الأقباط متحدون - إعادة قراءة في التاريخ المصري الحديث (4): كيرلس الرابع
  • ١٣:١٥
  • الاربعاء , ٢٧ ديسمبر ٢٠١٧
English version

إعادة قراءة في التاريخ المصري الحديث (4): كيرلس الرابع

مقالات مختارة | بقلم : صامويل تادرس

٤٠: ١٠ ص +02:00 EET

الاربعاء ٢٧ ديسمبر ٢٠١٧

البابا كيرلس الرابع
البابا كيرلس الرابع

 وضْع الأقباط الكارثي مع نهاية عصر عباس سوف يتغير تغيرا جذريا. الفضل في ذلك لا يرجع إلى حاكم مصري أو لضغط من الدول الأوروبية أو حتى لدور الإرساليات الأجنبية التي بدأت العمل في مصر في تلك الفترة. الفضل في إدراك الأقباط لمميزات الحداثة يرجع إلى رجل واحد وضع على كاهله النهوض بشعبه: كيرلس الرابع أبو الإصلاح.


ولد داود توماس في أسرة فقيرة في إحدى قرى أخميم عام 1816. رغم جهل والديه بالقراءة والكتابة، سوف يدخلونه كُتابا قبطيا في قريته حيث تعلم اللغتين العربية والقبطية والحساب. الطفل كان مميزا عن أقرانه. اختلط بالأعراب الذين تعلم منهم الفروسية. لم يكد يبلغ الثالثة والعشرين من عمره حتى قرر ترك العالم والذهاب للبرية الشرقية للرهبنة رغم معارضة والديه. في دير الأنبا أنطونيوس برزت مواهبه سريعا. كان يجمع الرهبان ويقرأ لهم الكتاب المقدس ويشرح لهم ما تعسر عليهم فهمه. لم يمض عام إلا وسيم قسا. عام آخر يمضي والراهب داود يصير رئيسا للدير. على الفور بدأ في برنامجه للإصلاح. أصلح أحوال الدير المالية، حول مقر الدير في بني سويف إلي مدرسة للرهبان ولعامة الشعب، أنشأ هناك مكتبة.

مواهبه جذبت انتباه البطريرك العجوز. حين نشبت أزمة في إثيوبيا بين مطرانها القبطي والأحباش أرسله هناك. بقي عاما ونصف العام. في غيابه توفي البطريرك. صار الراهب داود مرشحا للبطريركية. رفضه البعض و التجأوا إلى عباس. عباس استشار المنجمين الذين حذروه: انتخاب داود بطريركا سيتبعه موت الوالي. بعد عام وصل الجميع إلى حل وسط بانتخاب داود مطرانا عاما في 17 أبريل 1853.

لم يُضيع الوقت. بدأ على الفور في إنشاء مدرسة حديثة في الأزبكية. مدرسة الأقباط الكبرى التي أنشأها كانت أعجوبة. بجانب العلوم الحديثة كان التلاميذ يتعلمون ست لغات. في عصر كان المرء فيه جزءا من طائفة، فتح المدرسة للجميع بغض النظر عن جنسهم أو دينهم. الأغرب أنها كانت مجانية. كان يزور المدرسة بشكل يومي لمتابعة مدى تقدم التلاميذ. جهوده للإصلاح أدت إلى التفاف الأقباط من حوله، رضخ عباس وسيم داود بطريركا تحت اسم كيرلس الرابع في4 يونيو 1854. العجيب في الأمر أن عباس قُتل بعدها بشهر على يد مماليكه.

الآن صار بإمكان كيرلس الرابع أن يبدأ برنامجه للإصلاح. المدرسة صارت خمس مدارس. الأهم أن اثنتين منها كانت مخصصة للفتيات رغم رفض الكثيرين. أول مدرسة مصرية للفتيات كانت قبطية. سبق كيرلس الخديوي إسماعيل الذي أنشاء أول مدرسة حكومية للفتيات عام 1873. اهتمام كيرلس الرابع بالنساء لم يتوقف عند التعليم. منع زواج الفتيات قبل سن الرابعة عشرة، اشترط لإتمام الزواج موافقة الفتاة، أصر على أن للمرأة نفس النصيب من الميراث كالرجل.

لم يتوقف برنامج الإصلاح عند افتتاح المدارس الحديثة. اهتم كيرلس الرابع بإحياء اللغة القبطية بعد أن كادت تندثر. أرسل مخطوطات قبطية لطباعتها في لندن. اشترى مطبعة من أوروبا هي الثانية في مصر بعد المطبعة الأميرية. لتدريب الأقباط على الطباعة طلب من الوالي سعيد إلحاق أربعة أقباط بالمطبعة الحكومية ببولاق. يوم وصول المطبعة أمر الشمامسة باستقبالها بالألحان الكنسية. استغرب الأقباط ما يفعله. رد عليهم أنه لو كان بالإسكندرية يومها لرقص أمامها كما رقص داود أمام تابوت العهد. التاريخ سيخلد مقولته "لست أكرم آلة من الحديد، ولكني أكرم المعرفة التي ستنتشر بسببها".

وجه كيرلس الرابع اهتمامه إلى أحوال الكنيسة القبطية. نظم إدارة البطريركية والأوقاف القبطية. أنشأ المكتبة البطريركية. بنى الكنيسة الكبرى في الأزبكية. اهتم بتعليم الكهنة. نظم أمورهم بتخصيص مرتبات لهم للقضاء على الفساد. أنشأ معهدا لتعليم الألحان القبطية. كل هذه التغيرات حظيت بمقاومة شديدة من قبل كثير من الأقباط. اتهمه البعض بتبذير الأموال على المدارس. رفض الكثير تعليم بناتهم. قاومه المستفيدون من الأوضاع القديمة.

الخديوي سعيد لم يكن مثل سلفه. سمح بترميم الكنائس المهدمة. قبله كانت أبواب الكنائس تبنى منخفضة لإذلال الأقباط بإجبارهم على الانحناء. في عهده سمح للأقباط لأول مرة ببناء كنيسة في طنطا، وعين مسيحي أرمني حاكم إقليم لأول مرة. الجزية ألغيت في ديسمبر 1855، تجنيد الأقباط بدأ في يناير 1856. رغم التحسن كانت هناك عقبات. لم يترق الأقباط في الجيش كضباط واستغل البعض تجنيدهم لمحاولة إجبارهم على الإسلام في الجيش. استغل كيرلس الرابع حالة الانفتاح النسبي لتحسين وضع الأقباط. تقدم للوالي بثلاثة طلبات: مشاركة الأقباط في المجالس المحلية، إتاحة الفرصة للأقباط للترقي في الجيش، والسماح للأقباط بدخول مدارس الحربية والطب والهندسة التي كانت ممنوعة عليهم. ماطله سعيد. في عام 1856 أرسله إلى إثيوبيا للتفاوض مع ملكها. غاب كيرلس الرابع عامين هناك. نجح في مهمته رغم الصعاب. كعادته لم يضيع الفرصة وتعلم التركية.

كيرلس الرابع عاد أكثر رغبة في النهوض بالأقباط. صار سعيد يخافه. اتهمه البعض بالسعي إلى توحيد الكنائس الأرثوذكسية. حذروا سعيد أن هذا سيجعل الأقباط في موقف قوة. كانت تلك هي القشة الأخيرة. استدعاه سعيد، بعد المقابلة مرض البطريرك فجأة وتوفي بعد بضعة أيام في 30 يناير 1861. هل قتله سعيد بالسم؟ بعض المؤرخين يؤكدون ذلك. الأمر المؤكد أن بعد وفاته قام سعيد برفض كثير من الأقباط من مناصبهم. حين انتخب بطريرك جديد قابله سعيد. قال له "لا تفعل مثل سلفك".

لم يتول كيرلس الرابع البطريركية أكثر من ست سنوات ونصف. رغم قصر المدة حفلت بالتغيرات الجذرية. المطبعة التي اشتراها أهملت ثم استعارها قبطي لإصدار جريدة قبل أن تباع خردة. إحدى المدارس أغلقت. لم يترك كيرلس الرابع كتبا باسمه، كراهب لم يتزوج وينجب أولادا يخلدون اسمه. لكنه ترك الأهم من ذلك. المدارس التي بناها كيرلس الرابع سوف تصير منارة للتقدم. ضمن خريجيها مئات من الأقباط الذين سيكونون النخبة القبطية من أمثال الأديب ميخائيل عبد السيد، المؤرخ يعقوب نخلة روفيله، ومعلم القبطية عريان مفتاح، وقليني فهمي باشا. ضمن خريجي مدارس كيرلس الرابع خمسة من رؤساء الوزراء المصريين: بطرس غالي باشا، حسين رشدي باشا، يوسف وهبة باشا، عبد الخالق ثروت باشا، ويحيي إبراهيم باشا. كيرلس الرابع كان أعجوبة عصره. إليه، وإليه وحده يرجع الفضل في تغير أوضاع الأقباط في مصر من الظلمة إلى النور.
نقلا عن الحرة


المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع