الأقباط متحدون - ثلاثون عامًا على ميلاد الجميلة
  • ٢١:٤٢
  • الاثنين , ١٥ اكتوبر ٢٠١٨
English version

ثلاثون عامًا على ميلاد الجميلة

مقالات مختارة | فاطمة ناعوت

٥٧: ٠٦ ص +02:00 EET

الاثنين ١٥ اكتوبر ٢٠١٨

فاطمة ناعوت
فاطمة ناعوت

مَن يُصدِّق أن تلك العصا النحيلة فى يد ذلك الرجل أخطرُ من سيفٍ وأقوى من سيلٍ من الرصاص.. أولئك البشرُ الواقفون والجالسون والراقصون والصادحون فوق خشبة المسرح الكبير فى دولة الأوبرا المصرية، أولئك الذين من طينة سماوية لا تُشبه طينة الأرضيين، أولئك هم أربابُ الفنون الرفيعة فى مصر الذين كانوا الضمانة الحقيقية لحرية مصر وسموّها، والحائطُ الصدُّ الذى حمى وعى مصر الجمعى من الخضوع للاحتلال الإخوانى البغيض؟!

عصًا بيضاءُ نحيلة فى يد المايسترو أحمد عاطف، قائد أوركسترا القاهرة السيمفونى أقوى أثرًا من رصاصة فى قلبِ جاحدٍ. فالرصاصةُ تقتلُ الجاحدَ وتُصفّيه، بينما الموسيقى التى تطيرُ من طرف العصا، تُذيب قلبَ الجاحد، فيرقُّ ويرهفُ ويتحوّل إلى رؤوف رحيم. نجلسُ فى المسرح الكبير، بدار الأوبرا المصرية الجديدة، أبصارُنا معقودةٌ بطرف تلك العصا التى تحملُ طاقةً سحرية مدهشة، وتخلقُ عوالمَ غنيّةً بالفرح، حاشدةً بالحياة والبشر والتواريخ والذكريات.

مَن يُصدّقُ أننا- الراهنين- نحلم بأن نُنصتَ إلى الموسيقى التصويرية لفيلم قديم نُحبُّه، تعزفه الآن أوركسترا القاهرة السيمفونى عزفًا حيًّا نراه ونسمعه: الأيدى الناعمة، بياعة الجرائد، أخطر رجل فى العالم، إمبراطورية ميم، تايتانيك، من تأليف: على إسماعيل، محمد عبدالوهاب، ديميترى كاباليفسكى، ستيلفو شيبريانى، وغيرها؟!

ومَن يُصدّق أن تصدح حنجرةُ الصوليصت الجميلة، إيمان مصطفى، مع أوتار الكمانات والتشيلو والهارب، بنغمات موسيقى فيلم تايتانيك بطبقات صوتها الأوبرالية الجهورة والحادة، فنتساءل عن تلك الآلة الموسيقية الربانية التى وضعها اللهُ فى تلك الحنجرة الاستثنائية؟!

ومَن يصدق أن جار طفولتى قد أصبح اليوم هو المايسترو مصطفى حلمى، يقود الآن فرقة الموسيقية العربية لتعزف لنا الأغانى الوطنية العظيمة التى مسّت قلوبَنا فى صبانا وطفولتنا.

أعلم أن الكتابةَ عن الموسيقى بالكلمات خطيئةٌ وعبثٌ. فلا شىء يصف الجمالَ إلا أن تراه، وتسمعه، وتنهل من مائه بشغف حتى ترتوى. الكتابة عن الموسيقى تشبه أن تصف لكفيف شكلَ السماء وتلك اللوحات التى ترسمها الغيوم برقائق الجليد، والطيور التى تقطعُ اللوحة بأجنحتها، أو أن تصف بالكلمات الفقيرة عطرَ وردة لحظة تسقط عليها قطرةُ ندى.

ما كان ينبغى أن أكتب عن الموسيقى لأن اللغة قاصرةٌ عاجزةٌ. كل ما هنالك أننى، وددتُ أن أشكر أولئك على الموسيقى التى يغزلونها لنا فى دولة الأوبرا العظيمة، فيجعلوننا نسترد إنسانيتنا التى تتسرّب من بين أصابعنا مع كل دمعة طفل يبكى جوعًا أو خوفًا، ومع كل زفرة أم ثكلى فقدت وليدها فى لحظة شهادة. ليس علينا إلا الصمتُ. لأن الصمتَ فى حرم الجمال جمالُ. نصمتُ ونتركُ النغمَ ينساب من حولنا من كل صوب مثل شلال عذب من النور. وأفكر لو أن الحكومةَ المصرية قد فرضت واجبًا قوميًّا يُلزم المواطنين بالذهاب للأوبرا مرةً فى الأسبوع! هل تختفى الجريمةُ؟! أعتقد هذا. لو جِىء بالمُخرّبين أعداء الحياة، لحضور الأوبرات والباليه والموسيقى العربية والكلاسيكيات الروسية والألمانية، لابد سوف يخرجون على عكس ما دخلوا. سوف ترقُّ قلوبُهم، وتشفَّ أرواحُهم فيتبدّلون. الموسيقى تُربّى الروح. تُهذِّبُها. تُشذِّبُها من النتوءات والبثور، وتُنقِّيها من الشوائب. لذلك قال أفلاطون: علّموا أولادَكم الفنون، ثم أغلقوا السجون.

اليومَ تُتمُّ الجميلةُ عامَها الثلاثين. دار الأوبر المصرية التى يروق لى أن أُسميّها دولة الأوبرا، لأنها دولةٌ مكتملةُ الأركان، بشعبها وقوانينها وزيّها الرسمى وجنودِ جيشها ودستورها الحاكم. فأشكر كل من وضع طوبة فى هذا الحصن التنويرى الهائل، حصن الفرح البهى، لأنه يمنحنى الفرحَ، كلما اخترقت قلبى الهمومُ والكدَر.

اليوم حقٌّ علىّ أن أقول:

شكرًا لسيدة الأوبرا إيناس عبدالدايم، عصفورة الفلوت، وزيرة الثقافة التى جعلت من الأوبرا قِبلةً يحجُّ إليها كلُّ ذى شغف بالجمال.

وشكرًا للدكتور مجدى صابر، مدير الأوبرا، وأستاذ الباليه.

وشكرًا للخديوِ إسماعيل الذى شيّد لنا دار أوبرا القديمة عام ١٨٦٩.

وشكرًا لإمبراطور اليابان الذى أهدانا دار الأوبرا الجديدة، بعد احتراق الأولى عام ١٩٧١.

وشكرًا لكل شخص يعمل فى دولة الأوبرا الجميلة؛ لأنكم تمنحوننا الفرح.

كل سنة وكل خشبات مسارح الأوبرا مُضاءة بالفرح والنور.
نقلا عن المصري اليوم

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع