الأقباط متحدون - صلاح فضل: يجب أن نتوقف عن مطالبة الأزهر بتجديد الخطاب الديني.. فمن يأكل عيشه من الدين لا يمكن أن يجدده
  • ٠٧:٥٨
  • الاربعاء , ٢٨ يونيو ٢٠١٧
English version

صلاح فضل: يجب أن نتوقف عن مطالبة الأزهر بتجديد الخطاب الديني.. فمن يأكل عيشه من الدين لا يمكن أن يجدده

أخبار مصرية | الدستور

٢٠: ١١ ص +02:00 EET

الاربعاء ٢٨ يونيو ٢٠١٧

صلاح فضل
صلاح فضل

قبل أن ألتفت إلى أسئلتى باغتنى بالحديث.

بدا أن الرجل جاهزا للحوار أكثر من محاوره!.

أعترف بأننى وضعت أوراقى جانبًا فى حضرته، واختار هو من أين نبدأ، وقد غلبنى حينما أوقفته أحيانًا لأسأل وأستوضح.

أسوأ ما يمكن أن تشعر به وأنت جالس فى معية مفكر كبير، أن الآمال تتضاءل أمام هول المشكلات، وفى مقدمتها مسألة الحرب على الإرهاب.

ليست الأزمة فى غياب الرغبة فى الحل، غير أن الطريقة التى نسير بها الآن فى المواجهة الفكرية وتجفيف المنابع قد أثبتت – على مدار عامين أو يزيد – أن من انتظرنا منهم الحل هم جزء من المشكلة.

ذهبت إليه، وقد وضعت قضية تجديد الخطاب الدينى رأسًا للحوار، الذى امتد لنحو ساعتين، حين استضافنى فى منزله بحى المعادى.

قبل ٦ سنوات، تلقى صلاح فضل اتصالًا من الروائى جمال الغيطانى – رحمه الله – يدعوه فيه إلى لقاء موسع مع الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، لبحث الأوضاع آنذاك واتخاذ موقف منها.

لماذا ذهب صلاح فضل إلى الإمام الأكبر؟
يقول: «أخذت أدير فى ذهنى مختلف الاحتمالات، واهتديت إلى فكرة محورية تستجيب لشواغلى الثقافية، والوطنية من ناحية، ولبعض التجارب التى مررت بها من قبل من ناحية أخرى، وهى أن مصر مقبلة بالضرورة على اجتياز تجربة ديمقراطية لا بد أن تكون أهم أهداف الثورة الوليدة، وقد شاركت جماعات الإسلام السياسى من إخوان وسلفيين وغيرهما من أصحاب اللحى والجلابيب فى بعض موجات الثورة المتأخرة دون رفع أى شعارات فى البداية تقية وخوفًا، ثم لم يلبثوا أن جهروا بهذه الشعارات عندما ضمنوا النجاح وانكسر النظام البوليسى العاتى، ولأننا جميعًا نعرف مدى تغلغلهم فى أحشاء الشارع المصرى وخداعهم العوام باسم الدين، ونعانى منذ عقود من تنظيمهم العاتى ورؤيتهم الضيقة وفهمهم الانتهازى للدين، بما يجعله مناقضًا لأى توجه حضارى إنسانى.. فقد كنا جميعًا نخشى من تغلبهم فى أول انتخابات حرة نزيهة، ومن ناحية أخرى كانت لى تجربة ثقافية وسياسية فى مكتبة الإسكندرية، إذ أسهمت فى وضع وثيقة الإسكندرية لتأسيس أهم دعوة للتحول الديمقراطى. لهذا خطر لى أن أعرض خلال اجتماعنا مع شيخ الأزهر إصدار وثيقة مشابهة توضح علاقة الدين بالدولة من منظور متحضر مستنير، يقى مصر شر التطرف الجاهل الذى عانينا منه منذ صعود الإسلام السياسى قبل عقود».

كان عرض صلاح فضل، فكرته لتخرج بعدها وثيقة أولى من الأزهر حول مستقبل مصر، وثانية حول الحريات.

غير أن ضغوط «المتطرفين» ممن يمسكون بأمر المشيخة منعت خروج وثيقتى المرأة وتجديد الخطاب الدينى إلى النور.

ولا يخفى صلاح فضل شعوره بشىء من الخذلان، وإن أظهر تقديرًا كبيرًا للدكتور الطيب.

أين نقف فى معركة تجديد الخطاب الدينى؟ وكيف يكون المخرج؟.
هذا ما أراد صلاح فضل أن يتحدث عنه، وقد قاومنى كثيرًا حين أردت أن أجره إلى حديث يركز على الأزهر وأحواله فقط.

بتعبيره «هذه نقطة فى بحر من الظلمات علينا أن نعبره».

كيف يكون ذلك؟
تعال معى نعرف سويًا.

***

لصلاح فضل منطقه الخاص: «الوضع الدينى جزء من المناخ الفكرى للمجتمع، الذى هو جزء من المناخين السياسى والاجتماعى».

يقول: «لا أريد أن أُسجن فى بؤرة التفكير الدينى، فالتفكير الدينى جزء من غيبة العقل العلمى وهيمنة الخرافة وسطوة الطقوس والشكليات الدينية وتثبيت أوهام فى أذهان الناس».

من هذا الفهم لا تنفصل قضية تجديد الخطاب الدينى عن الأوضاع الثقافية والفكرية والسياسية فى المجتمع.

لنجمل ما يريد أن يقوله قبل أن ندخل إلى ساحة التفاصيل.

«خطورة قضية تجديد الخطاب الدينى أنها تضعنا أمام تحديات خطيرة وأسئلة أخطر عما فعلناه بمجتمعنا طيلة العقود الماضية من سطوة المشتغلين بالدين، وتغييب الوعى الفكرى، وتهميش التفكير العلمى».

ماذا عن رجال الدين؟
يقول: «لدينا كارثة فى سطوة المشتغلين بالدين لأكل العيش، الذى يسعون لتثبيت سطوتهم وتركيز غبائهم المعرفى فى خطب الجمعة التى يديرها مئات الآلاف من أنصاف المتعلمين والجهلة بالدين والدنيا معًا».

هؤلاء زادوا أمية الشعب، وزادوا من تعلقه بالتدين المظهرى الشكلى وانشغاله بالقضايا التى تجاوزها العصر، وأصبح عامة الناس ممن يستمعون لهذا التيار - المستمر فى الإلحاح على التفاصيل ذات الطابع الدينى - مسلوبى الوعى، وفاقدى القدرة على فعل أى شىء، وليس لديهم أى حس نقدى يميزون به بين الخطأ والصواب.

هو يرى أن «المنابر الدينية فى مصر راكمت طبقات من الجهل بالدين وجوهره ومقاصده، ومن التنكر للعلم وآلياته، ومن الفراغ المعرفى والخواء الرهيب فيما يتصل بمنابع الفن والثقافة والإبداع».

هذا يتبدى فى أن «لا أحد فى الشارع المصرى الآن يستمع إلى الشعر أو يقرؤه أو يطرب له إلا عدة مئات من المشتغلين به، بينما انشغل الشباب من المثقفين بكتابة قصص وروايات تشبع نهمهم للانتقام من نفاق المجتمع وسطحيته يخدشون فيها بأظافرهم للكشف عن بعض عيوبه وتعرية جانب من مشكلاته».

يقول: «لم يعد هناك فى مصر دارسون أو قراء للفلسفة، ليس لدينا متذوقون أو منتجون بالقدر الكافى.. لقد خلت المنابر الإعلامية من أى مادة ثقافية رفيعة تشكل الوعى أو تربى الضمير أو تنمى الفكر العقلى والنقدى».

ما هو الوضع الآن؟
يقول: «هذا الخواء الذى نعانيه منذ عدة عقود أدى إلى تفاقم خطاب دينى رجعى وصولى انتهازى فى منتهى السوء مدفوع بغباء السلطة الحاكمة - خلال العقود الماضية - الذى جعلها تركز على منع هؤلاء من القفز على الحكم، فتركتهم يسدون عوارها وعجزها عبر إنشاء المستشفيات وغيرها من الخدمات الاجتماعية فاشتروا ولاء الناس وإعجابهم.. هذا إلى جانب مكافأة الجنة التى وعدوا الناس بها».

ومع أن الوضع قد تبدل بعد ٣٠ يونيو، فإن إخلاص القيادة السياسية ورغبتها الحقيقية فى الإصلاح وبخاصة الإصلاح الدينى قد اصطدم بجمود المؤسسة الدينية وهذا حديث يحتاج إلى شرح.

***

بعد ٢٥ يناير شعرت مؤسسة الأزهر بأنها أمام طوفان من التحولات وقد دفعت دفعًا للمشاركة فى الحياة العامة فطلب الإمام الأكبر لقاء المثقفين وظهرت فكرة الوثائق، وأدت «الفورة الثورية» إلى تبلور ونجاح وثيقتى الدولة المدنية والحريات وقد أعلنهما شيخ الأزهر وأقرهما.

بعد ذلك بدأت طبائع المؤسسة تغلب، وبدأ كبار رجال الدين يعودون إلى مواقعهم الطبيعية فى التحفظ ومجابهة أى رأى جديد.

وعندما شرع المثقفون فى مناقشة قضية حقوق المرأة انقلب الأمر تمامًا فى معادلة نزعة التجديد التى كانت غالبة أولًا وغلبت نزعات المحافظة فتعطلت وثيقة المرأة.

ثم فتح الرئيس الباب أمام تجديد الخطاب الدينى ووضع الأزهر والمثقفون ٣ مسودات لوثيقة تجديد الخطاب.

كان هذا قبل عامين تقريبًا ولم يدع الإمام الأكبر المثقفين والعلماء لإقرار المسودة الأخيرة.

وكان هذا طبيعيًا بالنسبة إليه فقد عرف عن الدنيا وطبائع الأمور الكثير.

يقول: «المؤسسات الدينية لا تستطيع خلع عباءة المحافظة، لأنها تحمى ذاتها واستمرارها.. وحين ترفع شعارًا بنوايا طيبة فتدعوها إلى أن تتجدد، ترد بتبنيها الدعوة، ثم سرعان ما تنكمش مجددًا وتعود إلى قواعدها، فتلك المؤسسات تقوم على الوصاية، وهى فى صميمها تبنى على الاتجاه إلى المحافظة وتقاوم التجديد.. لا نتصور أبدًا أن يرحب المحافظون بالمجددين».

ويضيف: «مؤسسة الأزهر مهما كان على رأسها عالم جليل ومستنير وصوفى، إلا أن المؤسسة بطبيعتها محافظة وهى مؤسسة دينية، والمؤسسات الدينية إذا أعطيتها قيراطًا من السلطة تطلب ٢٤ أخرى، لأن رجال الدين أحب ما عليهم أن يكونوا هم سادة العالم، وأن يحولوا الدنيا كلها إلى كهنوت، فمصدر رزقهم هو ذلك».

هل نصل إلى منطقة الجد؟
يقول: «نحن لا ننتظر إطلاقًا من الذين يتكسبون من الخطاب الدينى والذين عملوا على إغراقه فى الجهل والغيبيات والخرافة أنهم هم الذين سيجددونه.. ليس بوسع أى شيخ يأكل عيشه ويبنى هيبته ويصنع شكله الاجتماعى من تخويف الآخرين ويبيع لهم الجنة والنار أن يجدد فى خطابه الدينى.. لابد أن نكف عن انتظار التجديد من رجال الدين.. من يجدد الخطاب الدينى هم علماء الأمة فى التخصصات الإنسانية والعلمية، هم مفكروها، وفلاسفتها، ومثقفوها، وأهل الرأى، الذين يريدون تحكيم الفكر العلمى».

لكن كيف يكون ذلك؟
التجديد الحقيقى للخطاب الدينى – كما يرى صلاح فضل - يكون عبر تقليصه إلى أقل مساحة ممكنة فى الحياة الاجتماعية، وأن يكون الاحتكام إلى الشعور الوطنى، والعلم، والمقاصد الأساسية فى الدين.

يوضح: «الدين له مقصدان لا يغفل عنها أى مشرع فى أصول الفقه، المبدأ الأول هو لا ضرر ولا ضرار، أى دفع الأضرار، وهو مقدم على جلب المنافع كما يقول علماء الأصول.. الإرهاب جريمة وضرر ومقاومته تكون بالوسائل الأمنية والمعلومات ثم بتجفيف المنابع الفكرية عن طريق تقليص مساحة الخطاب الدينى».

يقول: «مثلًا فى الحوادث المفجعة من حرق الكنائس والاعتداء على المواطنين الأقباط وغير ذلك يأتى أحد شيوخ الأزهر (يقصد سالم عبدالجليل) ليقول إن دين المسيحيين فاسد.. هذه حماقة لابد أن يُحجر على هؤلاء الشيوخ.. لابد أن يحجر عليهم».

يوجه هنا حديثه إلى الرئيس: «يا سيادة الرئيس: لا يمنعك الوفاء لمن وقف معك فى ٣٠ يونيو أن تتركه يدمر العقل المصرى، فالسلفيون الذين وقفوا معك ضد الإخوان المسلمين يعملون الآن ضد الدستور، ويبثون الكراهية، ويزرعون الفتن، ويفتون على المسلمين بألا يحيوا إخوانهم الأقباط».

يقول: «كل من يصدر فتوى بتكفير الآخر المختلف عنه دينيًا لابد أن يقبض عليه فى اليوم التالى ويعاقب بقانون الجنايات، لأنه يحرض على القتل، فأى فتوى بالتكفير تحريض على القتل وليس لها صبغة دينية ولا أى حصانة فكرية.. هى جريمة لابد من عقاب مرتكبها، ولو أمسكنا بهذا الشيخ السلفى الأحمق (يقصد ياسر برهامى) الذى لا يكف عن تكفير الآخرين وحاكمناه وحوكم باعتباره يحرض على القتل وأخذ سجنًا مؤبدًا سيكف كل الأغبياء الذين يخرجون علينا كل يوم وينادون بالتكفير وتسميم حياة الناس».

الخطوة الأولى إذن هى تقليص مساحة هيمنة رجال الدين على المجتمع.

يقول: «أنا لدى مشكلة مع نصف مليون واعظ جهلة يقولون للناس منكرًا كل جمعة، ولا يقبلون الآخر، ولا يفهون طبيعة الدين الإسلامى، ولا مقاصده الحقيقية، وليس لديهم أى وعى بالثقافة، أو الفلسفة، أو الفكر، أو الفن والأدب، وهم ينصبون أنفسهم مصلحين اجتماعيين وهم جهلة أساسًا».

ثم إن لدينا مشكلة كبرى ألا وهى التعليم الأزهرى.

قبل أن ندخل إلى هذه المساحة نروى قصة «الفتى الأزهرى» صلاح فضل.

يقول: «تلقيت جرعة وافية من اللقاح الدينى فى طفولتى وشبابى، فقد نشأت لأسرة تعيش فى الريف بدلتا مصر، لكن أربابها يعتزون بأنهم طيلة أجداد تمتد إلى سبعة قد تخرجوا فى الأزهر الشريف، فكان جدى المباشر الذى تربيت على يده إمام القرية ومأذونها وشيخها المقدم، وقد حصل على شهادة العالمية من الأزهر وترتيبه الأول... وعندما توُفى أبى بمرض التيفويد، وهو شاب فى السنة النهائية فى تخصص القضاء الشرعى، نذرنى جدى للدراسة عوضًا عن أبى فى الأزهر وقد تقبلت على مضض شديد.. كنت أريد الاستمرار فى المدرسة المدنية وأكره لبس العمامة».

كان أن حصل على الثانوية الأزهرية بأعلى التقديرات فى الجمهورية مما أتاح له دخول كلية دار العلوم فى جامعة القاهرة فخلع إلى الأبد بقايا الزى الأزهرى الذى لم يكن ملتزمًا به أصلًا.

يقول: عندما دخلت المعاهد الأزهرية فى الخمسينيات كان يوجد وقتها ٥ معاهد أزهرية بالقاهرة والإسكندرية وطنطا والزقازيق وأسيوط، وفى كل معهد ألف طالب، أى ٥ آلاف طالب مجهزون للدخول فى الكليات الشرعية وهى ٣ كليات، أصول الدين، والشريعة، واللغة العربية، ومن يهرب منهم يذهب لكلية دار العلوم جامعة القاهرة كما حدث معى، لكن الآن أصبح هناك ما لا يقل عن ١٥ ألف معهد تخرج مليون طالب.. نحن لا نريد مليون متخصص فى الدين.. ماذا نفعل بهؤلاء؟.. نحن بحاجة لمليون متخصص فى الكهرباء والصناعة والزراعة والحرف والفنون.. للأسف تخرج لنا مليون متخصص فى الدين لينصحوا الآخرين وفى الحقيقة لا ضرورة لهم.. لقد أدى الأمر لانشطار العقل المصرى، ولا يوجد بلد عربى آخر به ظاهرة التعليم الدينى والمدنى».

هو يرجع تفاقم التعليم الدينى فى مصر إلى غباء وانتهازية الأغنياء المصريين، ويوضح: «كل من يتاجر فى الدجاج الفاسد ويسمم الناس يكفر عن ذنبه ببناء معهد دينى.. راقصة تكسب ربحها من جسدها تبنى معهدًا دينيًا.. شخص يدس السموم فى الزراعة ثم يبنى معهدًا دينيًا.. ليس كلهم سيئى النية بالطبع.. نعم نحن بحاجة لوجود كليات دينية لكن يخصص لها من بين خريجى المدارس المدنية ممن يشعرون بالرغبة فى التعليم الدينى، ولا بد أن يكونوا ذوى عقول نابهة ومتفوقة، فلا نخصص للتعليم الدينى أغبياء البشر ولا المتخلفين عقليًا بل أذكى الناس كما نخصص أذكى الناس للمشرعين الذين يدخلون كليات الحقوق».

ما الحل؟
يجيب: «لابد أن تقتصر كليات جامعة الأزهر على كليات أصول الدين، وكلية للدعوة الإسلامية.. لا نحتاج إلى ١٥ ألف معهد دينى إطلاقًا، ولا يجب أن نخرج مليون شاب بنصف تعليم دينى ونصف تعليم مدنى.. هذا خلل فى بنية المجتمع لابد من تصويبه عبر الدمج بين التعليمين الحكومى والأزهرى، بما يزيد من الجرعة المدنية فى التعليم الدينى».

القضية واضحة بالنسبة لصلاح فضل: «المجتمع المصرى يعانى من تفاقم التعليم الدينى، وانفراده بجماعات من الشباب.. تفاقم التعليم الدينى خطر على المجتمع لابد من مواجهته الآن».

غير أن هذه الرغبة فى تقليص دور رجال الدين والتململ من التعليم الأزهرى تكون متناقضة مع التمترس خلف الأزهر حينما صعد الإسلاميون بعد ٢٥ يناير، ويفسر صلاح فضل ذلك بقوله: «هذه مناورات سياسية مرتبطة بوقتها، لكن الاستراتيجية العامة تختلف عن المناورات السياسية فى أوقات معينة».

يقول: «ليس هناك أى تناقض، وأعتقد أن الأداة الدينية لا بد من دعمها بمثقفين وطلاب أذكياء وإيفاد بعثات منهم لدراسة الفلسفة والأديان فى الخارج، لأن الشيوخ الذين يتسع وعيهم الحضارى والفكرى لاستيعاب متطلبات العصر وتكييف الأمور الدينية للتوافق معها لا بد أن يكونوا قد احتكوا بثقافات أخرى.. شيوخ الأزهر العظماء احتكوا بثقافات أخرى، أما المنغلقون منهم فهم من لم يحتكوا بثقافات أخرى».

***

سألت صلاح فضل بشكل واضح: هل نحتاج إلى الأزهر لتجديد الخطاب الدينى؟

وقد أجاب بصراحة: «لا.. الذهاب إلى الأزهر كانت له ظروف تاريخية وقد دعيت وسط آخرين واستطعنا أن ننجز وثيقة مدنية الدولة وكانت إنجازًا عظيمًا، كما استطعنا أن ننجز وثيقة الحريات وكانت إنجازًا عظيمًا أيضًا، وأعتقد أن كثيرًا من شيوخ الأزهر لم يقرأوا هاتين الوثيقتين وصدقوا عليها مجاراة للتيار الذى كان سائدًا بعد الثورة.. الإخوان والسلفيون انتصروا فى الانتخابات فعمدوا إلى كبت المرأة وتقليص حقوقها فأعددنا وثيقة حقوق المرأة لكن قوتهم الطاغية وضغطهم على الأزهر منع المؤسسة من إصدار الوثيقة».

لكن هل هؤلاء أقوى من الإمام فى بيته؟
يقول: «عظيم التقدير لفضيلة الإمام شخصيًا، لكن الأزهر كمؤسسة التيار الرجعى المحافظ الذى يؤمن بالتدين الشكلى ويتعبد فى النصوص القديمة ويستبعد العقل ويؤثر عليه، النقل هو الغالب.. الإمام كان جادًا لكن المحافظين صوتهم دائما يغلب على المجددين فى أى جماعة.. كان جريئًا فى كثير من المواقف ثم كف عن ذلك ولا أعرف لماذا».

وهذا ما حدث فى وثيقة المرأة: «ما أفهمه أنه اضطر للخضوع لهم مجاراة لمن معه».
وعلى نفس الخط كان مصير وثيقة تجديد الخطاب الدينى، فقد منع المسيطرون على مشيخة الأزهر صدورها فهم - كما يقول- يرون أن فى هذا انتقاص من سطوتهم، وكأن سطوتهم تتلخص فى أن يمتلكوا حق تكفير البشر وبيع الجنة والنار مثل الكهنوت المسيحى فى العصور الوسطى، وهى سلطات غير منطقية.

يقول: «أى محاولة للتجديد يعلنون أن هناك حربًا على الأزهر.. أى حرب؟.. الأزهر مؤسسة تعليمية لابد أن تعيد تشكيل ذاتها طبقًا لتحديات ومتطلبات العصر مثل المؤسسات التعليمية الأخرى الفاشلة إلى أقصى الحدود».

لا يرى صلاح فضل أى أمل فى صدور وثيقة تجديد الخطاب الدينى: «لا أمل فى ذلك، وأظن أن الأحداث تجاوزتها، وفى رأيى الآن أن ما نحن بحاجة إليه هى مجموعة من القوانين الضابطة وليست الأفكار الاسترشادية.. هذه القوانين لا تعنى منع الفتوى كما يقولون، فالفتوى فى الأمور الشخصية والدينية التى لا يترتب عليها ضرر بالمجتمع يفتون فيها كما يشاءون، لكن أى فتوى يترتب عليها إلحاق ضرر بمواطنين، خاصة فتاوى التكفير لا بد أن تعاقب بقانون الجنايات، فهذا تحريض على القتل والسرقة لأنه يستحل أموال الآخرين، فمن قتلوا فى أتوبيس المنيا سرقوهم فى البداية على أساس أنهم مسيحيون وأموالهم حلال».

وهذه قضية تعيدنا إلى مناهج الأزهر التى تحرض أيضًا على العنف.
يقول: «مناهج التعليم العام والأزهرى كلها بحاجة إلى انقلاب جذرى، وقد حدثت مناقشات بهذا الخصوص أثناء اجتماعات الأزهر والمثقفين، وكانت هناك لجان تعمل لتنقية المناهج والكتب لكن التركة أسوأ وأضخم من أن تتغير هكذا».

ولا يمكن أن نتغافل عن سطوة الجماعات الدينية على الأزهر.
يقول: «الإسلاميون انتصروا عندما جعلوا المؤسسة الأزهرية تفتى بأن الحجاب فريضة، وكأن علماء الأزهر، الذين عاشوا منذ عام ١٩٢٠ وشهدوا ثورات هدى شعراوى والشيخ محمد عبده وقاسم أمين التى انتهت بدخول مصر عصر السفور وكانت زوجاتهم وبناتهم يلبسن ملابس مدنية طبيعية تتفاوت فى الوقار والحشمة، كانوا خارجين عن الدين حتى جاءت المملكة العربية السعودية بالرشاوى التى دفعتها للممثلات أولًا، والمعونات الاقتصادية التى صرفتها لطالبات الجامعات لكى يفرضوا الحجاب على المرأة المصرية بحجة أنه فريضة، وكان هذا الحجاب إعلانًا للسيطرة الأيديولوجية للوهابية وللإخوان المسلمين والسلفيين، فقد زرعوا فى يقين الرجل المصرى والمرأة المصرية أن التدين يعنى الحجاب، وأن الأخلاق تعنى الحجاب، منذ ذلك التاريخ وقد غيب المصريون عقولهم وفقدوا تجربتهم الحضارية التى عاشوا فيها ثلاثة أجيال كاملة».

قلت له: أليس فى ذلك شىء من الغلو العلمانى؟
يقول: «إطلاقًا.. هم أى شىء يعارضونه يصفونه بالعلمانية، والعلمانية فى تقديرى فصل السياسة عن الدين، وليست الإلحاد، أو الكفر، ولا مستقبل لأى دولة إن لم تفصل الدين عن السياسة.. خلط السياسة بالدين يفسد الدين ويفسد السياسة، وتجربة سنة الإخوان المسلمين كانت كافية لإقناعنا بذلك، وإذا كانت هذه هى العلمانية فلتحيا العلمانية».

يضيف: «الدول تدار بالسياسة لا بالعقائد، فالعقائد شأن شخصى، أما المعاملات فتدار بالقانون.. من الذى يتدخل بين الإنسان وربه؟.. لا حق لأحد، الحاكم لا يحكم باسم الله بل باسم الشعب، الذى يوليه ليس الله بل الناخبون».

***

توقفت مع الدكتور صلاح فضل أمام قانون الأزهر لـ«مكافحة الكراهية والعنف باسم الدين»، الذى قال الإمام الأكبر إنه سلم نسخة منه إلى مؤسسة الرئاسة.

لدى الرجل ملاحظات مهمة على المشروع كان أولاها تضمنه مواد شديدة التعميم والتجريد تتسع عند التطبيق لتقييد جميع الحريات الأساسية.

يقول: «بدلًا من تجريم عمليات التكفير العشوائى عمد القانون إلى تحريم وتجريم الاحتجاج بحرية الرأى والتعبير ليرهب كل محاولات الفكر النقدى الضرورى ويحارب حرية النشر والإعلام والإبداع.. كأن الأمر محاولة للارتداد بنا إلى منطق العصور الوسطى فى مصادرة حق الناس والمفكرين والمبدعين فى التأمل وتطوير المفاهيم المتجمدة باسم الدين التى تقع فى منطقة الخرافة والأسطورة السابقة على الأديان».

ويشير هنا إلى المادة الخاصة بـ«منع التطاول على الذات الإلهية والأنبياء والمرسلين والكتب السماوية تصريحًا أو تعريضًا أو مساسًا أو سخرية»، ويتساءل: «من الذى يفسر لنا أبعاد كلمة التطاول هنا؟.. بوسع أى باحث أن يعتبر مجرد مناقشة مشكلة الذات والصفات أو التقدم أو الحداثة أو أى بحث عن التاريخ الموثق للأنبياء والرسل فى الحفريات والوثائق أو غير ذلك من القضايا التى تمتلئ بها كتب علم الكلام وفلسفة الإلهيات والنبوات من قبيل التطاول لو تعرضت لرأى لا يروق له».

يقول: «هذه محاولة لسد منافذ الفكر العلمى والتأويل الدينى والأبحاث المجتهدة فى الفلسفة، وغلق الباب أمام مسألة مراجعة الثوابت طبقًا لتطورات العلم والعقل والمعرفة».

هو يحذر من أن «يترتب على هذا الحظر والتحريم منع أى تشكيك فى مفاهيم الجهاد ودار الحرب والإسلام وإباحة القتل وسفك الدماء، والحث عليها باسم الدين كما تفعل الجماعات الإرهابية لأنها من المسلمات الدينية عندهم».

ثم إن التوسع فى نصوص الحظر على غرار «لا يجوز طرح المسائل العقائدية محل الخلاف أو التعارض للنقاش العلنى فى وسائل الإعلام» و«حظر امتهان الأديان أو التعدى على أى من الكتب السماوية بالتغيير أو الإتلاف أو التدنيس»، و«حظر نشر الصور والحوارات والمواد الإعلانية إذا كانت تحض على الكراهية أو تعمقها»، يثير التساؤلات، لأنها كلمات مطاطة غير محددة تستخدم عادة للقمع والتضييق وخفض سقف الحريات ووضعها تحت وصاية الرقباء ومفاهيم رجال الدين المتعصبة والمحافظة بحكم طبيعتها وتقاليدها.

يقول: «المجتمعات الإنسانية تتجه إلى معالجة قضايا الرأى بمزيد من الحريات لا بالحظر والمنع، مع تجريم صريح لدعوات العنف والحض عليه، والمواد الخاصة بالتمييز الدينى أو العرقى أو الطائفى أو النوعى أو غيره من أشكال التمييز منصوص عليها بقوة فى الدستور ومشروع قانون مكافحة الكراهية يناقض المبادئ الدستورية الأساسية فى روحه وصياغاته، بل يناقض الوثيقة التى سبق للأزهر الشريف نفسه أن أقرها وأعلنها باسم وثيقة الحريات الأساسية».
***

انتقلت مع صلاح فضل للحديث عن الحرب على الإرهاب.
يقول: «نجاحنا فى القضاء على التطرف يتوقف على استراتيجية المواجهة، لابد من الموازنة بين الأمن والحريات وتعزيز الديمقراطية.. الضمان الوحيد للمستقبل أن تكون هناك حريات وديمقراطية وتعليم جيد وثقافة جيدة والاقتصاد بالطبع شىء أساسى، ولابد من جس نبض الشارع المصرى فى المسألة الاقتصادية ودراسة تأثير قرارات الإصلاح على الطبقتين الفقيرة والمعدمة، منعًا لاستغلالهما من قبل التيارات التى كانت تستغل الشارع المصرى من قبل».

ولصلاح فضل تفسيره الخاص لمسألة انتشار التنظيمات الإرهابية: «هذا نشاط مخابراتى أجنبى.. المسألة لم تعد مجرد نزعة تطرف دينى.. هذه النزعة موجودة لكن تستغل الآن بأكبر من حجمها ألف مرة.. تستغل لحشو الرءوس وجعلها قنابل متفجرة وتوجيهها بالمال والخطط والبرامج والتسليح وغير ذلك لكى تهدم فى الدول.. المستفيد الوحيد من حركة الإرهاب الآن إسرائيل ومن يناصرها فهم من خلقوا القاعدة، وزعماء داعش ضباط موساد، ولابد أن نعرف ذلك، فهذه حرب إسرائيلية ولا أعفى أجهزة المخابرات البريطانية على الإطلاق، فإن لم تكن مشاركة فهى متواطئة.. إذا نظرنا سنجد أن من كانوا يهددون إسرائيل (العراق وسوريا وليبيا واليمن ولبنان) انتهى أمرهم، ومصر لولا لطف الله لكانت قسمت لدويلات.. من صاحب المصلحة فى تدمير الدولة المصرية؟.. الإجابة هى إسرائيل».

وبناء على هذه الرؤية فإن «المشكلة ليست فى الفكر الدينى بل فى التنظيمات السرية المرتبطة بأجهزة المخابرات، ومقاومتها لا تكون بالشرطة بل بالمعلومات وعمليات الاستخبارات، ثم بتجفيف المنابع الفكرية».

وقد اختلفت كثيرًا مع صلاح فضل فى قضية ارتباط التنظيمات الإرهابية بأجهزة استخبارات غربية، وبكون زعماء داعش ضباطًا بالموساد، بل فى طبيعة العلاقات مع إسرائيل وموقف تل أبيب من القاهرة.

وقد رأيت ما قاله مناقضًا لحديثه الأول، فالانحدار الفكرى الذى تحدث عنه والتردى فى أحوال التعليم وشيوع الفكر المتطرف كلها مقدمات لظهور مجموعات عنيفة تتخذ من الدين ستارًا بما لا يحتاج إلى «جرعات منشطة» من استخبارات غربية أو غيرها، بل إن المؤكد أن هذه ظاهرة ابنة مجتمعاتنا.

لنصل إلى المحطة الأخيرة.

سألته: كيف يكون المخرج؟

بكلمة واحدة رد: التعليم.

مجددًا يخاطب الرئيس: «يا سيادة الرئيس: لا تتردد فى أن تجعل التعليم مشروع مصر القومى الأول حتى يضعك التاريخ فى مكان يناسب إخلاصك وجهدك ويتوازى مع إنجازك العظيم فى إنقاذ مصر من المصير الأسود فى السنة السوداء عندما سقطت البلاد ضحية بين مخالب الفاشية الدينية».

يقول: «يجب أن توجه كل أموال الدعم لبناء المدارس، ورفع مستوى التعليم، وإدراك أن هذا الشعب الذكى سيتحمل من أجل أبنائه ومن أجل الجيل التالى.. الشخص الفقير الذى ينفق على أولاده كى يعلمهم حتى ينتقلوا من الطبقة المحرومة المسحوقة إذا ضمن أن التعليم سيجعل مستقبل أبنائه أفضل مقابل أن يفقد بطاقته التموينية أو أن يدفع ثمن الكهرباء والمياه والغاز بالسعر الحقيقى سوف يضحى بذلك.. الأب يمكن أن يجوع هو والأم مقابل أن يجدا تعليمًا جيدًا حقيقيًا لا تعليمًا مغشوشًا كالذى نقدمه الآن، فالمؤسسة التعليمية الآن هدفها منح شهادات صورية لمن لا يستحق دون أن يتعلم شيئًا.. بالطبع هناك بعض الاستثناءات فبعض المراكز العلمية المصرية تكافح لكى تحتفظ بقيمتها ومصداقيتها».

وعلى الرغم من رومانسية الفكرة فإن صاحبنا لا يزال متمسكًا بها.
يقول: «يحسب للحكومة أنها تواجه مشكلة الإسكان بطريقة جذرية أفضل مما كان قبل ذلك، ويحسب لها أنها تؤسس بنية تحتية جيدة بشبكة الطرق لكن لا تقل أهمية التعليم عن ذلك، ولا مبرر على الإطلاق لجعل التعليم مسألة هامشية أو فى الدرجة الثانية.. هذا سوء تقدير حقيقى.. أى تقاعس عن تنفيذ خطة النمو الاجتماعى والاقتصادى المنصوص عليها فى الدستور، خاصة فيما يتعلق بميزانية التعليم، تقصير فى حق مصر.. التعليم فى مصر يتطلب خطوات جادة وجهودًا مخلصة للارتقاء به وتنظيم مستوياته».

ثم إن تجديد الخطاب الدينى يتطلب إعادة نظر جذرية فى نظم التعليم، والسعى لتوحيد مكونات العقل ودعائم الشخصية المصرية بقدر الإمكان، وذلك بعقد الندوات وإجراء البحوث واقتراح التشريعات التى تهدف إلى تخفيف حدة الانفصام بين طرائق التعليم المتباعدة فى المعاهد الدينية والمدارس المدنية والتعليم الأجنبى، فكل منها يخرج عقلًا مختلفًا جدًا، ولابد من تقريب المسافات لضمان قدر من الاتساق بينها والتناغم بين مكوناتها الأساسية فى اللغة والتفكير العلمى والثقافة بتأسيس قواسم مشتركة بينها، تحافظ على الهوية الوطنية وتطلق طاقات الإبداع وترسخ القيم الروحية مع الانفتاح على تقنيات العصر وأدوات النجاح فيه.

هل نختتم حديثنا؟
يقول: «عندما يصبح التعليم أولوية مثل بناء الجيش وتسليحه نكون قد شرعنا فى اقتحام باب المستقبل.. غير ذلك سنظل فى المؤخرة».

تنوية هام: الموقع غير مسئول عن صحة أو مصدقية أي خبر يتم نشره نقلاً عن مصادر صحفية أخرى، ومن ثم لا يتحمل أي مسئولية قانونية أو أدبية وإنما يتحملها المصدر الرئيسى للخبر. والموقع يقوم فقط بنقل ما يتم تداولة فى الأوساط الإعلامية المصرية والعالمية لتقديم خدمة إخبارية متكاملة.