منى أبوسنة
قرأت مقال نيوتن بعنوان «كلام علمانى» المنشور بتاريخ 16 إبريل 2019. وقد سعدت كثيرًا بالإقبال المتزايد مؤخرا على الحديث عن العلمانية من منطق التأييد والترويج لها من عدد من المثقفين. ومن دواعى سرورى بمقال «كلام علمانى» هو اجتهاد كاتب المقال فى تبسيط تعريف د. مراد وهبة للعلمانية بوصفها «التفكير فى النسبى بما هو نسبى وليس بما هو مطلق»، عندما أوجزه فى عبارة أن العلمانية هى التفكير فى الواقع والقدرة على التعامل مع الواقع فى إطار عناصر الوجود الموضوعى دون تراتيل أو تعاويز، ثم استطرد فى طرح عدة أمثلة للتفكير العلمانى فى قضايا سياسية مثل العلاقة بين أمريكا وإسرائيل وانعكاسها على ما يحدث فى الشرق الأوسط، واستكمالا لـ«كلام علمانى» أطرح هنا مثالًا لممارسة الجماهير للتفكير العلمانى فى قضايا الحياة الاجتماعية اليومية والتى تنعكس انعكاسًا مباشرًا على أحوالهم المعيشية وترتبط ارتباطًا مباشرًا بالأوضاع الاقتصادية والسياسية فى مرحلة التحول الديمقراطى الذى تمر به مصر، وأنتقى من هذه الإشكاليات إشكالية بطالة الشباب فى علاقتها بالتفكير العلمانى، تأتى البطالة فى مقدمة الإشكاليات المتعلقة بالعلمانية كمنهج تفكير وأسلوب حياة من أجل مجاوزتها والخروج منها. كيف؟!.

البطالة ظاهرة عالمية، كانت مقصورة على النظام الرأسمالى وبعد زوال النظم الاشتراكية ومع بزوغ ظاهرة الكوكبية انتشرت البطالة وعمت جميع الأنظمة، على الرغم من تنوعها.

والسؤال الآن: هل تتساوى ظاهرة البطالة فى المجتمعات المتقدمة علميًا وصناعيًا والمنتجة للتكنولوجيا الحديثة مع البطالة فى المجتمعات المنتجة لتلك المنتجات؟ الجواب بالنفى. والسبب فى تقديرى، هو أن الشرط اللازم لمواجهة البطالة موجود فى المجتمعات المنتجة للعلم والتكنولوجيا، بينما هو غائب فى المجتمعات المستهلكة لها، وأعنى بذلك القدرة على ممارسة الإبداع العقلى الذى يفرزه التفكير الناقد المجاوز للواقع، وهذا الغياب مردود إلى غلبة التراث الثقافى المحكوم بالمحرمات الثقافية والاجتماعية القاتلة للإبداع والتى تجرم التفكير الناقد.

فإذا تناولنا ظاهرة بطالة الشباب فى بلدنا لكى ندلل على صحة هذه النتيجة التى نتخذها هنا كمقدمة لطرح إشكالية البطالة، فنحن نبدأ بتعريف البطالة بأنها التناقض بين إمكانيات الفرد المحدودة ومتطلبات سوق العمل اللامحدودة، وإذا زدنا هذا التناقض إيضاحا، قلنا إنه يكمن فى المفارقة بين الذهنية التقليدية الرافضة للتغيير التى اكتسبها الشباب المصرى عبر التنشئة فى الأسرة، ودعمها نظام التعليم القائم على التلقين ونظام السوق الكوكبى الذى يشترط مرونة التفكير والقدرة على النقد والإبداع من أجل طرح الحلول الجديدة للإشكالية القائمة. أما الوسائط اللازمة لممارسة تلك الشروط، والتى لا يمتلكها الشباب عندنا فهى اللغة الإنجليزية والإمكانيات اللامحدودة للإنترنت، والتى تشترط الإبداع من أجل توظيف تلك الإمكانيات لتغيير الواقع.

والسؤال: هل الشباب الذى يعانى من البطالة على وعى بهذه الإشكالية؟ وإذا كان البعض منه على وعى، فهل يدرك أن الحل فى يده هو وليس فى يد أى قوى أخرى، سواء كانت الحكومة أو قوى غيبية؟.

أغلب الظن أن الجواب بالنفى. ولكن ما الذى يمنع الشباب من إدراك أن حل مشكلة البطالة فى يده وليس فى يد أحد غيره؟

فى تقديرى أن السبب يكمن فى الأوهام المهيمنة على عقل الشباب، والتى تحول بينه وبين تغيير واقعه، أى واقع البطالة، ونوجز هذه الأوهام فى أربعة: الوهم الأول: الاعتقاد فى ضرورة توفير العمل الملائم من قبل الدولة للشباب الحاصل على مؤهل جماعى أو متوسط، وذلك بتعيينه فور تخرجه فى وظيفة مكتبية يتقاضى عنها أجرًا شهريًا قابلا للزيادة مع الترقى الوظيفى، الوهم الثانى: الاعتقاد بأن حامل الشهادة الجامعية ينبغى ألا يتنازل عن هيبته بأن يلجأ إلى عمل يدوى هو فى نظره دون مستواه، الوهم الثالث: أن الشهادة الجامعية والوظيفة المكتبية تؤهلانه للزواج وتكوين الأسرة وتضمن له الاستقرار المادى، الوهم الرابع: الاعتقاد بأن الشهادة الجامعية تؤهله لسوق العمل، وبناء عليه فإن العمل هو الذى ينبغى أن يسعى إليه وليس هو الذى يسعى إلى العمل، والسؤال الآن: كيف يتحرر الشباب من هذه الأوهام، وهل العلمانية كمنهج تفكير قادرة على معونته فى التحرر؟.

إن تحرر الإنسان من الأوهام يشترط أولا الكشف عن جذور تلك الأوهام، وهى تكمن فى نسق القيم الذى يفرزه التراث الثقافى الذى يموج بالمحرمات. ومن شأن هذا النسق الارتقاء بالمعتقدات الاجتماعية إلى مستوى المطلق، بحيث يتجمد تفكير الفرد عند لحظة معينة، بما يجعله غير واعٍ بما يدور حوله من تغير، وهذا النوع من التفكير على الضد من العلمانية لأنه يتناول المسائل النسبية المتغيرة، باعتبارها مطلقة وثابتة، فهو إذن التفكير فى النسبى بما هو مطلق وليس بما هو نسبى، ومن شأن التفكير العلمانى أن يرد ما هو نسبى إلى أصوله الاجتماعية والثقافية، وينزع عنه النظرة المطلقة التى تعوق تفكير الشباب وتقلص قدراته على مواجهة واقع البطالة وتغييره.

فإذا تناولنا الوهم الأول، أى الاعتقاد بأن الدولة مسؤولة مسؤولية مطلقة عن توفير فرص العمل فالتحرر منه يكمن فى الوعى بأنه فى إطار ظاهرة الكوكبية فإن دور الدولة يتقلص ويزداد تقلصًا، مفسحًا المجال للمبادرات الفكرية التى تشترط الإبداع بما ينطوى عليه من فكر غير تقليدى من جهة وامتلاك مهارات مهنية يشترطها سوق العمل من جهة أخرى، وحيث إن التعليم فى بلادنا لا يوفر للشباب أيا من هذه المواصفات فإن النتيجة المنطقية أن يلفظ سوق العمل هؤلاء الشباب، ولكى يتجاوز الشباب هذا العائق ينبغى عليه أن يعيد تثقيف نفسه بحيث يتقن المهارات المطلوبة فى سوق العمل.

أما الوهم الثانى: أى الاعتقاد بأن العمل اليدوى متدن ويحط من شأن الشباب اجتماعيا، فهو وهم قاتل للطموح الذى يستلزم من أجل تحقيقه اقتحام مجالات متعددة ومتنوعة من العمل، دون التميز بين ما هو عقلى وما هو يدوى ودون إقحام أى قيمة اجتماعية أو طبقية فى نوع العمل، بل يكون المعيار هو مدى قدرة نوع العمل على تحقيق الطموح، فعلى الشباب إذن تحديد طموحه أولا ثم السعى إلى تحقيقه، وهذا يشترط القدرة على تكوين رؤية مستقبلية.

الوهم الثالث أو الاعتقاد بأن الوظيفة أو الميرى تضمن الأمان الاجتماعى والاقتصادى، فهو قائم على تصور أن الوظيفة، أيا كان نوعها، تتسم بالثبات وعدم التغيير، وهذا التصور سمة أساسية من سمات الذهنية الإطلاقية والتفكير اللاعلمانى الذى يحول كل ما هو نسبى ومتغير بطبيعته إلى ثابت ومطلق، مغفلًا الواقع الذى يشير إلى أن سوق العمل تشترط المرونة بمعنى القدرة على التنقل من عمل إلى آخر والتحول من مهنة إلى أخرى بما يتمشى مع متطلبات التغيير الدائم فى سوق العمل.

أما الوهم الرابع، أى الاعتقاد فى القيمة المطلقة للشهادة الجامعية بمعنى أنها تجعل الشباب يمتلك المعرفة الفائقة التى تجعل سوق العمل تسعى إليه، فهذا الوهم من إفراز العقلية الإطلاقية، أما فى إطار العقلية العلمانية فتصبح الشهادة الجامعية، إذا كانت لا تمنحه القدرات والمهارات والمعرفة المطلوبة فى سوق العمل، بلا قيمة، وعلى الشباب إعادة تأهيل نفسه بنفسه مما يتطلب جهدًا كبيرًا ومثابرة، وقبل كل هذا يتطلب إصرارًا قويًا وإيمانًا راسخًا بقدراته على تحقيق طموحه، مسترشدا فى ذلك بالرؤية المستقبلية التى كونها لنفسه بنفسه.

ويبقى السؤال المهم: من الذى يقود حركة تحرير عقل الشباب من أوهام البطالة؟ أتوجه بهذا السؤال إلى قيادات الأحزاب الصاعدة، وأخص بالذكر حزب مستقبل وطن وحزب تحيا مصر.. وأرجو أن أتلقى جوابًا.
نقلا عن المصرى اليوم