الأقباط متحدون - عودة الشيخ التائه
  • ٠٦:٢٤
  • الخميس , ٦ ديسمبر ٢٠١٨
English version

عودة الشيخ التائه

مقالات مختارة | عادل نعمان

٠١: ٠٨ ص +02:00 EET

الخميس ٦ ديسمبر ٢٠١٨

عادل نعمان
عادل نعمان

عادل نعمان
فى قريتنا ونحن صغار كان الشيخ فى المسجد هو الطبيب والمعلم والمهندس والفقيه والفلاح والصانع والمفتى، يسأله الفلاح عن زراعته فيجيب، وتسأله المرأة عما دار بينها وبين زوجها فى الفراش فيفتيها، ويحتكم إليه المتنازعان فيفصل بينهما، ويقتسم عنده المتوارثون فيقسم بينهم، ويزوج ويطلق ويصالح ويخاصم، ويحملون له المريض فيرقيه ولا يشفى، ثم يصلى عليه صلاة الجنازة، ويدفنه ويدعو له، كأن شيخنا مقاول أنفار من الميلاد حتى الممات. مرض شيخنا يوما وسافر بمفرده إلى المدينة لطبيب، غاب الشيخ إلى آخر النهار، وحين عاد سمعنا فى أرجاء القرية أن الشيخ قد ضل الطريق، وركب قطارا غير القطار، وتندر الكبار والصغار، وقالوا: إذا كان شيخنا قد علم كل أمور الدنيا فكيف ضلله القطار؟.

وأقول وأعى أن على المشايخ جميعا العودة بهذا القطار إلى محطته الأولى، ويتركون ما لقيصر لقيصر وما لله لله، ونرفع عنهم قشرة القداسة، ونحط عن كاهلنا أحمالهم وأحمال ما يحملون من تراث، وليس فى الأمر خصومة، بل عودة الحق وعودة الشيخ، وهما عودان أحمدان، والحكاية أن تاريخنا قد وضع هؤلاء موضع الاهتمام والعناية والصدارة، ولم يكن أمام الناس من سبيل سواهم، وكانوا على طول الأيدى ووسع السؤال، لا يرفضون سائلاً ويجيبون بلا أعلم، حين كانت كل الظواهر الطبيعية والإنسانية من مطر ورعد وزلازل وأعاصير وبراكين ومرض وموت وصمم وعمى، لا تجد سبيلا لدى الناس إلا فى حجر هؤلاء، ولم يكن أمام البسطاء من ملجأ سواهم، ولم يجد مشايخنا من سبيل سوى تأويل النصوص، فكان الافتعال والتكلف والقبول، وتحميل النص خواطرهم وانفعالاتهم وأفكارهم، فكلفوه من الأمور ما لم يكن يقصدها،

ومن المقاصد والغايات ما لم يذهب إليها، وتعاملوا معها حسب هواهم وأغراضهم وما يميلون إليه، ويرفعونه إلى ما يحقق لهم المنافع، وما يصبون إليه من مصالح لدى الحكام أو البسطاء من الناس على حد سواء، فاختلط الفلكلور السائد بالأساطير والخرافات، والمقدس بغير المقدس، والحقيقة بالخرافة، والعلم بالجهل، وتساند الجميع يلف بعضهم بعضا، ولم يعد فى مقدور الحق أن يبعد عن الباطل، بل يدور معه فى فلك واحد، وأصبح من الصعوبة فك الاشتباك بين الحقيقة والخيال، وأمسى الدفاع عن الاثنين مهمة مقدسة واحدة، إذا سحبنا منهما طرفاً فك الثانى منها، وخشى هؤلاء على الصواب فحملا الاثنين معا دفاعا عنهما بالحق أو بالباطل، وقد كانت هذه الأساطير وهذه التأويلات تشبع حاجة الناس وتغنيهم عن مشقة البحث وعناء الفحص، وتريح خاطرهم وتهدئ من روعهم، وعاش الناس داخل بيوت من الأساطير، ودنيا أوسع من الخيال، خارج الأحداث والزمان فى حين، وداخل الكهوف والسراديب فى أكثر الأحايين، حتى توقفت حركة الحياة،

وأصبح من الصعوبة أن نخرج من كهوف رجال الدين وسطوتهم وأسوارهم، وإلا لاحقتنا تهم الكفر والزندقة، ومصيرهما القتل والذبح والخزوقة، حتى رضخ الناس، وأصبح الكفر رهين التفكير، والزندقة تحت لباس المنطق، والإيمان مرهون بربط العقل إلى جوار الحمار، إذا دخل على سيده الشيخ، وأصبح العالم يعيش فى بحر متلاطم الأمواج، متدافع ومتلاحق العلم والمعرفة والبحث، ونحن نعيش فى بركة من الوحل راكدة خاملة آسن عفن ماؤها، لقد آن الأوان أن نقفز من فوق هؤلاء جميعا ولا حل سوى انقلاب علمى ومعرفى وبحثى، وعودة المصادر العلمية مرجعية وحيدة لكل ما نريد، ونخضع كل أمورنا للعقل، فما كان مقبولا بالأمس لم يعد مستساغا اليوم، وما كان يرضى أجدادنا أصبح عائقا ومعطلا لأولادنا ولأجيالنا القادمة عن ملاحقة الحضارة والحداثة، ونعفى أنفسنا من سؤال المشايخ فى أمور حياتنا، نقل الأعضاء قرار علمى، إثبات الوفاة حقيقة طبية، تصدير الكلاب قرار اقتصادى، المساواة فى الميراث قرار اجتماعى وهكذا، القطار لابد أن يعود بالشيخ إلى المسجد، فإن لم يكن بيده فبيد عمرو يوما ما.
نقلا عن المصري اليوم

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع