رجائى عطية
من الحكم السيارة أن ما لا يقتلك يقويك، ودلنى إبحارى فى عوالم وحيوات الأفذاذ ، أن عددًا غير قليل منهم قد قهروا الصعاب، ودلت حيواتهم على أن من الصعاب تُولد القوة. صادفنى من قاوم الفقر والفاقة وشق طريقه إلى القمة، ومن تجاوز اليتم والحرمان صغيرًا من الأم والأب، ومن غلب الشلل وقاد دولته العظمى إلى النصر فى الحرب العالمية الثانية، وتكرر انتخابه للرئاسة أكثر من المرات التى يسمح بها دستور بلاده ، ومن غلب العماء وتبوأ رغمه عمادة الأدب العربى، ومن غلبت العماء والصمم والبكم وشقت طريقها فيما يشبه المعجرة، ولفتنى الموسيقيان الفذان الأصمان اللذان غالبا الصمم كلٍ بطريقته ـ ليستمر فى عطائه للموسيقي: بيتهوفن الذى زحف عليه الصمم وأطبق عليه يومًا بعد يوم حتى بلغ قمة مجده وكامل صممه سنة 1814، ووضع درته السيمفونية التاسعة، أخلد الأعمال الموسيقية على الإطلاق. والموسيقار سميتانا الذى غالب بإيمانه وعزيمته زحف الصمم المتزايد، وشرح فى رسائله ومذكراته كيف استطاع رغم الصمم أن يصوغ ألحانه دون أن ينهزم.

أمثلة الأفذاذ الذين استولدوا من الصعاب قوة ـ ودعنا من الأنبياء فهم أصحاب آيات ربانية ـ كثيرة لكل منهم قصة جديرة بأن تُفصل وتُبسط ، لنرى كيف أن الإرادة القوية قاهرة، يمكن أن تقهر وأن تجاوز كل ما يصادفها من محن ومن صعاب ومن كوارث. على أن من القصص التى تستلفت بشدة، قصة العالم الرياضى والاقتصادى الفذ جون ناش الحاصل على جائزة نوبل فى ديسمبر سنة 1994. الإعجاز ليس فى حصوله على نوبل، وليس فى تميزه الهائل، وليس فقط فى قدرته بإرادته ـ وموقف زوجته الصلد ـ على قهر الصعاب. وإنما لأن ما اعترضه داء يصيب العقل، ويتعارض من ثم مع القدرة على الإبداع العقلى فى الرياضيات وفى الاقتصاد، فقد ظل هذا العبقرى الفذ يعانى طوال حياته «الشيزوفرينيا» ، ومرت عليه مراحل تمكن منه الفصام حتى احتجز جبرًا فى أحد المستشفيات العقلية، وتلقى علاجًا امتد إلى الصدمات الكهربائية على المخ، وخرج من المستشفى دون أن يبل تمامًا من هذا الداء العقلى الوبيل، فعاوده واشتد عليه، حتى طلب المستشفى إقرارًا من الزوجة بإدخاله إليها جبرًا.

هذا العالم الفذ، رغم ما به ، آمن بإرادته بأنه قادر على قهر الفصام ، وعلى استئناف بحوثه فى جامعة «برنستون» التى تخرج فيها ودَرَّسَ بها، واحترمت زوجته رغبته حين طلب إليها أن تعطيه فرصة، ووقفت إلى جانبه تحارب معه ومن أجله.

صعوبة الفصام أنه يصيب العقل ذاته، وهو مناط التفكير، بينما العوارض الأخرى كالعماء والصمم أو العاهة البدنية أو الفقر والحاجة ـ لا تمس إلاًّ أدوات أو قنوات التوصيل للعقل، أو وسائل وإمكانية المتابعة والتحصيل .

فالبصر وسيلة للقراءة والتوصيل للعقل، والسمع يؤدى ذات الوظيفة بتوصيل المسموع، واليتم والفقر والحاجة عوائق فى سبيل التعليم لتغذية العقل؛ وليس هكذا داء الفصام، فهو يصيب العقل ذاته ويشوش على تفكيره ويدفع به إلى الاضطراب.

وقد وصف البعض الفصام الذى عاناه جون ناش، بأنه من النوع البارانوى، ويقول علماء النفس، إنه مع التسليم بوجود أنواع من الفصام، وهو مرض ذهانى، إلاَّ أن الأنواع المختلفة من الفصام لا تنفصل بعضها عن البعض الآخر بشكل حاد، ويمكن أن ينتقل المرض من أحد الأنواع إلى نوع آخر أثناء مسار المرض، وبدا لى مما كُتب عن هذا العالم الفذ جون ناش، أنه كان يعانى هلاوس بصرية وهلاوس سمعية، والهلاوس البصرية بالذات نادرًا ما تحدث إلاَّ فى الحالات الحادة ، ومجمل عوارض الفصام الذى عاناه جون ناش، تَفْصِل المريض بنسب متفاوتة عن الواقع، وقد يحدث ذلك على نوبات، وذلك يُحدث إجمالاً تشويشًا واضطرابًا فى التفكير، ويؤدى بشكل عام إلى اضطراب أساسى فى الشخصية وتشوهات فى التفكير والإدراك والوجدان.

على أننى على كثرة اطلاعى على المؤلفات النفسية والذهانية أو العقلية، استجابة لضرورات المحاماة، إلاَّ أننى لست متخصصًا، ولا أدَّعى ذلك، ولكنه لم يعقنِ عن تلمس الإعجاز فى قوة إرادة هذا العالم الفذ، وإعجاز قدرته على مغالبة المرض إلى جانب الصعوبات الجمّة والظروف المعاكسة، وتجاوزه ذلك كله، وعودته إلى العمل، واستمرار بحوثه الناجحة رغم كل هذه المعوقات حتى بلغ قمةً شهد بها منحه جائزة نوبل فى العلوم والاقتصاد فى ديسمبر 1994.

نشرت قصة هذا العالم الفذ سنة 1998، بعد أربع سنوات من حصوله على نوبل فى العلوم والاقتصاد فى ديسمبر 1994، وحقق الكتاب أكثر نسبة مبيع فى العالم.

بقى أن أقول إن قصة هذا العالم الفذ ، قد أنتجت سينمائيًا عن هذا الكتاب سنة 2001، بعنوان Beatiful Mind أخرجه رون هوارد، وبطولة راسل كرو، وجينفير كونولى ومثلاه بأداء رائع، وحصد الفيلم عدة جوائز أوسكار، لأفضل فيلم، وأفضل مخرج ، وأفضل ممثل، وأفضل ممثلة مساعدة ، وأفضل سيناريو وحوار .

ولعل هذا أن يكون درسًا للسينما المصرية التى تركت الأعمال الكبرى، وانزلقت إلى أعمال هابطة لا تتفق مع تاريخها السابق.

لك أن تعرف أن جون فوربس ناش، ولد فى يونيو 1928، فى ولاية فرجينيا الغربية، وتخرج فى جامعة برنستون وتولى التدريس فيها، حيث دهمه انفصام الشخصية، وتوفى وزوجته فى حادث سيارة ببلدة مونرو بولاية نيو جيرسى فى 23 مايو 2015. أحدث جون ناش رغم الفصام، ثورة فى الرياضيات والاقتصاد، ونال نوبل عن إبداعه فى نظرية التوازن، واشتهر بنظرياته ومعادلاته التفاضلية وفى الهندسة الجبرية، واستخدم علمه ونظرياته فى مجال الاقتصاد والمحاسبة والبيولوجيا، وتتابعت الجوائز الرفيعة والدكتوراهات الفخرية، فكانت حياته وعطاؤه شاهدين على قوة الإرادة التى تقهر المستحيل، وعلى أنه من الصعاب تولد القوة. يصدق ذلك على المجتمعات، مثلما يصدق على الأفراد.
نقلا عن الأهرام