الأقباط متحدون - ليسانس فلسفة تقدير جيد جدًا قسم حشرات
  • ١٤:٠٣
  • الاثنين , ٢٧ اغسطس ٢٠١٨
English version

ليسانس فلسفة تقدير جيد جدًا قسم حشرات

مقالات مختارة | بقلم : د. مني حلمي

٠١: ١٢ م +02:00 EET

الاثنين ٢٧ اغسطس ٢٠١٨

 د. مني حلمي
د. مني حلمي

تستهوينى كثيرًا، من حين، لآخر، قراءة الإعلانات المبوبة.

فأنا أعتبرها، هى وصفحة الوفيات، الصفحات الوحيدة، الصادقة، فى الجريدة. والإعلانات المبوبة، لا تعلن عن سلع، وخدمات، بقدر إعلانها عن المجتمع، سياسيًا ، اقتصاديًا، وثقافيًا، وأخلاقيًا.

لاحظت أن الإعلان عن «إبادة الحشرات»، أصبح مكثفًا، طاغيًا، على الإعلانات الأخرى، مثل «وظائف شاغرة»، أو «شقق للبيع والإيجار».
 زمان، كنت أقرأ، عن شركة، أو اثنتين، تقدمان خدمة رش الحشرات بالمبيدات.

الآن، مكاتب، وشركات، ومراكز، لا حصر لها، تعلن كالآتى:
«إبادة الحشرات بالضمان سنة على الأقل.. بدون مغادرة المنزل.. بدون إخراج المحتويات من أماكنها.. بالرذاذ.. بالموجات.. بالتبخير.. نذهب إلى كل الأماكن.. ونتعامل مع كل أنواع الحشرات الزاحفة والطائرة.. البق.. النمل.. الصراصير.. البراغيث.. الأبراص.. البعوض.. العناكب.. الفئران.. وغيرها».

بالإضافة إلى إعلانات الجرائد، هناك رسائل تأتى صباحًا ومساء، على الهاتف المحمول، تعلن عن اسم الشركة وخدماتها.

إن «التضخم»، فى شركات « إبادة» الحشرات، معناه وجود «تضخم» فى الحشرات عددًا ونوعًا.

هل السبب هو الانفجار السكانى؟. ربما. فالمنطق يقول إن الحشرات التى توجد وتتوالد، فى مجتمع تعداده مثلا 3 ملايين، ستكون أقل بكثير من الحشرات التى توجد وتتوالد فى مجتمع تعداده 100 مليون. هذا بشرط تقارب نسبة النظافة العامة، الخاصة، فى المجتمعين.

ماذا تم «حشره»، فى المجتمع المصرى، حتى تتضخم الحشرات؟. ماذا حدث فى المجتمع المصرى، حتى يقول لى أحد الشباب : «تخرجت فى الجامعة آداب قسم فلسفة.. ملقيتش شغل.. وقعدت فى البيت 3 سنين.. عملت مع اثنين زمايلى شركة للحشرات.. تكلفتها ليست عالية.. والطلب عليها كل يوم بيزيد.. حشرات حشرات بس أعيش أنا وأمى». قلت له: «لكن تعرضك لرش المبيدات مهما كانت إجراءات الوقاية والحماية، خطر جدًا على صحتك». قال: «وإيه فايدة الصحة وأنا مش لاقى آكل ؟». قلت: «خسارة ليسانس الفلسفة».

«فلسفة إيه؟.. حد يختار فلسفة فى الزمن ده.. فى مجتمعنا ده؟.. شهادة الجامعة تقدير جيد جدًا علقتها على الحيطة عشان أفتكر إنى ضيعت أربع سنين من عمرى».

هكذا يرد بابتسامة ساخرة، أقرب إلى المرارة، والحسرة.

 لا أستطيع، أن أعاتب هذا الشاب، الذى تحمل البؤس، هو وأمه، لمدة 3 سنوات. ولا يحق لى، طالما لم أجرب معاناته، أن أعطيه محاضرة فى فوائد الصبر على المصائب، وانتظار الحل فى الوقت الذى تحدده الأقدار الحكيمة العادلة.

هذه أشياء، لا تشترى طعام وشراب الجسد، ولا تسد الثقوب فى الكرامة والسقف والجدران.

نحن فعلا، نعيش فى عالم مقلوب. وهذا الكوكب الذى يحملنا، يحترق ويتدهور. مظاهر البؤس، والفقر، والمرض، وتضخم الفوارق الطبقية بين الفقراء والأغنياء، وانتشار الإرهاب الدينى، توجع القلب، وتؤلمه فى الصميم.

وأنا على قناعة، أن طوق الإنقاذ، ليس فى بيزنس «إبادة الحشرات»، ولكن فى «بيزنس الفلسفة».

نحن لا نحتاج فقط الفلاسفة، الذين يتفرغون للإنتاج الفكرى الفلسفى، وتوليد الأفكار من «تأمل» الحياة، والكون، وأحوال البشر، كل بمذاق مختلف، مبدع، يثرى عقولنا. هذه هى أحد أهداف التفلسف الأصيلة.

السياسة تحتاج إلى فلاسفة السياسة. الاقتصاد يحتاج إلى فلاسفة اقتصاد.

الثقافة تحتاج إلى فلاسفة ثقافة. الرياضة تحتاج إلى فلاسفة الرياضة. الصحة تحتاج إلى فلاسفة الصحة. التعليم يحتاج إلى فلاسفة تعليم. الاستثمار يحتاج إلى فلاسفة الاستثمار. الخارجية تحتاج إلى فلاسفة علاقات دولية. الداخلية تحتاج إلى فلاسفة الأمن. القضاء يحتاج إلى فلاسفة القضاء. التموين يحتاج إلى فلسفة. وهل ينضبط الإعلام دون فلاسفة؟. هل ترتقى الصحافة دون فلاسفة، يمسكون بالحكمة، كما يمسكون بالقلم؟. وهل نستطيع تحديد الرواتب، والأجور، والمعاشات، والتعويضات، والمكافآت، والبدلات، والدعم، دون فلسفة؟. وكيف يمكننا الحفاظ على البيئة، دون فلسفة؟. حتى نظافة الشوارع، وتسميتها بأسماء شخصيات معينة، يحتاج فلسفة. تصفية الإرهاب الدينى، لا يحدث بدون فلسفة.

وتجديد الخطاب الدينى، غير ممكن بدون فلاسفة. وبدون فلسفة، يصبح الإبداع تسلية فارغة، والفنون عادة استهلاكية. الكلام يحتاج إلى فلسفة. وحتى الصمت، مستحيل بدون فلسفة. والفشل والإحباط والندم، هو نتيجة الحب، والزواج، والعواطف، والإنجاب دون فلسفة. حتى إبادة «الحشرات»، لا تنجح بدون فلسفة.

نحن فى وقت عصيب، نحتاج إلى «إبادة أفكار»، مثلما نحتاج إلى «إبادة الحشرات». ومثلما نحتاج إلى التخلص من الكلاب المسعورة.

أفكار هاجرت من موطنها الأصلى، واحتلت الأرض، والعقل. أفكار اندست فى ملابسنا.. تلسعنا كالبعوض.. تمص دمنا مثل البق.. ترهبنا كما منظر الصراصير السوداء... تقرض حضارتنا كالفئران، تسقط على رؤوسنا مثل الأبراص والعناكب..وتسمم عيشتنا أكثر من الثعابين والجراد.. تتكاثر على حلاوة المستقبل أفظع من النمل.. وتعض أحلامنا أشد من الكلاب المسعورة.
نقلا عن روز اليوسف

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع