الأقباط متحدون - سمير الإسكندرانى.. تعويذةُ الفراعنة
  • ١١:٥٤
  • الاثنين , ٣١ يوليو ٢٠١٧
English version

سمير الإسكندرانى.. تعويذةُ الفراعنة

مقالات مختارة | فاطمة ناعوت

٠٦: ١٠ ص +02:00 EET

الاثنين ٣١ يوليو ٢٠١٧

فاطمة ناعوت
فاطمة ناعوت

ما كلُّ هذا الألقِ الذى يسكنُ هذا الرجل الذى يجلس جوارى على المنصّة الآن! ما سرُّ ذاك الإشعاع الذى ينبعثُ سَناهُ من بين ثناياه؟! رجلٌ فريدٌ، نسجٌ وحدَه، يأتى مثلُه كلَّ ألف دهر ودهر. يأبى الچينومُ البشرى أن يسمح بتلك التركيبة الإنسانية المعقدة الشفيفة، الصوفية العذبة، السهلة العسرة، النورانية النيّرة، الآسرة الكاسِرة، إلا مرّةً كلَّ ألف عام. ولا يمنحها إلا لبلاد تستحق أن تكون صانعةَ المواهب، وأمَّ التاريخ والدنيا، اسمُها: مصر.

أنا أحبُّ هذا الرجل. أحبُّه منذ خفق قلبى خفقتَه الأولى. وصنع ذهنى الصغيرُ، وأنا طفلة، على شاكلته، نموذجَ الفارس؛ الذى لا يكونُ الرجلُ إلا عليه. فارسٌ صوفى من عصور النبلاء. خرج لتوّه من كتاب الحواديت ليقصَّ علينا بعضًا من تاريخ مشبع بالبطولات التى منحها للوطن حتى يأمَن، والبهجات التى منحها للحزانى حتى يبسموا، والحواديت التى يمنحها للخائفين حتى يطمئنوا، وقبسات النور التى ينثرها على رؤوس الضالّين حتى يعرفوا طريقهم، والمواويل التى يمنحها للموجودين العازفين عن الدنيا حتى يأنسوا، فينتبه الكونُ على صدحِه ويعرف أن راهبًا صوفيًّا قد ترك خلوته وخرج على الناس ينثر بينهم الحبَّ والسلام والعذوبة والغناء، فيبتسمُ الكونُ، وتُشرقُ السماءُ بنور الله.

هو إحدى أجمل حناجر هذا الكون، وأكثرها ثقافةً. هناك حناجرُ جميلةٌ تمنحك صوتًا غرّيدًا شجيًّا تطرب له. وهناك حناجر مثقفة تمنحك حالا من السياحة والسباحة والتأمل والشجن الروحى والذهنى. وهناك حناجر نادرة تجمع الحسنيين. الجمال والثقافة. هذا هو. الرجل ذو الحنجرة الجميلة والمثقفة. كيف تجتمع القوة والعذوبة؟ نقيضان لا يجتمعان إلا فى قطرة الندى التى من فرط عذوبتها تذوب على ورقة زهرة، ومن فرط صلابتها تنقر الصخرَ وتُصدّع الجبال. تلك هى المعجزة الصوتية التى يمتلكها هذا الفارسُ النبيل.

هو أحد آبائى. أحد أجمل آبائى، وأكثرهم وسامةً وأناقةً ورقّة واستنارةً. تعلّمت منه فى طفولتى أن أحبَّ الناسَ جميعًا حين سمعته يغنّى: «ده أصلنا الإنسانية/ والأب واحد يا عالم/ وكلنا من دم واحد/ ألفين سلام لك يا آدم». وتعلّمتُ أن أحب بلادى وأبناء بلادى حين سمعته يقول: «إخواتى تلبس وتاكل/ اجعلنى حبّة تفرّع/ وتبقى فدادين سنابل/ وأبدر على الناس محبة/ وبسمة فى كل دار..» وأحببتُ فرانك سيناترا وتمنيتُ أن أقع فى الحبّ؛ حين سمعته يغنى بحنجرته العربية Feeelings. وأحببتُ أنوثتى حين سمعته يغرّد: «قدّك الميّاس». وتمنيتُ أن أشبَّ وأرتدى ثوب الزفاف وطرحة العرس، حين سمعته يغنّى: «طالعة من بيت أبوها/ رايحة بيت الجيران...»، و«زفّوا الخبر الشمس رايحة للقمر». وأحببت السفر خارج مصر؛ حتى أشتاق إليها بعد برهة، حين أسمعه يئنُّ فى شجن: «Take me Back to Cairo/ Beside the River Nile» فى جديلة واحدة مع «يا نخلتين فى العلالى يا بلحهم دوا». ما هذا الإعجاز الموسيقى الرؤيوى الوطنى! وأحببتُ فرادتى وأن أكون نفسى وليس أحدًا آخر، حين سمعته يغنّى: «My Way».

هو ابن الغورية، ربيبُ الحاج فؤاد الإسكندرانى، التاجر المثقف المستنير الذى غرس النبتةَ وأحسن ريّها وتشذيبها فى بيئة جمعت بيرم التنوسى والشيخ زكريا أحمد. علّمَ ابنه الطفل، ابن الخامسة، أن يصلى الفجر فى مسجد الحسين، ثم يذهب به إلى حارة الروم، ليزورا راعى الكنيسة يهنآنه بعيد القيامة المجيد. فنشأ الطفلُ صحيح النفس سوى الروح، نظيف العقل، لا ينقصه إلا أن يدرس الفنون الجميلة على أيدى الإيطاليين فتُصقَل ريشتُه، ويتشعّب لسانُه المصرى إلى ألسن عديدة إنجليزية وإيطالية وفرنسية ويونانية، فيتلّون صوتُه بألوان العالم، ثم «تتدوزن» حنجرتُه الاستثنائية مع الأيام ويكتملَ كمالُها الألماسى حتى يغدو مَن هو الآن، تلك الأيقونة المصرية الفريدة، التى لا شىء يشبهها.

فى صالونى الأدبى الشهرى، الذى يتجدد بمسرح مكتبة مصر الجديدة فى السبت الأخير من كل شهر، اخترتُه أن يكون ضيفَ الشرف لصالون شهر يوليو. رجوتُه فلبّى رجائى؛ رغم الإرهاق والمشاغل. لم يشأ أن يخذلنى، هو الذى لم يخذل محبيه ولا وطنه. ولا حتى خذل وردة صغيرة خلدت إلى النوم بين يديه الطيبتين، فأراحها فوق كتابٍ، وادعةً مطمئنة. جاء إلى الصالون بكامل سموّه ووسامته وطيبته. احتشد جمهورُ الصالون حوله يصفّقون غير مصدقين أنهم يرون من أرهقنا عذوبةً وشجوًا. قالت له سيدة جميلة فى شعرها الفضى: «أيام الجامعة كنت أنت نموذج الشاب الوطنى المثقف المناضل. حدّثنا عن تاريخك المشرّف فى المخابرات المصرية، وكيف أنقذت جمال عبدالناصر، وأنت بعدُ طالبٌ فى بداية حياته. فحدَّثنا.

إنه تعويذة الفراعنة الغنيّة بالمجد والمواهب. سمير الإسكندرانى. حبيبى وأستاذى وأبى الروحى. أعتزُّ بك.. وآآآه يا جميل.. يا الذى تقطرُ موسيقى وتنثرُ الفرح. شكرًا.
نقلا عن المصري اليوم

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع