطينية
رأينا فيما سبق كيف تدخلت الأغراض والمطامع الشخصية في التفرقة بين صفوف الكنيسة الواحدة.. رأينا مجهودات بابا روما ضد بابا الإسكندرية.. ثم نراه الآن يوجّه مجهوداته ضد بطريرك القسطنطينية وما وصل إليه من مركز مرموق أقره مجمع خلقيدونية عام 451م- الذي منح بطريرك القسطنطينية حق الزعامة والتقدم، فاحتج أسقف روما ووقف الخصمان وجهاً لوجه في نضال وشجار حول لقب "الأعظم".. واستمر التنافس بينهما على السيطرة على العالم المسيحي إلى أن تم الانفصال الإداري بينهما بعد مجمع القسطنطينية الرابع عام 869م.
ثم من جهة أخرى قام شجار آخر عنيف بين الكنيستين حول إضافة كلمة إلى قانون الإيمان (وهي كلمة "الابن" التي أضافتها كنيسة روما إلى قانون الإيمان عن الروح القدس عند القول "نعم نؤمن بالروح القدس الرب المحيي المنبثق من الآب" وهنا تضيف كنيسة روما كلمة "والابن" فيقولون المنبثق من الآب والابن!!) وهذا يخالف الإنجيل وقرارات المجامع الأولى، وكان نتيجة لهذا أن اعترضت كنيسة القسطنطينية على ذلك كما اعترضت أيضاً على بعض العادات الكنسية التي وضعتها كنيسة روما كضرورة بقاء الكهنة غير متزوجين .. وظل النزاع قائماً بين الكنيستين حتى عام 1053م حيث أصدر بابا روما حُكم الحرم على أسقف القسطنطينية، فلم يكن من هذا الأخير إلا أن أذاع على العالم أن كنيسة روما قد هرطقت.
وكان نتيجة هذا الصراع والشجار انقسام آخر في الكنيسة، فانفصلت كنيسة رومية واختصت نفسها بلقب الكنيسة الكاثوليكية (أي الجامعة) أو اللاتينية أو الغربية (على أن أول من أستعمل لفظ كاثوليك للدعوة لتأييد الكنيسة مقابل حركات الخروج على مفاهيمها وعقائدها أي الهرطقات هو أسقف أنطاكية القديس أغناطيوس الأنطاكي في القرن الثاني الميلادي)، انفصلت عن كنيسة القسطنطينية التي اختصت نفسها بلقب كنيسة الروم أو الكنيسة اليونانية أو البيزنطية أو الشرقية، وسمّت نفسها الكنيسة الأرثوذكسية الخلقيدونية (تمييزاً لها عن الكنائس الأرثوذكسية التي لا تعترف بمجمع خلقيدونية).
(وكنائس الروم الأرثوذكس حالياً هم 15 كنيسة بكل من القسطنطينية والإسكندرية وأنطاكيا وأورشليم واليونان وروسيا ورومانيا وبلغاريا وتشيكوسلوفاكيا وجورجيا وبولندا وقبرص وصربيا وفنلندا وألبانيا).

ثالثاً: انشقاق الكنيسة البروتستانتية عن كنيسة رومية
تطورت الأمور في الكنيسة الكاثوليكية بسبب فساد البابوية حتى انشقت عنها الكنائس البروتستانتية (أي المعارِضة).
من يقرأ التاريخ يجد أن كنيسة روما وجهت كل مجهوداتها نحو السياسة والسيطرة على الأباطرة وإخضاعهم تحت سلطانها، فأدى هذا إلى نزاع شديد بين السلطتين الدينية والحاكمة -كان نتيجته ضعف البابوية وانحلالها.. وساعد على هذا الضعف اعتلاء كرسي البابوية أشخاص ممن لا أخلاق لهم فساءت أحوال كنيسة رومية ودب فيها الفساد، وتطرّق هذا الفساد إلى جميع الميادين الدينية في أوروبا وفسدت أيضاً الرهبنة وساءت الأحوال الدينية في الكنيسة إكليروساً وشعباً.
وقد قامت عدة محاولات تدعو إلى إصلاح حالة الكنيسة الكاثوليكية، ولكن بكل أسف نرى أن بعض هذه المحاولات قد حادت هي الأخرى عن جادة الصواب..
ويمكننا أن نلخّص هنا المحاولات التي قامت في ثلاثة فئات:
1- بعض المصلحين رأوا أن خير وسيلة للإصلاح هي البدء بحياتهم الشخصية حتى يصبحوا مثالاً صالحاً فيرى الناس أعمالهم الصالحة فيمجدوا الله في السماء فعاهدوا أنفسهم أن يحيوا حياة التضحية والتأثير في الآخرين بمثلهم الصالح، ومن هذه الفئة "توما الكمبيسي" الذي وضع كتاب (الإقتداء بالمسيح)..
2- وهناك فريق آخر أراد الإصلاح بأن شهَّر بمساوئ العصر، ولكنه ظل خاضعاً لسلطة البابا ولنظم الكنيسة..
3- أما الفريق الثالث فقد انحرف في تعاليمه فأنكر سلطة البابوية، وأنكر العقائد والتقاليد، واعتبر الكتاب المقدس هو المرجع الوحيد لكل العقائد والتعاليم الكنسية ومنهم "جون ويكلف" في إنجلترا و"جون هوس" في بوهيميا، وقد ظهر هذان الاثنان في القرن الرابع عشر.. وقد نسج على منوالهما "مارتن لوثر" الراهب الألماني في القرن السادس عشر، وهو الذي انشق عن الكنيسة الكاثوليكية وكوّن الكنيسة البروتستانتية..
عندما ساءت أحوال الكنيسة الكاثوليكية أصبح الرهبان طبقة ممقوتة فتحولت مثلهم من ترك العالم بما فيه من أجل عشرة الرب الصافية إلى أن أصبح كل من يئس من الحياة أو أراد الهروب من المسئولية لجأ إلى الأديرة - على أنه لم تُحرم الأديرة من وجود من هو متمسك بالبر والصلاح.. وفي وسط هذا الجو وجد الراهب لوثر وكان قد أحس بثقل الناموس الإلهي على ضميره وضاق ذراعه بالجهاد الروحي فكان ذلك مدعاة أن يقنع نفسه بأن الإنسان لا يتبرر بالجهاد الروحي ولا بترك العالم بل بالإيمان فقط وقد نسى أو تناسى ما قاله بطرس الرسول: "إن كان البار بالجهد يخلُص فالفاجر والخاطئ أين يظهران") 1بط18:4)، أما السبب المباشر الذي دعا مارتن لوثر على ترك الرهبنة وشق عصا الطاعة والخروج عن الكنيسة الكاثوليكية ليؤسس الكنيسة البروتستانتية فكان هو "صكوك الغفران" (فقد اعتقد الكاثوليك أن الإنسان لابد أن ينال جزاء ما فعله من شر في حياته، فإما أن يكون هذا الجزاء في الدنيا أو بعد الموت حيث يُطهَّر الإنسان من شره بعد الموت بعقابه فترة من الزمان -وتُعرف عندهم (بالمطهَر)، وهي بدعة يرفضها الأرثوذكس- ثم بعدها يذهب الإنسان للحياة الأبدية)، ثم أعطى باباوات روما لأنفسهم الحق في منح الناس صكوك غفران لتقصير مدة المطهر مقابل مبالغ من المال)، فأعلن لوثر -الذي كان في هذه الأثناء أستاذاً لعلوم الدين في جامعة ويتنبرج بألمانيا وراعياً لكنيستها- معارضته للبابا وأن البابوية ليست ذات مصدر إلهي.. وقد حرمت الكنيسة الكاثوليكية مارتن لوثر عام 1521م.
وقد عضد الناس لوثر وانضموا إلى صفوفه مدفوعين بعوامل مختلفة منها: كراهيتهم وتذمرهم من الضرائب التي فرضها عليهم البابا، وتوقع الفلاحون أن هذه الحرية المسيحية التي نادى بها لوثر قد تكون وسيلة لإعتاقهم من أغلال العبودية، والتحمس لهدم كل الأشياء في النظم القديمة وخلق عالم جديد يتمشّى مع عصر النهضة الحديثة..
واتخذ مارتن لوثر ثلاثة وسائل لجذب الناس إلى معتقده :أولها نشر كتاب حرّض فيه الأمراء على اختلاس أوقاف الأديرة وتحويل الأديرة إلى مدارس ومستشفيات عقلية، وبهذا جذب الأمراء إلى جانبه.. وثانيها التصريح لحاكم "هيش" بالزواج من إحدى النساء التي هام بها رغم أن زوجته حية، فصارت له زوجتان معاً وبهذا كسب وده فصرح له بإقامة شعائره الجديدة.. وثالثها أنه لكي يستميل الكهنة والرهبان -الذين ضاقوا ذرعاً بالرهبنة- جعل نفسه نموذجاً لهم فأفسد بكورية راهبة تدعى "كاثرين" ثم تزوجها وهو الراهب!! فأهان الإسكيم الملائكي وتزوج، كما أساء إلى أبوة الكهنوت حيث كان كاهنا،ً ثم عاش مع زوجته في البناء الذي كان قبلاً ديراً له!! حتى مرض بالفالج وتوفى عام 1546م.
رابعاً: انشقاق المذاهب البروتستانتية الأخرى
كان نتيجة لروح الانشقاق هذه التي سادت الكنائس أن تفشّت الفوضى وأصبح كل فرد لا يعجبه نظام الكنيسة التابع لها ينشق عنها مكوناً كنيسة جديدة باسمه، وهكذا قد جنحت الكنائس البروتستانتية إلى التعدد شيعاً وطوائف تحصى بالمئات.. وسنقتصر هنا على سرد تاريخ انشقاق بعضها..
الكنيسة الكالفينية: نسبة إلى مؤسسها "جون كالفن" (1509-1564م) الذي كان كاثوليكياً ثم اتصل بالبروتستانت وأصبح زعيم البروتستانتية في باريس ثم أصبح راعياً للكنيسة البروتستانتية في جنيف بعد أن أدخل عدة تعديلات عليها.
الكنيسة الأنجليكانية أو (الأسقفية): وقد كانت تابعة للكنيسة الكاثوليكية ثم انفصلت عنها عام 1534م، وقد مهد لهذا الانفصال "جون ويكلف" أما السبب المباشر فهو توبيخ بابا روما للملك هنري الثامن ملك إنجلترا فأعلن انفصال كنيسة إنجلترا رسمياً.. هذه الكنيسة رفضت سلطة البابا عليها- على أن تحتفظ بطابعها الكاثوليكي والطقوس والتقاليد القديمة بعد تنقيتها .. وتؤمن هذه الكنيسة بثلاثة أسرار بدلاً من سبعة هي المعمودية والإفخارستيا والكهنوت.. وهذه الكنيسة نشأت أولاً في إنجلترا ثم حملوها معهم إلى المستعمرات التي أنشئوها في أمريكا وكندا وأستراليا.
الطهوريون: وهم جماعة من متطرفي البروتستانت راعوا الصرامة والتزمّت في حياة الطهر، وهم متصوفون مدققين في الدين.
الانفصاليون أو الاستقلاليون: وهم جماعة رأت أن تتألف الكنائس من جماعات مسيحية تختار رعاتها وتكون حرة في أداء شعائر العبادة بدون تدخل من الدولة أو أي سلطة كنسية مركزية.
المعمدانيون: وهم طائفة من الاستقلاليين رأوا أن يعمد الناس كباراً بعد أن يبلغوا سن الرشد، وقد أسسها "يوحنا بنيان".
الأرمينوسيون: وقد أسسها شخص يدعى "يعقوب أرمينيوس" راعي كنيسة هولندا عام 1600م.
الأسفانكفيلديون: وقد أسسها شخص يدعى "غاباروس أسفانكفيلديوس" عام 1651م بأمريكا.
الراسكولنك أو (المنشقّين): وقد أسسها بعض الروسيين المتعصبين عام 1666م.
الكويكرس (المرتعدين): التي أسسها "جوارجيوس فكس" عام 1690م.
المثوديست أو (الطريق والنظام): وقد أسسها شخص يدعى "جون وسلي" عام 1726م.
المانونيت (معيدي المعمودية): وقد أسسها "مينون" الكاهن اللاتيني.
الأدفنتست أو) السبتيين): التي أسسها "ويليام ميلر" عام 1831م بأمريكا.
الظالدربيون أو (إخوة بلايموس): وقد أسسها الواعظ الأنجليكاني "دربي" عام 1840م في مدينة إخوة بلايموس الإنجليزية.
شهود يهوه: التي أسسها "تشارلس رصل" عام 1871م بأمريكا، وهي متأثرة بتعاليم الأدفنتست و تعاليم آريوس القديمة حتى أن البروتستانت يلقبونها بـ "الآريوسية الجديدة"، وتحمل فكراً يهودياً صهيونياً.
وهناك طوائف أخرى عديدة يعسر علينا سردها واحدة فواحدة منها الإصلاح، وكنيسة الله، وخلاص النفوس،. . . الخ

الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية
رأينا فيما سبق كيف تطورت الطوائف في الغرب بانشقاق الكنيسة الكاثوليكية عن الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية، ثم الانشقاق البروتستانتي عن الكاثوليكي وما تبعه من انشقاقات أخرى.. والآن نلقي لمحة على تاريخ بعض كنائس الشرق..
الكنيسة القبطية (صخرة الإيمان الأرثوذكسي):
في مصر.. فنحن الأقباط سلالة الفراعنة، وقد بشّرنا الرسول مرقس الإنجيلي وظلت كنيستنا متمسكة بنفس التقاليد والعقائد والطقوس التي تسلمتها على ممر الأجيال، وكان لكنيستنا موقفها المشهود ضد الهرطقات والبدع التي ظهرت في العصور الأولى، فقادت المجامع المسكونية الأولى، وبفضل بطاركتها العلماء أمثال أثناسيوس وكيرلس وديسقوروس عُقد للعقيدة الأرثوذكسية الثبات رغم الهزّات العنيفة التي سببتها هذه الهرطقات.. وبدأ انشقاق الكنائس الأخرى تلو بعضها بعد انفصالها عن معتقد الكنيسة القبطية الأرثوذكسية..
وحقاً قال الوحي الإلهي " في ذلك اليوم يكون مذبح للرب في وسط أرض مصر وعمود للرب عند تخمها.. مبارك شعبي مصر" (أش 19: 19، 25).
الكنيسة الحبشية:
في الحبشة (أثيوبيا).. وقد بشر فيلبس المبشِّر الخصي الحبشي وزير كنداكهملكة الحبشة وعمده حوالي عام 37م (أع26:8-40).. ويقال أن أول من بشر في بلاد الحبشة هو متى الرسول.. على أن انتشار المسيحية فيها يرجع الفضل فيه إلى "فرومنتوس" أول أسقف على الحبشة في القرن الرابع، وقد قام برسامته البابا السكندري أثناسيوس الرسولي.. وقد جرت العادة على أن يرسَل إلى الحبشة أساقفة مصريين حتى عهد قريب، ثم رُسم مطارنة وأساقفة من الأحباش، وفي عهد المتنيح البابا كيرلس السادس (116) رسم للأحباش بطريرك (جاثليق) طبقاً للإتفاقية المبرمة بين الكنيستين ثم استقلت بعد ذلك.

الكنيسة السريانية:
وهم القاطنين بين النهرين وشمال العراق وسوريا.. وقد آمنوا في القرن الأول الميلادي.. وكانوا خاضعين للكرسي الأنطاكي، ومنذ مجمع خلقيدونية انفصلوا عنه تابعين معتَقد الكنيسة القبطية في الطبيعة الواحدة .. وقد عُرف السريان كطائفة مستقلة منذ القرن السابع الميلادي.. وفي القرن الثاني عشر انقسمت كنيسة السريان إلى ثلاث شيع فضعف شأنها حتى أن بعضهم انضم إلى كنيسة روما.. ولذلك تجد بينهم اليوم كنيسة للسريان الكاثوليك.

الكنيسة الأرمنية:
هم سكان أرمينيا بالأناضول (الأناضول هو شبه جزيرة جبلية في غرب آسيا يشمل الجزء الآسيوي الأكبر من تركيا، ما يُعرف بآسيا الصغرى).. وقد بشّرهم تدّاوس وبرثولماوس الرسولين.. وقد اعتنق ملكهم المسيحية في القرن الرابع، وكانت تابعة لكرسي القسطنطينية (الكنيسة اليونانية)، وفي القرن السابع انفصلت عنها.

الكنيسة المارونية (نسبة للقديس مارون):
في لبنان، وقد كانوا فئة من فئات السريان الثلاثة السابق ذكرهم وقد كانوا تابعين للكرسي الأنطاكي في القرن الأول ثم انفصلوا عنه أيضاً بسبب مشكلة الطبيعة والطبيعتين.
ولكن أخيراً انضموا إلى الكاثوليك فأصبحوا طائفة كاثوليكية.

تاريخ دخول الكاثوليك والبروتستانت إلى مصر(الإرساليات)
لعله من أهم واجبات الكنيسة التبشير.. ولذلك إذا قرأنا كتب التاريخ نجد أن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية قامت بعدة إرساليات لتبشير الوثنيين في أوروبا وبريطانيا وأسسوا هناك كنائس وأُخذت عنهم أنظمة الرهبنة،، وبينما كان غرض الأقباط من بعثاتهم الدينية تبشير الوثنيين لم يكن للمرسَلين الأجانب الذين أتوا إلى مصر من غرض سوى تحويل الأقباط الأرثوذكس إلى مذهبهم.

الكاثوليك في مصر:
منذ القرن السابع عشر الميلادي يحاول بابا روما إرسال رهبان كاثوليك إلى مصر لنشر هذا المذهب.. وعندما جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر زاد عدد المتمذهبين بالكاثوليكية زيادة طفيفة.
وفي عهد محمد علي باشا كان للفرنسيين نفوذ عظيم في مصر، وعن طريقه أُرغم المعلم غالي (وكان صاحب المقام الأعلى) على الكـثـلكة بشرط أن لا يُكرَه على تغيير طقوس الكنيسة القبطية وعوائدها الشرقية - على أن يكون مثلاً يقتدي به بقية الأقباط بشرط ألا يُكرَهوا على تغيير طقوسهم وعقائدهم الشرقية.. ومن ذلك الحين وُجدت طائفة الأقباط الكاثوليك التابعين لبابا روما، وأُقيم أول بطريرك لهم عام 1899م.

البروتستانتية في مصر:
بدأ دخول البروتستانت مصر في منتصف القرن التاسع عشر عندما جاء أحد البروتستانت ويُدعى "لانش" الأمريكي وأقام بالإسكندرية.. ثم لحقه مرسل من اسكتلندا يُدعى "يوحنا هوج"، وبعد فترة من الزمان جاء إلى القاهرة عام 1862م، ثم استقر يوحنا هوج في أسيوط منذ عام 1865م وبدأ عمله التبشيري.

وأخيراً بعد دراسة تاريخ الانشقاق المؤلم نطلب إلى الله مع القديس إغريغوريوس الثيئولوغوس (الناطق بالإلهيات): "نعم أيها المسيح إلهنا ثبِّت أساس الكنيسة.. وحدانية القلب فلتتأصل فينا .. لتنقضي إفتراقات البيعة . . حل تعاظم أهل البدع.. ونحن كلنا احسبنا في وحدانية التقوى" (من صلوات القداس الغريغوري).
الله قادر أن يوحِّد الكنيسة فتكون بحق "كنيسة واحدة مقدسة مستقيمة جامعة رسولية".
له كل مجد وعظمة وسلطان من الآن وإلى الأبد أمين
_____________________________
المراجع:
انقسامات الكنيسة – القمص زكريا بطرس
تاريخ الكنيسة القبطية - القس منسى يوحنا
تاريخ الكنيسة القبطية – إصدار كنيسة رئيس الملائكة ميخائيل ومارمينا بستاتين أيلاند بنيويورك

جميع الحقوق محفوظة لـ دراسات مصرية، موقع تابع للأقباط متحدون

© 2006 Copts United  http://www.copts-united.com/, all rights reserved .
Best view : IE6 ,IE7  Screen resolution 800 by 600 pixels