الأقباط متحدون - الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد؟ (17) البابا شنودة الثالث ... انطلاق كنيسة(الجزء الثالث)
  • ٠٠:٠٠
  • الجمعة , ١٨ مايو ٢٠١٨
English version

الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد؟ (17) البابا شنودة الثالث ... انطلاق كنيسة(الجزء الثالث)

كمال زاخر موسى

مساحة رأي

٣٩: ٠٧ ص +02:00 EET

الجمعة ١٨ مايو ٢٠١٨

الكنيسة صراع أم مخاض ميلاد
الكنيسة صراع أم مخاض ميلاد

كمال زاخر
كانت مدرسة الأسكندرية واحدة من القلاع اللاهوتية ليس فى مصر وحدها بل فى العالم المسيحى بجملته، وما بين القرنين السادس والسابع الميلادى تتعرض لاستهداف ومطاردات لأسباب عديدة، فى مرحلة الصراع المذهبى وتبنى الحكام ـ الرومان ـ آنئذ للتيار المناوئ لها، فكان القرار هو الإحتماء بأسوار أديرة وادى النطرون، فترحل بمكتبتها وعلمائها إلى دير أنبا مقار ببرية شيهيت، وفى ظلاله يجتمع العلم اللاهوتى والفلسفى مع النسك والعبادة بالروح والحق، ولعل ذلك يفسر لنا أمرين، الأول احتشاد مكتبة هذا الدير بالمخطوطات والوثائق الآبائية للكنيسة الأولى التى انتقلت اليها فضلاً عن انتاج معلمى هذه المدرسة بين جدران هذا الدير، والتى اعتمد عليها غالبية المؤرخين فى العصور التالية، ومنهم أول من أرخ للكنيسة القبطية باللغة العربية الأسقف ساويرس (إبن المقفع) أسقف الأشمونين، فى القرن العاشر، وله نحو ستة وعشرين كتاباً فى اللاهوت والعقيدة والتاريخ، لعل اشهرها "تاريخ البطاركة". والأمر الثانى استقرار الكنيسة على اختيار الآباء البطاركة من الرهبان، خاصة هذا الدير، بعد أن كانت تختارهم من مديرى مدرسة الأسكندرية، إذ صار الدير ورهبانه الإمتداد التاريخى لهذه المدرسة.

لهذا يمكننا أن نقول أن حال الكنيسة مرتبط بشكل كبير بحال الأديرة والرهبنة، باعتبارها المصدر الوحيد الذى يمدها بقياداتها من مطارنة واساقفة، والحارس التاريخى لعقيدتها، ومخزونها اللاهوتى الإستراتيجى، فعندما تصح الرهبنة تصح الكنيسة، وعندما تهن الرهبنة تئن الكنيسة وتدخل فى دوامات بلا قرار.

تجرى فى نهر الكنيسة والوطن مياة غزيرة وعاتية، تغير الخريطة، وتنزوى الكنيسة فى ركن قصى وتتحول إلى كنيسة أقلية، وتتوالى الإنقطاعات المعرفية، بفعل التغيير القسرى للسان، وتكاد الأديرة أن تفرغ من قاطنيها، وينزح المستشرقون الكثير من مخطوطاتها، وقد غاب عن بسطاء الرهبان قيمتها، لتسكن فى متاحف العالم ومكتبات جامعات أوروبا والغرب، ويمتد البيات الخريفى حتى مطلع القرن التاسع عشر، لتبدأ ارهاصات النهضة فى سياق نوبة صحيان أوسع مع حراك محمد على وبعثاته، ومطبعته الأميرية (1805 ـ 1848)، إذ يأتى الى الكرسى البابوى، بعد نحو خمس سنوات من رحيل الوالى، البابا كيرلس الرابع (1854 ـ 1861) ليطلق شرارة البعث ويلتفت إلى التعليم الدينى والعام ويستقدم ثانى مطبعة كبرى، وتدور عجلة التنوير، ويبدو أن ثمة علاقة بين اسم كيرلس وبين التنوير، إذ يواصل البابا كيرلس الخامس المسيرة، وتنطلق فى حبريته منظومة مدارس الأحد القبطية، ويتتلمذ على البابا كيرلس السادس حين كان راهباً متوحداً رهط من الشباب الجامعى الذى يقصد الرهبنة فى جرأة محفوفة بالمخاطر، وحين يصير بطريركاً يقدمهم الى الكنيسة اساقفة يحملون مسئولية التعليم والخدمة الإجتماعية والبحث العلمى، وفى رحلتهم من الرهبنة إلى الأسقفية يلهبون قلوب وأذهان الشباب القبطى فيتوافد على الأديرة عشرات ومئات من الشباب لينتعش الإسقيط والبرارى مجدداً، وتعمر الأديرة.

وبين البابا كيرلس الخامس والبابا كيرلس السادس ينتبه البابا يؤانس التاسع عشر (1928 ـ 1942) لأهمية إعداد الرهبان لتولى مسئوليات الأسقفية فيفتتح مدرسة الرهبان اللاهوتية بحلوان (1929) ويدعمها البابا يوساب الثانى (1946 ـ 1956)، كلاهما كان يؤمن ويدرك حاجة الرهبان الى تأهيل علمى لاهوتى وطقسى وذهنى قبل توليهم مهام الأسقفية، لكن اللافت أن تغلق هذه المدرسة ابوابها عقب رحيل البابا يوساب. ومع غيابها تغيب القواعد الموضوعية للإختيار للأسقفية، والتى كانت واحدة من مطالب الإصلاحيين وقتها!!.

لم يكن للأديرة بالضرورة اسقفاً يترأسها، بل كان يتولى هذا الأمر أحد الرهبان برتبة قمص، ومن ثم يمكن تغييره بحسب أحوال واحتياجات الدير، ولم يكن بالأديرة كثير من الرهبان يحملون درجة كهنوتية، بل كان الكهنوت بالقدر الذى تحتاجه الخدمة الطقسية وخدمة الأسرار، فالرهبنة بالأساس حركة شعبية تأسست على يد أناس لم ينالوا رتبة كهنوتية ولم يخرجوا بتوجيهات أو ترتيبات كنسية، وشكلوا حائط دفاع عنها فى مواجهاتها مع الهراطقة، يتقدمون صفوف المدافعين ثم يعودون ادراجهم إلى صوامعهم و "قلاياتهم" بعيداً عن صخب الصراعات التى يموج بها العالم خارج اسوارها.

وكان الترتيب المعيشى بالأديرة يقضى بتقسيم وقت الراهب ما بين الصلاة بحسب قوانين الرهبنة وارشاد المدبرين بها، وبين العمل لتوفير احتياجات الراهب والدير، فيما يعرف بعمل اليدين، وبين القراءة فى الإنجيل وكتب الآباء، أو نسخ الكتب قبل ظهور الطباعة، فإذا بعمل اليدين يتطور إلى استصلاح الصحارى والتصنيع الزراعى ومهام التسويق حتى التصدير. وإذا بالنسخ يتحول إلى عمل مؤسسى للطباعة والنشر بأحدث التقنيات.

وهى تطورات ايجابية تنعكس بالضرورة على الدور التنويرى والإجتماعى للأديرة، فبعضها نجح فى أقامة منظومة رعاية للأسر الفقيرة ومساعدة طلبة الجامعات. بغير ضجيج أو صخب دعائى.

على أن الحياة الديرية والرهبنة شهدت تطورات تحتاج الى توقف وإعادة تقييم؛ فقد شهدت الأديرة استقرار نسق جديد فى العقود الأخيرة وهو انتظار كل الرهبان لدورهم لنوال نعمة الكهنوت، بحسب اقدمية الرهبنة، وهو أمر يخرجها من كونها حركة علمانية إلى كيان "إكليروسى"، من جانب، ومن جانب أخر يفقد الراهب تركيزه وسعيه فى استكمال حياته كراهب فقط، وتغازله طموحات التدرج فى رتب الكهنوت، بعد ان كان يهرب منها، كما تخبرنا سير الآباء الرهبان الكبار، ولعلنا نتذكر أن مؤسسى الرهبنة لم ينالوا فى غالبيتهم أية درجة كهنوتية، وفى مقدمتهم القديس انطونيوس أب الرهبان والقديس بولا أول السواح، فضلاً عن استخدام قوائم الإنتظار فى تطويع الراهب لتوجه من يقرر منحه الدرجة الكهنوتية أو منعها عنه، ليصير الأمر دلالة على رضا أو غضب الرياسات داخل وخارج الدير، ويصبح تجاوزه بمثابة عقوبة عليه.

ثمة تطور أخر هو انفتاح الأديرة للزيارات الجماعية المنتظمة، فماذا أنتج إنفتاحُ الأديرة على العالم خارجَه من آثار ؟
طالت الآثار ثلاثة أطراف؛ الدير والشباب والكنيسة .

• أولاً ـ الدير :
إذا سلمنا إتفاقاً أن الدير هو ذلك المكان، والمناخ، الذى يقصده المرء ساعياً للهدوء والسكينة، فى سعيه لفرصة حقيقية للإلتصاق الدائم بالله فى عزلة تامة عن العالم الذى تركه خلف ظهره غير نادم، متجنباً قدر الطاقة مصادر العثرات مجتهداً أن يحفظ نفسه طاهراً بلا لوم، فإن هذا الزحف شبه اليومى ينجم عنه:
 فقدان الدير للهدوء ـ سمته الأساسية ـ ودخول الآباء والإخوة الرهبان فى دائرة التوتر التى تؤثر سلباً على سلامهم وتعطل نموهم الروحى .
 زيادة عدد زوار الدير يتطلب تجنيد عدد كبير من آباء الدير لخدمتهم، مما يستنزف طاقاتهم والتى يحتاجها فى القيام بالتزاماته الأساسية الأخرى، سواء فى مجال العمل أو الخدمة أو إتمام قوانين الرهبنة.

 عدم إلتزام كثيرين من مرتادى الدير بالسلوك اللائق به، فيدخل الرهبان فى دوامة حروب مستعرة هم فى غنى عنها خاصة فى دوائر العفة وضبط النفس !!.

 مع توافر "الدالة" والإقتراب المتواتر بين الشباب من زائرى الدير وبين الرهبان، كنتيجة لتكرار الزيارة، تسقط كثير من الحواجز ويبدأ الراهب فى استضافة "أصدقائه" بقلايته، أو المضيفة الملحقة بها، وشيئاً فشيئاً تتهاوى كثير من قيمه الرهبانية وتتزايد الحروب والمتاعب والمشاكل.
 يبدأ الأب "الراهب الكاهن" فى تلقى إعترافات ممن وجدوا لديه ارتياحاً، ويفتح على نفسه باباً كان موصداً لهبوب رياح عاصفة وعاتية قد تقتلعه من جذوره، وتزيف عليه حياته فيختلق المبررات ويسوقُ الأسبابَ التى تقف وراء استسلامه للسقوط، وقد تتمزق نفسيته، ويتحول الدير إلى (مصحة نفسية) تموج بالسعى الباحث عن علاجات نفسية وعصبية.

ثانياً ـ الشباب :

لما كانت غالبية الرحلات تكاد تكونُ وقفاً على الشباب من الجنسين، ولما كانت هذه الرحلات، فى كثير منها واقعياً، ترفيهية أكثر منها روحية بنائية، ولا يستطيع منصف مدقق أن يلمس سوى بصيص من مردود روحى، فإن ردود الفعل العكسية لابد وأن تطل برأسها وتطوق الشباب وتعوقهم وتجرفهم إلى متاهة بلا قرار، وعبر ملامستنا للواقع نجد عندهم :

 ترسخ اعتبار رحلة الدير كافية وربما بديلة عن الإلتزام بالصلاة فى الكنيسة المحلية، ويتنامى الإحساس الكاذب والمغلوط، بعدم الشبع إلا من خلال الصلاة بالدير.

 ظهور الإزدواجية فى أوج صورها، فالشابُ وسطَ الرهبان واحداً منهم يكاد يعيش حياتهم وتسيطر على أحاديثه مفرداتهم، بينما هو فى العالم أكثر إنفلاتاً وعدم التزام من أقرانه، منفصلاً عن كنيسته؛ فلا تعليم ولا تسليم ولا استفادة ولا نمو !.
 وعندما يكتشفُ (عادية) حياة الراهب، وقد يسمع منه ـ فى غالب الأحوال وبحكم الدالة ـ شكواه من معاناته داخل الدير، ربما من إخوته الرهبان أو اسقفه، وتطلعاته للخدمة فى العالم، أو تخطيه فى الإختيار للمراكز القياديةالتدبيرية. تهتز مصداقية الرهبنة بجملتها فى داخله، فيكون إرتداده قاسياً وفى صور متباينة !.

 وقد تتزيفُ عليه هو أيضاً معاييرُ الحياة الروحية، فتتحول عنده إلى ممارسات مسطحة، وتبقى زيارة الأديرة واحدة من هذه الممارسات، بغير مردود روحى يغير حياته للأفضل .

 ومع تكرار الزيارات تكتسب صفة التعود بعد أن يخف الإنبهار، ويتولد بعد ذلك تصلب القلب أمام كلمات المنفعة (إن قيلت وإن سُمعت ) !.
 الدخول فى علاقات خاصة مع الراهب وما يمكن أن تجلبه من متاعب، وقد تكون مصيدة مؤلمة ينصبها المُجرِّب، وهى أمور واردة خاصة فى المجتمعات المغلقة أحادية النوع، ما لم تتوافر فيها انساق الأبوة الروحية والمتابعة المترتبة عليها، والمتاعب والتداعيات قد تطول الراهب وقد تطول الشباب الزائر.

ثالثاً ـ الكنيسة :
ما أكثر أن تصطدم بشباب، داخل الكنيسة المحلية، لم يستطعْ أن يتعاملَ مع الواقع ولم يقوَ على الإنضواء تحت لواء الرهبنة، فجمع بين الأمرين فصارَ يعيش فى العالم بصورة رهبانية باهتة، وعددُهم ليس بقليل بل آخذ فى التزايد وقد يمثل تياراً أو يكاد .

لكنه يشكلُ نمطاً باهتاً يتسم بالضعف ولا يقوى على بناء حياة روحية سوية، أو حياة مجتمعية طبيعية،

وتتولد عندهم قدرة نفسية على تقمصِ شكل الرهبان؛ فينخفض الصوتُ حتى لا تكاد تسمعه، وتتدلى الرأسُ على الكتف، وتردد الألسنة بعضاً من العبارات الشهيرة التى تلتقطها الآذان فى جنبات الدير.

بينما الحياة الخاصة والعلاقات الحياتية لهم تموج فى بحر من الإزدواجية وعدم الإنضباط، وتسبب المتاعب للأخوة والخدمة والكنيسة وقبلهم للأسر التى ينتمون إليها، ثم تعقد داخلهم مقارنة مستمرة بين آباء الدير وآباء الكنيسة، والغلبة بالضرورة للأولين، والقلق والمضايقات وربما الملاحقات والتشهير تكون من نصيب آباء الكنيسة المحلية !!.

ويفقد آباءُ الكنيسة المحلية قدرتهم على قيادة وتوجيه وإرشاد أبنائهم بالتبعية طالما إنحازت المقارنة من الأساس ضدهم، وطالما كان لأبنائهم آباء اعتراف فى الدير، وهو وضع غير سوى وغير كنسى بالمرة .

ويدعم هذا التوجه ما نراه من استعانة القيادة الكنسية بالآباء الرهبان فى تدبير الكنائس التى تعانى من المشاكل أو تمر بظروف خاصة، أو لها ثقل إجتماعى، ومالى، مما يرسخ مفهوم أفضلية الآباء الرهبان على نظرائهم المدنيين.

ويزداد ضغطُ الشعب على الرئاسة الدينية فى طلب آباء رهبان لتدبير كنيستهم، وقد استقر فى وجدانهم أنهم أسمى وأكثر روحانية من كهنة الكنيسة، وهو طلب يجد قبولاً جذلاً لدى الكنسية وتستند فى الإستجابة له إلى كونه مطلباً شعبياً يتحتم تلبيته .

فيفقد الآباء المدنيون وضعهم التدبيرى الرعوى، لأسباب عدة فلا يقدرون على توجيه أبنائهم وتدفع الخدمة الثمن .. وتتعثرُ الكنيسة .. وتتولد المشاكل بين الرهبان ومجالس الكنائس والخدام وقد تصل إلى حد الصدام .

وفى سياق أخر، واتصالاً بما اشرنا إليه فى مستهل هذا المقال عن انتقال مدرسة الأسكندرية الى الدير، نسأل عن الدور التعليمى للأديرة، وقد توافرت لها المراجع الآبائية المحققة سواء فيما تبقى لديها وتحتفظ به من مخطوطات ووثائق أو ما استقدمته من مراجع مثيلة من مكتبات الجامعات الأرثوذكسية ـ كما بينا فى مقالات سابقة ـ وما يتوفر لها من مناخ داعم للبحث والتنقيب اللاهوتى الموثوق به، وما لديها من كوادر بشرية مؤهلة، لكل هذا على الكنيسة أن تعيد هيكلة الأديرة لتولى مهمة إدارة المنظومة التعليمية بالكنيسة، بالتكامل مع الأكاديميين المتخصصين خارج الأديرة، كمدخل لإعادة التواصل مع زخم الكنيسة الأولى، ووضع نقطة فى نهاية سطر المواجهات التى نراها اليوم، والتى فى غالبها تفتقر للتحليل الأكاديمى المتخصص، خاصة وأن من يقودون حملة التشكيك فى ارثوذكسية من أعادوا إحياء فكر الآباء، والهجوم عليهم لا يحملون أية درجات علمية يستندون إليها فى حملتهم، بينما جل من يتصدون لإحياء الفكر اللاهوتى الارثوذكسى الآبائى مؤهلين علمياً ولاهوتياً لذلك، هل تكفى الدرجة الكهنوتية وحدها سنداً للجانب المشكك فى هذا الصراع؟.
ومازال للطرح بقية.
لقراءة سلسلة مقالات: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد؟ اضغط هنا

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع