فاطمة ناعوت
«رحت اشترى فانوس رمضان، لقيت نوع بـ ٧٥ جنيه، ونوع بـ ١٥ جنيه. قررت أجيب أبو ١٥. جيت أدفع؛ الست البائعة شافت الصليب فى ايدى. راحت قالت لى: محدش يقدر يفرق بينا أبدًا، والمصحف مانا واخدة تمنه! كل سنة وأنت طيب. أخدت الفانوس ومشيت وأنا زعلان إنى مأخدتش أبو ٧٥ جنيه!»..

هذا البوست كتبه متصفِّحٌ اسمه «مايكل سامى» على صفحته، ناعتًا نفسه بـ«أول مسيحى يشترى فانوس رمضان». وفى الكلمات القليلة تلك، وصفٌ تفصيلىّ لحال وطن فريد وعجيب ولا شبيه له اسمه مصر: (المحبة عند الأقباط - تقدير المسلمين لتلك المحبة - خفة دم المصريين).

رغم أن أقباطَ مصر، قد أثبتوا عبر المواقف الصعبة والمِحن، على مدى القرون والعقود والسنوات، كمْ هم وطنيون ومتحضّرون، طيبون وغافرون، إلا أن شهر رمضان الكريم بالتحديد، هو الحقلُ الأخصبُ الذى تتجلّى فيه سماتُ أقباط مصر الفريدة، ونقاء معدنهم.

حين كنّا أطفالا، لا ندرى عن الأديان شيئًا، فى مثل الأيام التى تسبقُ رمضان، كانت ثمّة أمهاتٌ طيبات يقُلن لأطفالهن: «انزلوا علقوا زينة رمضان فى الشارع مع أصحابكم وجيرانكم». نحن الأطفال، لم نكن ندرى أن نصف عددنا من صُنّاع الفانوس الكبير الذى نعلّقه بالحبال فى منتصف الشارع، كانوا جيراننا المسيحيين. لكنّ الأمهاتِ يعرفن؛ لهذا هُنّ طيبات. نجمع قروشَنا النحيلة من «الحصّالات»، ونشترى أفرخَ الأوراق الملوّنة وقنانى الصمغَ والفرشات وبكرات الخيوط وعصوات الخشب والمقصات وعُلب الألوان الفلوماستر، ثم نبدأ فى إعداد غرفة العمليات، وتوزيع المهام على خلايا العمل.

كنّا مؤمنين أن ما نقوم به فى تلك الغرف المغلقة هو مهمة وطنية وقومية «خطيرة». فشهر رمضان المعظّم، (لن يزورَ شارعَنا) إن لم تعجبه الزيناتُ المعلقة فيه. ولن يدخل من نوافذنا حاملا بهجاته إن لم يَرُق له فانوس شارعنا الكبير. إن أخفقت عملياتنا فسوف يحيد عن عيوننا ويدخل الشوارع الأخرى ويزور الأطفال الآخرين. لهذا كانت الشوارع تتبارى والأطفال يتنافسون لكى تكون زينتُهم الأجملَ وفانوسُهم الأكبرَ.

فى الليل، يتجول شهرُ رمضان مُتنكّرًا بين الشوارع يتفقّد الزينات، ثم يدخل الشارعَ الأجملَ والأصدح باللون والنور لكى يملأه بالفرح. هكذا كًنّا نفكر. فكّنا وأشقاؤنا المسيحيون نتعاون على صناعة الجمال واستقبال الشهر الطيب الذى يعرفُ كيف يُجمّعنا على الحب.

وكبرنا والعهدُ هو العهدُ. أجملُ الفوانيس أهداها لنا أصدقاء مسيحيون. أشهى فطور رمضانىّ، تناولناه على موائدَ مسيحية من الأصدقاء والجيران وزملاء العمل. أطيب التمرات تذوقناها كانت من أيادى شباب وصبايا مسيحيين يقفون على نواصى الطرقات يوزعّون علينا من طيبات قلوبهم ما نكسرُ به صيامنا إذا فاجأنا المغربُ فى الطريق. والتمر، حكايةٌٌ كبيرة، وسِرٌّ خطير، ورمزٌ هائل. هل تدرون سرَّ التمرة؟.. التمرةُ ابنةُ النخلة. والنخلُ نباتٌ رصين «تقيل». لا يجود بخيره وشهده بسهولة. بل يتمهّل ويتروّى. ذلك الفصيلُ الرشيقُ الأنيق من الشجر، إن بذرتَ بذرتَه اليومَ، فلن تحصُدَ ثمارَه «التمرَ» إلا بعد سنوات طوال، قد تزيد على العشرين. النخلُ هو «المعلم الأول» لبنى الإنسان فى درس: (الصبر). ذاك هو الدرسُ الأول. قد يزرعُ النخلةَ زارعٌ، ويموت عنها قبل أن يرى ثمرَها أو يتذوَّقَ شهدَها أو يستنشقَ رحيقَها. هو يدرك ذلك جيدًا، وراض بذلك جدًّا. يتعب فى زراعتها: حرثًا وغرسًا ورِيًّا ورعاية وانتظارًا وصبرًا وتشذيبًا وتنقيةً، وتسلّقًا وقطفًا، من أجل أن يتذوّقَ شهدَها غيرُه. وهذا هو الدرس الثانى من المعلّمة الرصين «النخلة»: (الإيثار). وفى المأثور القديم قرأنا عن الفلاح العجوز الذى شارفَ أبوابَ الفناء والموت، حين شاهده المارّةُ والسابلة وهو ينحنى على ركبتيه لكى يغرس فى الطمى فسيلةَ نخيل. توقّفوا واندهشوا وتعجّبوا ثم سألوه: (أيها الهالكُ العجوز الذى تزحف نحو القبر، هل تأمل أن تشهدَ ثمرةَ بذرتك هذه؟) فأجابهم العجوزُ مبتسمًا: (زرع غيرُنا فأكلنا. ونزرعُ لكى يأكلَ غيرُنا). لهذا فالتمرةُ هى: «الرهانُ على الآخر». هى إنكارُ الذات ومحبة الغير، وقتل الأثرة انتصارًا للإيثار. وهى «الصبر» على المكاره. كما نصبرُ ويصبرُ أشقاؤنا المسيحيون على ما نلاقى جميعًا من يد الإرهاب السوداء، والتطرف المريض. وهم لا يصبرون وحسب، بل يغفرون. ثم يُباركون الخُطاةَ الآثمين، ويدعون لهم بالمغفرة والصلاح!.

يصومون معنا رمضاننا، فلا يجاهرون بالإفطار أمام مسلم. ويحتفلون معنا بأعيادنا: «فرحًا مع الفرحين». لأنهم يؤمنون أن المحبة لا تسقط أبدًا، ولا تخيب ولا تخسر. لهذا فشهر رمضان هو شهرُ الأقباط، بامتياز. والأقباطُ هم المصريون كافّة. الأقباط الذين اِشتُقَّ من عِرقنا الأصيل اسمُ مصرَ الشريف Egypt. هاكابتاح (منزل روح الإله بِتاح)- قَبَط- كَبَط- إيخبتوس- إيجبتوس، إيجبت. وكل عام ونحن أطيب. و«الدينُ لله والوطنُ لمَن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم