الأقباط متحدون - اشتباك مع نيوتن
  • ١٦:٠٥
  • الأحد , ٩ يوليو ٢٠١٧
English version

اشتباك مع نيوتن

٥٩: ٠١ م +02:00 EET

الأحد ٩ يوليو ٢٠١٧

نيوتن
نيوتن

 قرأت بإعجاب دائم ومستمر ما كتبتموه تحت عنوان «كلنا حسبناها غلط»، ولعلَّ مرجع هذا الإعجاب هو أن الأفكار التي يتم التعبير عنها ليست إنشائية، كما هي العادة حالياً في معظم المقالات، وليست «طق حنك» على حد تعبير الإخوة اللبنانيين، وإنما كل مقال هو بمثابة «دراسة مصغرة»، أو «مسح مكثف» يستعرض القضية بإيجاز، وبمنطقية، وبموضوعية، وهى «سلع» غالية الثمن ونادرة الوجود في المجال الإعلامى.

 
ولقد كتبت إليك هذه الرسالة، تأكيداً لبعض الأفكار، ومعارضة واختلافاً مع بعضها الآخر، وإن كان الود والاحترام هو الثابت في الحالتين: حالة الاتفاق، وحالة الاختلاف.
 
ودعنى- على غير العادة- أبدأ بنقاط الاختلاف، ولعل أهمها هو منظور التناول، وهو تقييم الأحداث والظواهر التاريخية بمقاييس وحسابات اللحظة الحالية.. ودعنى أختلف معك في هذه النقطة.. فلكل لحظة تاريخية حساباتها، ولكل قرار، أياً كان نوعه (سياسياً أو اقتصادياً)، ظروفه التي تحتمه.. أميل إلى منطق الحتمية التاريخية، أكثر من الحسابات العكسية التي ذكرتها.
 
لو عاد التاريخ إلى الوراء مرة أخرى، هل كان على النحاس باشا توقيع معاهدة 1936 ثم إلغاؤها في عام 1951؟ وهل كان عليه قبول الوزارة في 4 فبراير 1942 بأمر من الجيش البريطانى؟ وهل كان على السادات منع عودة الإخوان المسلمين إلى الساحة السياسية مهما كانت الضغوط التي مارسها عليه التيار الناصرى وأنصار القومية العربية آنذاك؟ وهل كان من المفترض أن يذهب إلى القدس ويوقع اتفاقية السلام؟! أسئلة كثيرة لو فتحنا الباب لها لأصبحنا في فيلم من أفلام رأفت الميهى الفانتازية.. قراءة التاريخ بشكل عكسى هي من قبيل الترف البحثى، ومن قبيل البكاء على اللبن المسكوب الذي لا يفيد.
 
ولعل ذلك هو ما فطن إليه الرئيس السيسى في حساباته الحالية وفى قراراته الحالية.. الرجل ينظر إلى المستقبل، وإلى التأثيرات على المدى الطويل، وهو ما دفعه إلى اتخاذ كثير من القرارات التي تضرب شعبيته في مقتل، وتصيبه بالضرر الشخصى المباشر، ولكنه إدراكاً لهذه الحسابات، ورغبة منه في ألا نقول على بعض قراراته مستقبلاً «كلنا حسبناها غلط» بتعبيركم في هذا المقال، يقوم الرجل بالتصحيح الذاتى التحسبى والمسبق.. وهى نقطة تحسب له، وتحسب لهذا الحس التاريخى والمستقبلى في نفس الوقت.
 
أما ما أتفق معك فيه فهو كثير: العقلانية السياسية ضرورة في كثير من قراراتنا وسياساتنا.. التقييم الموضوعى للأمور مطلب حتمى لأصحاب القرارات وصناع السياسات، نحن في مأزق مستمر بسبب سياسات تاريخية لا قبل للواقع بها.. سنظل نخضع لنفس الأعباء ما دمنا نطبق نفس السياسات التي ثبت فشلها.. الانطلاق إلى المستقبل يستلزم العودة بقوة إلى الوراء تحليلاً وفحصاً ودراسة.
 
وأخيراً.. أخشى أن تكون لتوجهاتك غير المؤيدة أو المحبذة للأفكار الناصرية دور في التحامل على الرجل؟ وفى التقييم السلبى لمرحلته.. نختلف على بعض سياساته، ونتفق على أنه كان واحداً من أعظم القادة في تاريخ مصر.
 
ولك يا عزيزى نيوتن الحب كله.
 
د. سامى عبدالعزيز
 
العميد الأسبق لكلية الإعلام
 
بجامعة القاهرة
 
■ ■ ■
 
.. وردًا على الاشتباك
 
أشكرك بداية على المقدمة التي أشدت فيها بالفكرة. شهادة أعتز بها.
 
لكن دعنى أبدأ من نقاط الاتفاق بيننا. على عكس بدايتكم. فلا أحد يشك في أهمية العقلانية خلال اتخاذ القرارات السياسية.
 
تحدثت أنت عن أحداث تاريخية وقعت ولم تتعرض لتوابعها. بينما عندما تحدثت أنا عن تأميم قناة السويس. ذكرت توابع القرار. جعبة التاريخ مكتظة بالأمثلة المشابهة.
 
ـ هل نختلف على أن نابليون عندما حاول غزو روسيا تعرض لهزيمة منكرة؟ وكان لها توابعها.
 
ـ هل نتغافل عن هتلر عندما كرر الخطأ نفسه، وتعرض للهزيمة في روسيا مرة أخرى؟ لا أحد ينكر أن ذلك خطأ تاريخى انتهى بتقسيم ألمانيا.
 
ـ هل نبرر لماوتسى تونج، بكل نواياه الحسنة تجاه الصين ومواطنيها، أنه تسبب في قتل 100 مليون من شعبه، ما بين مجاعات وثورة ثقافية وما إلى ذلك.
 
هل نسمى كل ما سبق حتمية تاريخية. أم أخطاء تاريخية؟
 
أما عن الأمثلة التي أوردتها. عندما تحدثنى عن توقيع النحاس باشا معاهدة 36 وإلغائها في 51، أرجو أن تدلنى على التوابع. توليه الوزارة بعد حصار قصر عابدين. بأمر الاحتلال البريطانى. حتى لو أراد بهذا القرار افتداء رأس الدولة ورمزها. ما هي التوابع الخطيرة لهذا القرار. مع أننى أرى- بصفة شخصيةـ أن توليه الوزارة ترك لبسا في سجل وطنيته الناصع، انعكس على سجل حزب الوفد.
 
أما سفر السادات للقدس؛ فتوابعه أننا نعمنا بالسلام لنحو نصف قرن حتى الآن. بينما كانت الحروب تطالعنا بمعدل مرة كل 8 سنوات. من 48 إلى 56 إلى 67 إلى 73.
 
قرار تأميم قناة السويس كان له توابع. نعيشها حتى اليوم. بدأت بتمصير جميع الشركات الأجنبية. هجّرنا جميع الأجانب العاملين في مصر. من إنجليز ويهود وطلاينة ويونانيين. كنا نراهم حتى في قرى ونجوع مصر. كان هذا أول مسمار في نعش الاقتصاد المصرى. تبعناه بالحراسات والتأميمات، ثم جاء تخفيض إيجارات المساكن. فكان هذا انتكاسة للاستثمار العقارى أيضا.
 
أعتقد أن الاشتباك في مقالك يجىء في جزأين. الأول: لا أعرف لماذا أقحمت الرئيس السيسى في الموضوع. ولن أعتبر هذا الإقحام مبررًا. ومع ذلك فقد كررت أنا مرارًا في هذه الزاوية أن الرجل استثمر شجاعته لحساب مصر. فأخذ يعالج أخطاء وكوارث «تاريخية هي الأخرى» تراكمت على مر السنين. جعل مهمته انتشال مصر من أخطاء الماضى في الاقتصاد والدعم والصحة والإسكان. واجه أيضا الانحراف في الدين. وطالب بتطوير الخطاب الدينى. فعل كل ذلك ضاربًا عرض الحائط بالحسابات الانتخابية. هذا إيثار ووطنية تحسب له.
 
الجزء الثانى. اتهمتنى ظلمًا بكره عبدالناصر أو اتخاذ موقف منه. في حين أننى أراه شخصية كاريزمية مبهرة. فهو قامة تاريخية سياسية الجميع يعترف بها. عبدالناصر ملكنا جميعا. بحسناته كلها وسيئاته كلها. أهم منجزاته في رأيى أنه وضع حدًا أدنى لكرامة المصرى البسيط والعربى البسيط. لذلك يجب تكريمه دائمًا بصفته «بطل حقوق الإنسان المصرى والعربى». هذا أمر لا ينكره إلا المنافقون.
 
في مقالى «كلنا حسبناها غلط» أتحدث عن التوابع وليس المقاصد. مؤكد أن الجميع كان لديهم مبرراتهم. نابليون كان يقصد مجد فرنسا ومجده الشخصى. هتلر كان يقصد مجد التاريخ. ماو كان يسعى لتطوير الصين. كلها مقاصد نبيلة. بينما توابعها كانت كارثية.
 
الخلاصة. يجب ألا نتعامل مع الأحداث التاريخية كثوابت، لا يمكن المساس بها. وكأن التاريخ أيضًا يدخل حيز «التابوهات». كما نعيش «تابو ازدراء الأديان»، الذي يعتقلنا في تفاسير بشر مثلنا. اجتهدوا وبحسن قصد أيضًا، منذ مئات السنين. ممنوع علينا مراجعة ما جاءوا به.
 
مراجعة التاريخ، والاستفادة من تجارب الأولين.. هي الوسيلة الوحيدةـ يا عزيزي- لمخاطبة المستقبل.
نقلا عن المصري اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع