الأقباط متحدون - صورة شخصية.. للشاعر فى مدينته
  • ٠١:٠٧
  • الجمعة , ١٩ يناير ٢٠١٨
English version

صورة شخصية.. للشاعر فى مدينته

مقالات مختارة | بهاء جاهين

٠٠: ١٢ ص +02:00 EET

الجمعة ١٩ يناير ٢٠١٨

 بهاء جاهين
بهاء جاهين

 زُرقة البحر صفحة عمريَ/ فيها البداية والمنتهَي/ لا أحب الصحاري.. ولا التربة الحجرية/ يبعثنى الماءُ إما ترقرق/ والنور إما هَمَى فوقه.. فَزَها.. هكذا يرسم الشاعر السكندرى الكبير فؤاد طمان صورة وجدانه فى رحاب مدينته, فى قصيدة عنوانها «البحر» ضمتها مختاراته الضخمة والشجية التى صدرت عن دار السفير تحت عنوان: «فؤاد طمان: قصائده المختارة».

وإذا تتبعنا القصائد الستين التى ضمتها هذه المختارات لوجدنا البحر يؤطر كثيراً منها. فمثلاً فى «أنشودة أورفيوس الأخيرة» يضيف طمان ملامح أخرى لصورته الشخصية الوجدانية فى نفس الإطار البحرى الأزرق:

يقولون إنيَ خصب الخيال/ أرد النجوم لأبراجها.. وأعد الرمال/ وأوقظ محبوبتى من سبات الرحيل/ وأمضى بها فى شطوط الأبد/ أطارحها فى البحار الغرامَ/ وأنجب منها الجميلات فوق الزبَد.. (ص12). وفى قصيدة «الغواية» يصف طمان كيف ربّى جمال الاسكندرية وجدانه وألهمه الشعر, حين يقول:

تسكعت فى طرقات المدينة/ علمنى الشعراء الغناء/ ومَلّاحها الكهل ان أتبع النجم عبر الظلام على لُجج البحر/ أن أرقب الكوكب المتوهج فى منحنى الانحدار/ وان أترقب خلف سدول الدجى مولدهْ.. (ص31/30). وفى قصيدة أخري, بعنوان «من وصايا أبوللو», يستكمل طمان رسم صورة نفسه فى صباه تحت وحى الإسكندرية وسلطان بحرها, وبإيعاز من طبيعته الشخصية الشجية, فيتذكر, وقد شاب شعره لكن ما زال قلبه أخضر:

وغنيتُ.. غنيتُ/ مرّت عليّ السحابة, غازلتها فهَمَت فوق قلبي/ وناديت جنية البحر فاتّبعتنيَ طائعةً وروت لى الأساطير وائتمنتنى على سرها الساحرات.. (ص12). وفى مقطع آخر يرسم فؤاد طمان لنا صورة وجهه, بعد أن توغلت الفضة فى أبنوس شعره, وهو يستعد للخروج فى شتاء يناير السكندري, وقد امتلأ القلب شجناً حين تذكر سلمي, ابنته المسافرة لبلاد الثلج, التى أهدته كوفيته الشتوية:

يرتدى المعطف الصوف والقبعة/ ويلف على جيده فى صقيع يناير كوفيةً تبعث الدفء فيه/../ يتبع الله فى زرقة الأفق مبتهلاً/ ويتمتم مرتقباً جريان الغمام: «ألا فاسلمى دار سلمي»/ ويبكى بلا سبب, إذ ترفرف قبل الغروب رفوف القطا الراجعة.. (من قصيدة وداع لم يحن موعده – ص61 – والقطا فى الشعر العربى القديم هو الحمام).

وبعد أن يتدثر الشاعر جيداً لمواجهة الشتاء خارج البيت, تفاجئه أشياء لم تكن موجودة, ويفتقد أشياء كانت موجودة فى رحاب محبوبته الاسكندرية فى صباه وصباها:

أين تيجانها اللؤلؤية؟/ أين مواكبها الملكية؟/ أين غزالاتها الفاتنات/ وكُنّ يغازلنه من وراء سياج البنفسج/ أين التى أشعلت فى صباى الغرام؟ وهو الذى كان يقول: لا شيء ينقصني/ فعندى كل ما أحببت واشتهت العيون/ بيت على الميناء تعرفه الجميلة والنوارس والسفين/ تاوى له ريح الصَّبا/ وتمر مسرعة به ريحُ الشمالِ/ يُطّل من أعلى على مَرْبَى المحارِ/ ومهد ربّاتِ البحار.. (ص7).

ومازال طمان يقولها, بل يفتتح بهذه السطور الأخيرة مختاراته التى يحار القارئ الكاتب ما الذى يختار وما الذى يدع من لآلئها حين ينقل شجن يود بحر الاسكندرية إلى صفحات الجريدة, تعبيراً عن طربه لغناء فؤاد طمان؟!

إنه غناء رومانسي؛ لكن موهبة شاديه الكبيرة والأصيلة تأبى عليه أن يسقط فى النمطية المدرسية لحركة شعرية تنتمى الآن لتاريخ الشعر. فإن كان طمان فى أفضل نماذج هذه المختارات طبقاً لذائقتي- وليس فى كل القصائد المختارة- يرسم صورة العاشق الفرد على خلفية زرقاء بحرية, فإن صياغته لتلك النزعة الرومانسية هى صياغة أصيلة تخصه وحده, ولا تنتمى أسلوبياً إلا له. إن الرومانسية كنزوع إنسانى هى ظاهرة خالدة وأزلية فى الشعر وفى الأدب والفن كله, تسبق أبوللو والعذريين العرب والحركات والمدارس الأخرى فى الشعر والأدب العالميين وتتجاوزها فى الزمان والمكان, وتظهر كحركة لتختفى ثم تعود, لكنها طوال الوقت موجودة كمزاج إنساني. وما دام الشاعر يستطيع أسلوبياً أن يكون نفسه, فإن رومانسيته تظل طازجة, تنتمى لطبيعة الإنسان لا لمدارس الشعر- وإلا لما أطربنا طمان وأدهشنا بمختاراته.
نقلا عن الاهرام

الكلمات المتعلقة