الأقباط متحدون - أوطان للبيع
  • ١٧:٤٥
  • الجمعة , ٨ ديسمبر ٢٠١٧
English version

أوطان للبيع

مقالات مختارة | خديجة حمودة

٢٢: ٠٩ م +02:00 EET

الجمعة ٨ ديسمبر ٢٠١٧

خديجة حمودة
خديجة حمودة

 ما زلت حتى الآن أذكر ما كان يملأنى من أمان واطمئنان وأنا فى حضن أمى، وأؤكد لكم أصدقائى أن حضنها هو وطنى الذى احتوانى صغيرة ودغدغ مشاعرى وعلمنى معنى الانتماء والارتماء بين ذرات تراب الوطن، أما أصابع يدها التى كان يتكور وسطها كفى الصغير فهى حدود ذلك الوطن الذى بدأ بالاتساع عندما سحبت يدى لأول مرة من بين أصابعها وأمسكت بدميتى الصغيرة، ثم قويت أصابعى فأمسكت بكوب الماء ثم بمقبض باب الغرفة، وبعده مقبض باب المنزل، وانطلقت وسط دروب الحياة التى كانت صغيرة بحجم أحلامى وبدأت تكبر وتكبر معى، إلا أنه برغم اتساع حدود وطنى ظللت منذ طفولتى وحتى الآن أدرك جيداً أنه شىء عزيز لدىّ ولا يمكن أن أعرضه للبيع لمن يدفع لى أو لمن يمنحنى ما لم أجده بين حدوده، فقد تعلمت أن وطنى هو عرضى وأرضى ودمائى وساستى وزعمائى وتاريخى الحديث والقديم ولعنة الفراعنة والدير البحرى وطريق العائلة المقدسة وأضرحة أولياء الله الصالحين والأهرامات وبرج الجزيرة وحديقة الحيوان بالجيزة وتمثال نهضة مصر وتمثال رمسيس الثانى وجميلة الجميلات نفرتيتى والملكة حتشبسوت ونهر النيل الذى يحاول سماسرة المياه فى العالم السطو عليه، بعد أن سرق أجزاء منه لصوص الجمال وشركاؤنا فى مصر من أجل إقامة أماكن سياحية ومطاعم عالمية فوق بقايا قصص الحب التى عاشت على ضفافه.

 
ويبدو أننا جيل نشأ على أنشودة ظلت تتردد حتى أصبحت هى النشيد الصباحى لنا فى المدرسة الابتدائية، وعلى نغماتها نسير بخطى حماسية وتتنافس فى إتقان كلماتها الصعبة على طفولتنا برغم سيطرتها على مشاعرنا، فعندما انطلقت أصوات الفنانين العرب بكلمات أحمد شفيق كامل وألحان الموسيقار محمد عبدالوهاب بقوة وحماس (وطنى حبيبى الوطن الأكبر يوم ورا يوم أمجاده بتكبر)، لم يدر بخاطر أى منهم أو بأى من الجماهير العربية التى رددته من خلفهم أن هذا الوطن سيقام عليه فى أحد الأيام مزاد وستعلق لافتة على كل قطر من أقطاره (وطن للبيع)، ويتضمن إعلان البيع المواصفات التى سيستغلها الوسطاء لرفع السعر، ومنها مثلاً (فارغ من السكان بعد أن هجروه بفتح الهاء أو هجروا منه بضمها) أو (خال من المبانى ويحتاج لنزح الحطام والجثث المتحللة) أو (يعوم تحت بحيرة من البترول والغاز ويحكمه عملاء لا مانع لديهم من التعامل مع أى مشتر) أو (شعب مسالم بلا أحلام ولا طموحات ويستعذب القمع والسيطرة).
 
عندما كتب الشاعر كلماته وقال (وطنى يا مالى بحبك قلبى وطنى يا وطن الشعب العربى) لم يكن يتصور أن يغلق حكامنا الحدود ولا أن يرسموها فى مؤتمرات صحفية أمام الكاميرات وتحت الأضواء ولا أن يزوروها ويبيعوها لمن يدفع أكثر ويمنحوا أجزاء منها كهبات، ويبقى المواطن بلا وطن ويقضى حياته باحثاً فى الغربة عنه، يعيش فاجعة لا يدركها إلا على مراحل، ولا يستكمل الوعى بها إلا بانغلاق التابوت على أسئلته التى بقيت مفتوحة عمراً بأكمله انتهى فى الضياع بلا وطن، مردداً ما قاله عدنان الصائغ فى وصفه لعشقه للوطن (وكان المعلم حين يعلمنى كيف أرسم فوق الكراريس شكل الوطن أغافله ثم ألصقه فوق قلبى). هذه الكلمات الموجعة قالتها لى صديقتى التى جاءت إلى مصر بحثاً عن الأمان، بعد أن دمرت الاختلافات الطائفية والسياسية منزلها وبلدتها ومصنعها وأحلام الأحفاد وحجرتهم وألعابهم والستر الذى كانت تنتظره أمها العجوز بتراب وطنها وسط الأهل والجيران الذين قضت معهم عمرها كله، قالت لى وهى ذاهبة لتبحث عما بقى لها داخل بلدتها إن قلبها يؤلمها مقدماً قبل الوصول إلى البلدة التى عاشت فيها عمرها كله، وإنها تخشى الشعور بالمهانة إن أوقفوها على حدود وطنها عدة ساعات، كما حظرها الذين سبقوها إليه، قالت لى إنها ستعود مرة أخرى ولكن بأى مشاعر وبأى قلب لا تدرى؟؟؟؟ ذكرتنى مشاعرها المتهالكة المجهدة بما قاله ياسر عرفات ذات يوم أثناء حديثه عن الوطن (ليس المهم الكرامة الشخصية بل المهم كرامة الوطن وقضيته).
 
ومن أكبر الأدلة على أن الوطن جزء عزيز على أى إنسان منذ بدء الخليقة وحتى الآن ما نجده وسط كتب التراث العربى، ومن بينها كتاب (حب الوطن) للكاتب د. سعد بن عبدالسير، الذى أكد فيه أن حب الوطن ذُكر فى الكتاب والسنة، وأن الله فطر الناس على حب الأوطان بضوابطه الشرعية، فلا غلو ولا تفريط ولا تحريم ولا تأثيم، والقرآن الكريم فقد علمنا أن يعيش الوطن فى وجداننا ومشاعرناوضمائرنا، قال تعالى فى سورة البقرة الآية ١٢٦ «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ»، وفى سورة الحج الآية ٤٠ «الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ»، ويربى القرآن أتباعه على الحرص على الاستقرار فى الديار وتحريم الإخراج من الوطن، فى سورة البقرة الآية ٨٤ «وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ»، وإذا كان القرآن قد علمنا أن حرية الوطن واستقلاله حياة وعزة والخروج منه موت، فقد أكد الأدباء وعلماء النفس والاجتماع والفلاسفة على نفس المعنى، وأبدع الشعراء فى التعبير عن خوفهم ورعبهم من بيع الأوطان، فقال محمود درويش (ستنتهى الحرب ويتصافح القادة وتبقى تلك العجوز تنتظر ولدها الشهيد وتلك الفتاة تنتظر زوجها الحبيب وأولئك الأطفال ينتظرون والدهم البطل لا أعلم من باع الوطن ولكنى رأيت من دفع الثمن).
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع