الأقباط متحدون - سلاح تونس.. زيتونة
  • ٠٩:١٥
  • الخميس , ٤ يناير ٢٠١٨
English version

سلاح تونس.. زيتونة

مقالات مختارة | بقلم : فاطمة ناعوت

٤٥: ٠٩ ص +02:00 EET

الخميس ٤ يناير ٢٠١٨

فاطمة ناعوت
فاطمة ناعوت

 فى الطريق من مطار قرطاج الدولى، إلى مدينة سوسة التونسية للمشاركة فى «مهرجان الزيتونة الدولى للآداب»، توقفت بأحد المقاهى لتناول فنجان من القهوة الساخنة، يساعدنى على مقاومة لسعات البرودة الساحلية وأمطار الشمال الأفريقى. كنت أغلقُ مظلّتى وأخلع بالطو المطر، حين جاء النادلُ يسألنى باللهجة التونسية: «عَسْلامة. إنتى فاطيما ناعووت، الكاتبِى المصريِى؟، أنا نْحِبُ نِقرالكْ كتوباتكْ. مرحبا بيكْ فِ تونس. نِحِبُو ناخد معاكْ تصويرة، أمّا بتليفونك باشْ نِضْمَن تسجِلْ رقمى. وتبعتلى التصويرة». التقطنا الصورة بهاتفى، وبدأ يُملى علىَّ رقمَه لأرسلَ له الصورة. سألتُه عن اسمه، فقال: «سْلاح». اتّسعتْ عيناى دهشةً، ولم أصدّق، فأعدتُ سؤالَه: «اسمك سِلاح؟!!»، فابتسم فى ودٍّ قائلا: «نعم سْلاح. مرحبى بيك سيدة فاطيما!»، صافحته ضاحكةً وأنا أقول: «حصل لنا الرعب سيد سِلاح!».

تركته ومضيتُ إلى رفاقى التوانسة الذين سبقونى إلى عمق المقهى. أشرتُ إلى النادل وأنا أقول بنبرة عتاب حزينة: «من إمتى بقيتوا دمويين كده يا توانسة؟!، خسارة!، كنتم أرق شعوب الأرض!، تصوروا الجرسون اللى واقف هناك اسمه إيه!، سلاح!، ليه بقيتوا تسموا أولادكم أسماء عنيفة كده!، يا إلهى!، الثورة عملت فيكم إيه؟، ناقص تسموا: (قذّاف الدم) زى الليبيين!».

 
المدهش أن أصدقائى التوانسة لم يندهشوا من اسم الجرسون العجيب، بل اندهشوا من دهشتى!، قالت منسّقة المهرجان «عروسية بوميزة»: «نعم اسمه (سْلاح). شبيكْ باهتة؟، انتوما المصريين زادة تسميوا (سْلاح)!»، فقلتُ لها فى إنكار واستنكار وشىء من العتب: «لا لا لا!، إحنا مستحيل نسمى (سِلاح). ممكن (سيف الدين)، لكن (سلاح) نو- واى!»، فقالت بإصرار: «بلا تسميوا زادة (سْلاح الدين)»، فأدركتُ فورًا الخطأ الذى وقعتُ فيه.
 
التوانسة، وسائر المغرب العربى، بوسعهم تسكين الحرف الأول من الكلمة، فى حين نحن المصريين لا نقدر على تسكين الحروف الأولى من الكلمات. وكذلك قد يرقّق التونسيون ما نُفخِّمُ من حروف، وقد يُفخِّمون ما نُرقِّق. هنا تختلط بيننا الكلماتُ ويَعسُر الفهم أحيانًا. النادل اسمه: «صَلاحُ»، ومع تسكين حرف الصاد وترقيقه، صار: «سْلاح»، والتقطته أُذنى: «سِلاح»، بمعنى أداة القتل، فاستنكرتُ الاسم الدموى على هذا الشعب المثقف الرائع.
 
ذكّرنى هذا بموقف مشابه حدث معى فى ليبيا قبل عشرة أعوام. كنت فى مدينة «سبها» الليبية فى مؤتمر حول المرأة. وبعدما أنهيتُ قراءة ورقتى، وهممتُ بالنزول عن المِنصّة، جاءنى شابٌّ من مُنظمى المؤتمر وابتسم قائلا: «تحبى الآن نروحو نتدهور؟»، لم أفهم كلمة «نتدهور»، ورأيتُ أن بها عدم لياقة!، ذاك أن «التدهور» حرفيًّا: هو الوقوع على الأرض، ومجازيًّا: هو التدهور الأخلاقى، فغضبتُ وعنّفتُه، وتركتُه شاخصَ العينين مندهشًا؟!، بعد هذه الواقعة بشهرين زرتُ تونس للمشاركة فى مؤتمر أدبى. وجمعنى لقاءٌ بأديبات تونسيات، ففتحتُ حديثًا حول غرابة اللهجات العربية واختلافها الشديد عن بعضها البعض، حدَّ عُسرِ الفهم بين المشارقة والمغاربة، رغم ما يجمعنا من «قومية عربية»، فأمّنتْ على كلامى صديقتى الأديبة التونسية «حياة الرايس» قائلة: «معك حق، فمثلا أنتم فى مصر تقولون: (نِتْفَسَّح)، وفى سوريا يقولونها: (نِطلع شى مِشوار)، ونحن فى تونس نقولها: (نِحَوِّس)، وفى ليبيا يقولون: (نِتْدَهْوَر)..»، هنا أدركتُ أننى ظلمتُ الشابَّ الليبى، الذى كان فقط يودُّ أن يأخذنى فى جولة سياحية بالمدينة.
 
ها مقالى أوشك على الانتهاء، من دون أن أتكلم عن جمال «سوسة»، جوهرة الساحل، ولا روعة أشجار الزيتون، التى تترقرق أوراقُها بالضوء تحت رذاذ المطر وأشعة الشمس، ولا عن تحضُّر الشعب التونسى المثقف، الذى قضى على الأميّة والتطرف واستعاد مكانة المرأة الرفيعة، بفضل العظيم: «الحبيب بورقيبة»، الذى وضع تونس فى مصافّ العالم الأول، ولا عن الصديقات التونسيات الرائعات، اللواتى كسبتهنّ فى هذا المهرجان، ولا عن مهرجان جنى الزيتون الأسطورى فى مدينة سوسة، ولا عن عشرات المواقف الجميلة التى صادفتُها هناك. سأتكلم عن كل هذا فى مقالات قادمة. ويبقى أن أقول إننى استعنتُ بصديقتى التونسية «سامية الجزيرى» التى تُشرّف مصرَ بالإقامة، فى ترجمة بعض الكلمات فى هذا المقال للهجة التونسية الآسرة. سلاحُ تونس.. زيتونة. ويعيشك برشا يا تونس.
نقلا عن المصرى اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع