الأقباط متحدون - «المعتصم والثورات»
  • ١٠:٠٤
  • السبت , ٦ مايو ٢٠١٧
English version

«المعتصم والثورات»

مقالات مختارة | بقلم:الأنبا إرميا

٢٣: ٠٩ م +02:00 EET

السبت ٦ مايو ٢٠١٧

الأنبا إرميا
الأنبا إرميا

 تحدثنا فى المقالة السابقة عن واليَى «مِصر»: «عَبْدَوَيْهِ بن جَبَلة»، و«عيسى بن منصور» الذى كان نائبًا عن «المعتصم» لتشهد «مِصر» أحد الأزمنة العصيبة التى مرت بها: فبسبب سوء سيرته قام عليه المِصريُّون وقووا عليه وطردوه من «الفسطاط»، فجاءته معونة «الأفشِين» (لقب فارسى يُطلق على من يحكم «أُشْرُوسَنَّة»)، وازداد القتال واشتدت الحُروب فى بقاع متعددة من أرض الكنانة، إلى أن قدِم الخليفة «المأمون» إليها فقضَّى تسعة وأربعين يومًا حتى استتبت الأمور له، ثم رحل بعد أن ولّى عليها «كَيدر» الذى مات وهو يستعد لحرب الخارجين عليه. شهِد ذلك الزمان وفاة الخليفة «المأمون» ليتولى أمور الحكم من بعده أخوه «المعتصم».

 
الخليفة «المعتصم» (218- 227هـ) (833- 842م)
 
هو «أبو إسحاق مُحمد بن الرشيد». وكان يصغر «المأمون» بتسعة أعوام. وقد اتسم بالشجاعة والإقدام والحزم مع بعد النظر، فأحبه «المأمون» وحسِبه أهلاً للخلافة من بعده فجعله ولى عهده بدلاً من ابنه «العباس». وعندما وصل خبر موت «المأمون» إلى الجند ثاروا وانتخبوا ابنه «العباس» للحكم، إذ كان «العباس» محبوبًا حبًّا شديدًَا منهم ومن القبائل العربية، لكن «العباس» اعتذر عن قَبول المنصب عملاً بتوصيه أبيه وسارع بمبايعة عمه «المعتصم». وهكذا بايع الجميع «المعتصم» وآلت إليه أمور الحكم من بعد أخيه «المأمون». وقد ذكر المؤرخون أن «المعتصم» أسرع بالعودة إلى «بغداد» بعد أن هدم ما بُنى فى «طُِوانة» وحمل ما بها من سلاح وأحرق ما بقِى وأعاد ساكنيها إلى بلادهم الأصلية.
 
حكمه
 
اتبع «المعتصم» سياسة أخيه «المأمون»، فقد قدَّم «الأتراك» من الجنود على «العرب» حتى امتلأت «بغداد» بهم، وأعطى الناس حرية التحدث بمختلِف الأمور، ولكنه تشدد فى بعض الجوانب العقائدية، وعاقب مخالفيه بالتعذيب والقتل، ومع ذلك حث على الحركة العلمية والفلسفية.
 
جيش «الأتراك»
 
ذكر المؤرخون أن «المعتصم» استقدم جيش «الأتراك» من «المماليك» من أواسط «آسيا» و«اليمن» و«مِصر»، وأنهم كانوا يُعتبرون حرس الخليفة الخاص، مَثلهم مَثل «الحرس البرايتورى»: الحرس الشخصى المسؤول عن حماية الأباطرة الرومان فى «روما» قديمًا. وكان لهم نُفوذ وشأن كبير فى الدولة، فيقول المؤرخون: «وكان لهؤلاء «الأتراك» شأن كبير فى تصريف أمور الدولة، وبلغوا من الجاه وعُلو المكانة مبلغًا عظيمًا، واحتقروا «العرب» و«الفرس» احتقارًا شديدًا.
 
كان لإكثار «المعتصم» من الجنود «الأتراك» أثر سلبى فى «بغداد»، إذ مع تكاثرهم بدأوا فى الاعتداءات على أهل المدينة ونسائهم ما أثار حفيظة البغداديِّين فبدأوا فى الاشتباك مع أولئك «الأتراك» فى معارك دامية. كذلك ارتفعت الأصوات البغدادية محتجةً ومتشتكيةً على ما يأتيه جنود «المعتصم» من «الأتراك»، فقرر الخليفة الانتقال من «بغداد» إلى مدينة «سامَرّاء» هو وجُنوده لتصبح عاصمةً للخلافة العباسية قُرابة خمسين عامًا، وغيّر «المعتصم» اسم المدينة من «سامَرّاء» إلى «سُرَّ مَن رأى». ومع أن الأمن قد عاد واستتبّ وعمت السكينة «بغداد»، فإن انتقال الخليفة مع جنوده قد أثر سلبًا فيه إذ أصبحوا هم الأقربون إليه وأكثر محيطيه تأثيرًا فى قراراته فازدادت شَوكتهم وعظُمت مكانتهم وهو أمر قد أثر فى الدولة العباسية فيما بعد.
 
«المعتصم» والثورات:
 
(1) «الزُّط»
 
تحدثنا فى مقالة سابقة عن ثورة القبائل الهندية «الزُّط» فى أيام الخليفة «المأمون» الذى مات قبل أن يقضى عليها، فاهتم «المعتصم» بأمرها، خاصة بعد أن ملأت البلاد فسادًا وكمَنت للعابرين فى الطريق إلى مدينة «البصرة» وروعت الآمنين. فإنه فى عام 219هـ (834م)، أرسل «المعتصم» قائده «عُجَيف بن عَنْبَسة» لمقاتلتهم، فخرج إليهم وحاصرهم، واستمرت الحرب بينه وبينهم تسعة أشهر تقريبًا حتى استسلموا بعد قتل عدد كبير منهم. وقد أخذ القائد «عُجَيف» أفراد تلك القبائل- وكانوا قرابة سبعة وعشرين ألفًا- إلى مقر الخلافة ثم «بغداد» وعدد من المدن، حتى انتهى بهم الأمر إلى «عَين زَرْبة» حيث أقاموا، حتى تشتتوا فيما بعد فى «أوروبا».
 
(2) «بابَك الخُرَّمى»
 
كان أمر «بابَك» قد عظُم- كما ذكرنا من قبل- فى «أَذْرَبَيجان»، وقد أرسل «المأمون» عددًا من قواده للقضاء عليه، لكنهم لم يتمكنوا فاهتم «المعتصم» بأمره وأرسل إليه أحد قواده «الأتراك» الذى اشتُهر بالشجاعة والإقدام وهو الأفشِين «حَيدر بن كاوُس». خرج «حَيدر» على رأس جيش كبير، وأقام مع جنوده فى مدينة «بَرْزَند» فرمم حصونها واستعد لمقاتلة «بابَك»، وقاتله قتالاً عنيفًا استمر عامين حتى انتصر عليه عام 232هـ (837م). هرب «بابَك» إلى «أرمينيا» حيث أُلقى القبض عليه وسُلم «للأفشين» الذى أحضره هو وأخاه «عبدالله» إلى الخليفة فأمر بقتلهما. وقد استُقبل «الأفشِين» استقبالاً عظيمًا من «المعتصم» وكبار رجال الدولة إذ قضى على ثورة «بابَك» وعلى شره الذى استمر عشرين عامًا، ويذكر المؤرخون: ويقال إن «بابَك» قد تغلب على ستة من القواد العباسيِّين، وأنه ذبح 255 ألفًا، وحمل 3300 رجل و7600 امرأةً أُسَراء، وظلوا فى قبضته حتى خلصهم «الأفشِين» من الأسر.
 
(3) «أبى حرب المبرقع»
 
قام «أبوحرب المبرقع اليمانى» بثورة على الخليفة، بعد أن دخل إلى منزله أحد الجنود «الأتراك» فى الوقت الذى كان غائبًا، وحين منعته زوجة «أبى حرب» ضربها بسوط على يدها، ولما قدِم زوجها قصت عليه ما كان من أمر الجندى فحمل سيفه وقتل المعتدى، ثم هرب إلى أحد جبال «الأردن» ولبِس برقعًا على وجهه لئلا يُكتشف أمره. قام «أبوحرب» بدعوة الناس إلى الثورة، فانضم إليه عدد من رؤساء «اليمانية» وتعظم شأنه، وادعى أنه «السُّفيانى»، ثم ادعى النبوة، فأرسل إليه «المعتصم» جيشًا تغلب عليه وحُمل إليه أسيرًا.
 
«مؤامرة»
 
كان لتقريب «المعتصم» للجنود «الأتراك» وإهماله «العرب» عديد من النتائج السلبية- كما ذكرنا، منها المؤامرة التى خُططت لقتل الخليفة: فقد غضِب «عُجَيف بن عَنْبَسة»- وهو الذى اشتُهر بالقوة والبسالة والشجاعة وبتغلبه على «الزُّط» و«الروم»- من الخليفة بسبب تقديمه لقواد الترك وجنودهم عليه وعلى جنده، فدبر مؤامرة لقتل «المعتصم»، إذ أقنع «العباس بن المأمون» أن يقبل الخلافة، فانضم إليه كثير من قوات العرب مع بعض «الأتراك» الناقمين، واتفقوا على اغتيال «المعتصم» مع قائدَيه «الأفشِين» و«أشناس» بعد سقوط مدينة الروم «عَمورية»، فى حين هو يقوم بتوزيع الغنائم على الجنود. إلا أن المؤامرة لم يُكتب لها النجاح إذ عرَف الخليفة بأمرها، فهاجم المتآمرين وقتل «عُجَيفًا» ومن معه، كما سلَّم «العباس» إلى «الأفشنين» فقتله. ويقول المؤرخون إن من نتائج هذه المؤامرة أن أبعد الخليفة عنه قواد «العرب» و«الفرس» وقرَّب بالأكثر قواد «الأتراك» إليه لحمايته، ما كان له عواقب جسيمة فيما بعد.
 
«خيانة»
 
فى عام 225هـ (839م)، قام «مازيار» أحد أمراء «طَبَرِستان» بثورة على الخلافة إذ كان يتنافس هو و«عبدالله بن طاهر» أمير «خُراسان»، فكانت هى الفرصة التى انتظرها «الأفشِين» طويلاً لإبعاد «عبدالله» عن ولاية الشرق وأن يحل محله، فقام الأفشِين بتشجيع «مازيار» على الاستمرار فى ثورته أملاً فى أن يُرسله «المعتصم» لمحاربته: فإذا انتصر عليه ولّاه «خُراسان» بدلاً من «عبدالله». لكن الأمور ليست دائمًا تسير بحسب هوى الأشخاص، فقد ترك «المعتصم» أمر محاربة الثائر لـ«عبدالله» الذى استطاع بعد معاونة الجيوش الأخرى أن يجبر الثائر على التسليم وأرسله إلى الخليفة. أقر «مازيار» بتحريض «الأفشِين» له وقدّم المراسلات التى جرت بينهما إلى «المعتصم» فغضِب وأمر بالقبض على «الأفشِين» وسجْنه حتى مات فى سَجنه عام 226هـ (840م)، فيذكر المؤرخون: وبعد محاكمة طويلة أعيد «الأفشِين» إلى سَجنه، ومات فى سَجنه 226هـ على أثر أكلة فاكهة أُرسلت إليه من قِبل الخليفة...»، و... وعن «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى...!
 
* الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسىّ
نقلا عن المصرى اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع