لحظة تاريخية؛ بدهشة يتفحّص محمد يحيى، المحرر التنفيذي لمجموعة "نيتشر" للأبحاث في الشرق الأوسط، أول صورة تُلتقط للثقب الأسود قبل نشرها بأربعة أيام "من الحاجات اللي بحبها في شغلنا إن عندنا وصول للمعلومات دي قبل إعلانها". تتملكه المتعة مثلما يحدث مع كل اكتشاف جديد، فيما يجتمع مع فريق المجلة يفيض كل فرد بما يدور في عقله من أفكار، كيف يمكن تغطية حدث كهذا؟

 
قبل ثمانية أيام من ذكرى وفاة عالم الفيزياء الألماني ألبرت آينشتين، تمكّن مجموعة من علماء الفلك إثبات إحدى نظرياته. العاشر من أبريل الماضي كان حدثًا جللًا، شبكة من ثمانية تلسكوبات في جميع أنحاء العالم استطاعت أن تمنحنا أول صورة للثقب الأسود؛ عتمة سحيقة بينما تحيطها هالة ضوء تُشبه اللهب، إذ تبلغ مساحة الثقب 40 مليار كيلومترًا، أي ضعف حجم الأرض بثلاثة ملايين مرة، وشبهه العلماء بـ"الوحش".
 
 
لماذا تُعّد صورة الثقب الأسود حدثًا تاريخيًا؟ أحد باحثي الفريق الذي عمل على إنتاج الصورة، وقف في المؤتمر الصحفي يحكي مدى صعوبة تحقق الأمر؛ كأنك مواطن تعيش في مدينة نيويورك، وتنظر بعينك المجردة دون أي أدوات مساعدة، فتبصر التاريخ المكتوب على ربع دولار يمسكه شخص آخر يقطن مقاطعة كاليفورنيا.
 "عشان يتصور كنا محتاجين تلسكوب على حجم الأرض"، يصف يحيى كيف بدت الفكرة مستحيلة، لكن باحثة عشرينية قبل ثلاث سنوات جعلت الأمر ممكنًا. حين طوّرت عالمة الكمبيوتر كايتي باومان برنامجًا على الحاسوب ربط ثمانية تلسكوبات يُطلق عليه "أفق الحدث"، فكانت أول صورة للثقب الأسود.
 
 
قبل الأربعاء الماضي، كان الثقب الأسود الذي يبعد عن كوكب الأرض 500 تريليون كيلومترًا، مجرد نظرية؛ مكان في الفضاء له كتلة كبيرة في مساحة صغيرة، وتكمن بداخله جاذبية شديدة حتى أن الضوء لا يستطيع الإفلات منه، فيلتهمه "وده تاني سبب خلى تصويره صعب".
 
أكثر من عشر سنوات قضاها يحيى في الصحافة العلمية؛ عايش لحظات فارقة، اكتشافات قوية أراحت نفس العلماء، يتذكر حين تم رصد جزئ "بوزون هيجز" بعد 30 عامًا من تنبؤ العالم بيتر هيجز بوجودها، إذ يُعد "بوزون هيجز" الجسيم الذي يتيح للذرات أن تتشكل "وده مبني عليه نظريات كتير في الفيزياء، فلو كان طلع مش موجود النظريات دي كانت هتتغير"، فيما يستدرك المحرر التنفيذي بمجموعة نيتشر "بس ده مثلًا كشف رغم أهميته لكن مخدش صدى واسع عندنا زي الثقب الأسود".
 
مر على يحيي أحداث أخرى أحدثت ثورة في عالم الطب، مثل اكتشاف "كريسبر كاس 9"، وهي تقنية يمكن من خلالها تحرير الجينات "وده اكتشاف يُعادل اكتشاف المضادات الحيوية مثلًا"، فيما تعمل هذه التقنية "على إنها تكسر جين من الـDNA، إن مثلًا لو حد عنده جين مش بيفرز الأنسولين، فالتقنية دي بتكسر الجين ده وبتستبدله بجين تاني فعّال يقدر يفرز الأنسولين ومن هنا يكون في علاج للسكر مثلًا، وفي أنواع من الأمراض السرطانية ينفع تتعالج بنفس الطريقة"، كما لا ينسى استطاعة الباحثون اكتشاف لأول مرة بحيرة ماء سائل جوفية في كوكب المريخ بعد عقود من البحث.
 
"كل شوية بتطلع حاجة بنفرح وبنهتم بيها"، يحكي يحيى عن الفرحة التي غمرته حين تم اكتشاف عقار السوفالدي لمعالجة فيروس سي "الفكرة إن دي كانت أول مرة يبقى عندنا علاج لفيروس، وكنت شايف إن بداية طريق جديد في الطب، وإن ده بيفتح الباب قدامنا عشان نكتشف علاج لفيروسات تانية".
 
لكن لماذا تمر تلك الأحداث دون ضّجة كما حدث مع صورة الثقب الأسود؟ يفسر يحيى بأن وسائل الصحافة تضع حائلًا بينها والقارئ في المسائل العلمية "زي إنها تقرر عنه وتقول إنه مش هيهتم، أو تقدمله المعلومة بشكل جاف وصعب"، فيما يسترسل "وللأسف في الوطن العربي علاقة المواطن بالعلوم ضيقة شوية ومنحصرة في المدرسة بس، رغم إن العلوم من الحاجات الشيقة والمبهرة جدًا، حاجة أقرب للسحر لكن بتدرس بطريقة جافة، فبتنتهي علاقة الطالب بيها لما يخلص مدرسة، أو حتى الطلاب الجامعيين".
 
حين تم نشر صورة الثقب الأسود، ضّجت وسائل التواصل الاجتماعي بالأمر، حتى أنها احتّلت المرتبة الثانية في أكثر عمليات البحث بحسب موقع "مؤشرات جوجل"، يرى يحيى أن ذلك له علاقة بوجود الثقب الأسود كمصطلح في حياتنا "زي إن في مثلًا أفلام تناولته، عكس الاكتشافات اللي اتكلمنا عليها فئة قليلة بتكون مدركة لأهميتها ومتابعتها"، فيما كان للرسوم المضحكة (كوميكس) يدًا في الأمر "أنا بعتبرها حاجة عظيمة، لإنها بتنشر الموضوع وبتقرب ناس من دواير مختلفة للموضوع، وبتوصلهم رغم إنهم مش بالضرورة بيقروا مثلًا مجلات علمية".
 
مثلما ابتهج يحيى باكتشاف علاج للفيروس لأنه يفتح مساحة واسعة لباقي الفيروسات، كذلك سكبت أول صورة للثقب الأسود الفرحة بداخله "مادام جبت الطريقة، هتعرف تطبق ده مع حاجات تانية"، وهذا ما حدث مع الفريق الذي أنتج أول صورة للثقب الأسود "الفريق قدر يصور الثقب الأسود الموجود في مجرة درب التبانة لكنها لم تُنشَر بعد "الثقب الأسود ده قد الشمس حوالي أ600 مرة، وباكتشافات زي دي بيخلينا نعرف حاجات جديدة عن أصل الكون".