الأقباط متحدون - اوربا والتحولات الانتخابية 2017 (1)
  • ٠٩:٢٥
  • الأحد , ٥ مارس ٢٠١٧
English version

اوربا والتحولات الانتخابية 2017 (1)

مقالات مختارة | بقلم : دكتور جهاد عوده

٣١: ٠٩ ص +02:00 EET

الأحد ٥ مارس ٢٠١٧

جهاد عوده
جهاد عوده

 بدا الهاجس الأكبر لدى الرئيس الأميركي باراك أوباما، خلال زيارته الاخيره لأوروبا فى نوفمبر 2016، الحث على الحفاظ على مسار العولمة في وجه “الحركات الشعبوية”، التي توصف بالانعزالية، والتي بدأت تظهر في الولايات المتحدة متمثلة في انتخاب دونالد ترامب، وأيضاً في دول أوروبية عدة، مثل فرنسا وبريطانيا.  وفي هذا السياق، جاءت دعوة أوباما والمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، أمس، إلى إبرام اتفاق التجارة الحرة عبر الأطلسي، وتأكيدهما أنه لا يمكن العودة إلى حقبة ما قبل العولمة. ووصل أوباما إلى برلين، مساء أمس، حيث التقى ميركل في آخر زيارة له لأوروبا، من أجل طمأنة الحلفاء على عدم تغيّر السياسة الأميركية تجاههم في ظل إدارة ترامب. ووصف أوباما، الآتي من أثينا، ميركل بأنها “على الأرجح أقرب شركائي الدوليين خلال السنوات الثماني الماضية”. وخلال زيارته برلين، التي يغادرها مساء غد، يلتقي أوباما قادة بريطانيا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا. وفي الوقت الذي يدعو فيه ترامب إلى إلغاء الاتفاقات التجارية القائمة، وإلى إقامة نظام حمائي، نشر أوباما وميركل مقالاً مشتركاً في مجلة الأعمال “فرشافتوتش”، طالبا فيه بسوق اقتصادية ذات مسؤولية اجتماعية، وبعلاقات تجارية عالمية حرّة، وعلاقات أوثق بين الولايات المتحدة وألمانيا. وكتبا في المقال الذي سيصدر كاملاً غداً: “لن تكون هناك عودة إلى عالم ما قبل العولمة”. كذلك أكدا أن على الألمان والأميركيين أن يغتنموا الفرصة “لإعادة صياغة العولمة لتتماشى مع قيمنا وأفكارنا”. وكان أوباما قد أكد في خطاب ألقاه في ختام محطته اليونانية في جولته الأوروبية ، أن انعدام المساواة في اقتصاد معولم، يشكل أحد أكبر التحديات بالنسبة إلى الديموقراطيات في العالم. كذلك أعرب عن ثقته بأن التزام الولايات المتحدة سيتواصل تجاه “حلف شمال الأطلسي”. وقال أوباما، في كلمة ألقاها في العاصمة اليونانية أثينا: “اليوم حلف شمال الأطلسي، أعظم حلف في العالم، لا يزال قوياً ومستعداً، كما هي الحال دائماً”.

 
الشعبويون  يقفون ضد المبادئ التي تقوم عليها الديمقراطيات الغربية في مختلف الدول الأوروبية. ففي  يونيو، أفضى الاستفتاء الذي أجرته المملكة المتحدة إلى انسحابها من الاتحاد الأوروبي، وهو ما يعد واحدا من أهم الانتصارات التي حققها القوميون هذه السنة. وتلى هذا الحدث فوز المرشح الجمهوري، دونالد ترامب، بالانتخابات الرئاسية الأمريكية، ليمسك بمقاليد إدارة البيت الأبيض مرشح كان قد أعرب في العديد من المناسبات عن ازدرائه للديمقراطية وانتقاده لمبادئ حرية الصحافة واستقلالية القضاء وسيادة القانون. وفي غمار هذه التناقضات، هلل السياسيون المنتمون إلى اليمين المتطرف والأوتوقراطيون من بودابست وموسكو بفوز ترامب، بينما صعقت الأنظمة الأوروبية بهذا الخبر. وفي ظل الأوضاع الراهنة، تبدوا هذه القوى الديمقراطية الليبرالية، التي برزت في نهاية الحرب الباردة، مهددة من جميع الأطراف ولعل هذا ما ينذر بقرب حلول أيام مظلمة على الأنظمة الديمقراطية ولا سيما الأوروبية منها.  لا أحد يعلم كيف ستكون إدارة ترامب، وما هي السياسة الخارجية التي سيتوخاها، لكن من الواضح أنه ستكون لإدارته العديد من  التداعيات على الدول الأوروبية وحلف الناتو. ولئن كان فوز ترامب حافزا للأحزاب اليمينية المتطرفة لتعزز موقعها في الساحة السياسية وتكسب مزيدا من الجرأة لتتطاول على الأنظمة الديمقراطية، فإن ذلك لا يعني تمكنها من اعتلاء السلطة. أما بالنسبة للشعبويين الذين يمسكون بزمام السلطة أمثال؛ رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، والقائد الفعلي لبولندا، ياروسلاف كاتشينسكي، الذي يتقلد منصب رئيس مجلس إدارة حزب القانون والعدالة، فإن إدارة ترامب ستكون حليفتهم الأولى. ينبغي على الدول الأوروبية أن تجد حلولا جذرية لأزمة الهجرة، وتوسع في نطاق المبادرات الأخيرة لتأمين حدود أوروبا الخارجية
 
 
 
ووفقا لما أدلى به ترامب من تصريحات طيلة حملته الانتخابية، فإنه من الواضح أنه سيطالب الدول الأوروبية بالإنفاق أكثر على المجال العسكري. وتجدر الإشارة إلى أن وجهة نظر ترامب معقولة نوعا ما، لكن إبطال الفوائد المتأتية من ترفيع أوروبا للإنفاق العسكري الدفاعي قد يُقوض من مصداقية حلف الناتو. أمّا بالنسبة للاتحاد الأوروبي، فهو يتعارض في جوهر الأدوار التي يضطلع بها مع ما يدعو ترامب إلى تطبيقه؛ فالاتحاد كمنظمة عابرة للأوطان، تُعنى بتعزيز الترتيبات التجارية متعددة الأطراف وبالتنقل البحري وبسن القوانين البيئية، وتحرص على تطبيق القوانين الدولية. وفي الواقع لم تكن تغريدة ترامب على موقع تويتر، التي أعرب فيها عن مساندته لزعيم حزب الاستقلال، نايجل فاراج، بعد مرور فترة وجيزة على إعلان نتائج استفتاء المملكة المتحدة في حزيران/ يونيو، بالمفاجأة الكبيرة لبعض السياسيين الأوروبيين.
 
كان آخر اختبار مرت به المؤسسات السياسية الأوروبية في الرابع من كانون الأول/ ديسمبر في إيطاليا والنمسا. بالنسبة للانتخابات الرئاسية النمساوية، فقد هزم المرشح ألكسندر فان دير بيلين، المؤيد للاتحاد والزعيم السابق لحزب الخضر، خصمه التابع لحزب الحرية النمساوي اليميني المتطرف، نوربرت هوفر، المعروف بمناهضته للمهاجرين. لكن الأمل لدى الزعماء الأوروبيين لم يدم طويلا، ففي اليوم الذي تلا الإعلان عن نتائج الانتخابات النمساوية، عزم الناخبون الإيطاليون على رفض استفتاء الإصلاح الدستوري، الذي دعا إليه ممثل اليسار المعتدل ورئيس الوزراء، ماتيو رينزي، عقب التصويت على منح الثقة لقيادته. وتبعا لهذه النتائج، أعلن رئيس الوزراء ماتيو رينزي عن استقالته ليترك إيطاليا غارقة في الشكوك السياسية، وفي فترة حرجة تمر فيها البلاد بضغوطات مالية تتعلق بنظامها البنكي وبتراكم الديون السيادية، ناهيك عن أزمة المهاجرين التي تشهدها وصعود حركة شعبوية تدعى بحركة النجوم الخمس. ستكون الانتخابات الوطنية التي ستجرى في كل من فرنسا وألمانيا وهولندا اختبارا سيثبت مدى قدرة الوسطيين على ترجيح كفة موازين القوى السياسية لصالحهم، والتصدي للأحزاب اليمينية المتطرفة، للحيلولة دون تكرار السيناريو النمساوي. وستعقد أول انتخابات في هولندا في مارس، حيث سيتوجه الناخبون الهولنديون إلى صناديق الاقتراع للانتخابات البرلمانية. ومن المرجح أن يتواجه كل من المرشح المناهض للإسلام، غيرت فيلدرز، الذي يقود حزب من أجل الحرية اليميني المتطرف، مع خصمه رئيس الوزراء الحالي، مارك روته، الذي يترأس حزب يميني معتدل. وستلي الانتخابات البرلمانية الهولندية، الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي ستعقد في شهري نيسان/أبريل وأيار/مايو، ليقرر الشعب من هو الرئيس الجديد بعد دورتين انتخابيتين. ومن المتوقع أن تكون زعيمة حزب الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة، مارين لوبان، إحدى أبرز المرشحين في الجولة الأولى، وعلى الأرجح ستكون منافسة لزعيم الحزب الجمهوري اليميني الوسطي، فرانسوا فيون،  في الجولة الأخيرة. مما لا شك فيه أن ميركل تلعب دورا قياديا هاما في هذا المنحى الجديد الذي ستتخذه أوروبا. وستجرى آخر انتخابات برلمانية في سبتمبر في ألمانيا، إذ ستسعى أنجيلا ميركل للفوز بولاية رابعة كمستشارة، ومن المحتمل أن تشهد ألمانيا للمرة الأولى في تاريخها، دخول الحزب اليميني المتطرف، حزب البديل من أجل ألمانيا، البرلمان الاتحادي. وعلى الرغم من فسحة الأمل التي منحها فوز ترامب للقوى الشعبوية في فرنسا وألمانيا وهولندا، فإنه من المرجح أن يكون الحظ الأوفر في الانتخابات القادمة للأحزاب اليمينية الوسطية. فبالنسبة للنظام الحزبي المجزأ في هولندا، يتوجب على اليمين المتطرف أن يُنشأ ائتلافًا حتى يستطيع تولي الحكم، لكن من المحتمل أن تنأى الأحزاب الرئيسية في البلاد عن حزب فيلدرز، وتُتاح الفرصة لروته ليعود إلى منصبه كرئيسٍ لحكومةٍ جديدةٍ متعددة الأطياف. أما بالنسبة لفرنسا، فهناك فرصة كبيرة لفوز لوبان، لكن من المرجح أن الوسطيين سيتكتلون ليكوّنوا ائتلافًا قادر على منافستها في الجولة الثانية من التصويت وعلى عرقلتها. أما في ألمانيا، فإن ميركل تتمتع بمساندة كبيرة شعبيًا وسياسيًا، وذلك مرتبط بما ستؤول إليه الأمور بخصوص أزمة الهجرة في ألمانيا. كما أن بعض التنازلات التي قدمتها ميركل لتكسب ثقة منتقديها، من شأنها أن تزيد من فرص فوز المستشارة بولاية أخرى. قد ينتج عن انتخابات سنة 2017 انحياز ملحوظ لبعض الأحزاب الوسطية الأوروبية نحو اليمين، لكن من المؤكد أنه ستبقى الأنظمة الليبرالية الديمقراطية في القوى الأوروبية على رأس المشهد السياسي. كان ترامب قد أعرب في العديد من المناسبات عن ازدرائه للديمقراطية وانتقاده لمبادئ حرية الصحافة واستقلالية القضاء وسيادة القانون. وعلى الرغم من أن ترامب لن يكون قادرًا على ضمان وصول السياسيين الشعبويين إلى السلطة، فإنه يستطيع دعم نظائره الذين يتقلدون مناصب سيادية. والجدير بالذكر أن ترامب قد دعا المتشددين الموالين لأوربان، الذين حاولت إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما تجنبهم قدر المستطاع على مدى السنوات الخمس الماضية، إلى زيارته في واشنطن. وفي مقابلة صحفية أجرتها إحدى القنوات المجرية في مطلع أيلول/ سبتمبر، مع مستشار حملة ترامب، جيفري غوردون، ادعت القناة أن ترامب يعتبر أوربان “أحد أفضل القادة السياسيين في العالم”. وبعد هذا التصريح، فإن زعماء حزب القانون والعدالة في بولندا، الذي استولى بصفة منافية للدستور على المحكمة الدستورية في البلاد ويتلقى من الاتحاد الأوروبي تهديدات بفرض عقوبات عليه، يتوقعون أن تحتضنهم الإدارة الأمريكية. فضلا عن ذلك، فقد أشاد ترامب مرارًا أثناء حملته الانتخابية بمجهودات القادة المستبدين؛ مشيرا إلى أن الدور الذي تضطلع به الولايات المتحدة لا يتمثل في تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان في الخارج. وبالتالي فإن انفتاح ترامب على أوربان يوحي بأنه سوف يدعم القادة الأوروبيين ذوي الميول الاستبدادية، بدلا من أن يضغط عليهم لاحترام مبادئ الديمقراطية، كما فعلت إدارة أوباما.
 
أما بالنسبة لحلف الناتو، فقد أكد ترامب في مكالمة هاتفية أجراها مع رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي في 29 من نوفمبر 2016،  على أهمية الحلف الذي يجمع كلا من المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية. وعلى الرغم من أن احتمالات تخلي ترامب عن هذا التحالف ضئيلة جدا، فإنه من خلال مساندته للقوى الاستبدادية في العالم، قد ألحق به أضرارا فادحة. ومن المفترض أن تكون المادة الخامسة للدفاع المشترك في حلف الناتو بمثابة الرادع الذي سيحول دون شن خصوم الناتو المحتملين هجمات ضد أحد الدول الأعضاء، لأن إقدام أي منهم على هذه الحركة سيدفع جميع الأعضاء إلى الرد بالمثل.  لكن ترامب يضع هذا الضمان على المحك، لأنه أشار إلى أن الولايات المتحدة لن تدافع سوى عن دول حلف الناتو التي تعهدت بتخصيص اثنين بالمائة على الأقل من الناتج المحلي الإجمالي لنفقات الدفاع. كما أدى تصريح ترامب بأنه يسعى إلى توطيد علاقاته أكثر مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلى زيادة شكوك الحلفاء وزعزعة ثقتهم في الناتو، مستبعدين فكرة أن تمد لهم الولايات المتحدة يد العون في حال حدوث تحرك روسي. سيحتفل الاتحاد الأوروبي في آذار/مارس بالذكرى الستين لمعاهدة روما، التي تقوم عليها الجماعة الأوروبية الاقتصادية، كامتداد لكيان الاتحاد الأوروبي. ومنذ نشأة الاتحاد الأوروبي، دعا مختلف الرؤساء الذين زاولوا إدارة الولايات المتحدة لمبدأ التكامل بين الدول الأوروبية. كما أكد أوباما مرارًا وتكرارًا على أن الوحدة الأوروبية تعود بالمنفعة على مصالح الولايات المتحدة الإستراتيجية. وورد في إحدى تصريحاته أثناء زيارة قام بها إلى اليونان في تشرين الثاني/نوفمبر، أن التكامل الأوروبي هو “واحد من الإنجازات السياسية والاقتصادية الكبرى في التاريخ البشري”. وعلى خلاف أوباما، فإنه سيتعين على زعماء الاتحاد الأوروبي عدم انتظار أي تشجيع بهذا الشأن من قبل دونالد ترامب. بل أكثر من ذلك، ينبغي على القادة الأوروبيين أن يكونوا مستعدين ليشهدوا محاولات لترامب للتفرقة فيما بينهم. وبينما يحتفي الاتحاد الأوروبي بالقيم والسياسات الليبرالية مثل حقوق الإنسان واتفاقيات التبادل التجاري، فإن ترامب يروج إلى عكسها تماما. وفي هذا السياق، فإن وحدة أوروبا القوية التي تسعى جاهدة إلى تعزيز هذه القيم الليبرالية على الصعيد العالمي، ستشكل عقبةَ أمام أجندة ترامب السياسية.
 
 
 
بالإضافة إلى ذلك، فإن التكامل الأوروبي الذي يتجسد في ما يسمى “بالعولمة”، لعله هو ما يدفع كلا من ترامب والشعبويين إلى الوقوف ضده. إذن فإن مساندة ترامب لمسألة الانسحاب البريطاني قد دفعته إلى دعم حزب أوربان وبقية الأحزاب المشككة الأخرى، وإلى السعي إلى توطيد علاقات مع روسيا،  وذلك من أجل ضرب الوحدة الأوروبية. ووفقا لهذه المعطيات، فإنه يتوجب على الزعماء الأوروبيين توقع الأسوأ من الإدارة الأمريكية القادمة.  ستخوض الوحدة الأوروبية امتحانا صعبا في سنوات عهدة ترامب، ففي ظل الأوضاع المتأزمة التي تواجهها أوروبا تزامنا مع المفاوضات حول  احتمال إعادة إحياء أزمة منطقة اليورو في إيطاليا، وأزمة اللاجئين العالقين في الدول الأوروبية، علاوة على العدوان الروسي على الحدود الشرقية، وصعود الأنظمة الاستبدادية في بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، فإنه سيتوجب على  الاتحاد الأوروبي، أيضا التصدي لمخططات الرئيس الأمريكي التي تحرض على تفككه. ومما لا شك فيه فإن ميركل تلعب دورا قياديا هاما في هذا المنحى الجديد الذي ستتخذه أوروبا، لكنها كانت على حق عندما أقرت بأنه “لا يمكن لشخص واحد، حتى لو كان ذو خبرة كبيرة، الأخذ على عاتقه مسؤولية حل جميع المشاكل في العالم”. ستكون الانتخابات الوطنية التي ستجرى في كل من فرنسا وألمانيا وهولندا اختبارا سيثبت مدى قدرة الوسطيين على ترجيح كفة موازين القوى السياسية لصالحهم. إن النصر الذي حققه الرئيس فان دير بيلين في النمسا، وزيادة الدعم الشعبي للاتحاد الأوروبي منذ استفتاء انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد، يبشر بإمكانية صمود الديمقراطيات الليبرالية في أوروبا في وجه الأزمات التي تواجهها. لكن إذا أراد زعماء أوروبا أن يحافظوا على بقاء واستمرارية وحدتهم وأنظمتهم الديمقراطية في عصر الظلمات، ينبغي عليهم أن يمدوا المواطنين برؤية إيجابية لمستقبل المشروع الجماعي والعمل على مضاعفة التزامهم به. قبل كل شيء، يجب عليهم أن يبذلوا مزيدا من الجهد لإنعاش الاقتصاد المتعثر في أوروبا، وتغيير سياسة التقشف والتركيز على تحقيق النمو في مؤشراتهم الاقتصادية.  ينبغي على الدول الأوروبية أن تجد حلولا جذرية لأزمة الهجرة، وتوسع في نطاق المبادرات الأخيرة لتأمين حدود أوروبا الخارجية، مع توفير المزيد من الدعم لتلك الدول التي تتحمل العبء الأكبر بخصوص مسألة إيواء اللاجئين. كما يجب عليهم أن يكثفوا التعاون في مجال الدفاع ليثبتوا للمواطنين مدى فعالية ونجاعة المؤسسات الأوروبية في حمايتهم من التهديدات المشتركة. ويتعين على زعماء الاتحاد الأوروبي أن يقفوا في وجه الشعبويين المشككين في وحدة الاتحاد الأوروبي ويدافعوا عن القيم الديمقراطية التي يقوم عليها الاتحاد.
 
كانت سنة 2015 سنة مروعة لأوروبا بشكل عام وللاتحاد الأوروبي على وجه الخصوص. فقد استُهلّت هذه السنة بالهجوم الإرهابي ضد مجلة “شارلي إبدو” في باريس وانتهت بالهجوم الإرهابي الأكثر فتكا في نفس المدينة. وخلال السنة، كان على الاتحاد الأوروبي إيجاد حل للأزمة الاقتصادية في اليونان، والتي تهدد منطقة اليورو بأكملها. كما اضطر الاتحاد إلى التعامل مع التدفق الهائل للاجئين القادمين من منطقة الشرق الأوسط وغيرها من المناطق التي مزقتها الحرب. ولم تكن سنة 2016 أفضل من التي سبقتها. فقد هزت القارة الأوروبية مزيدا من الهجمات الإرهابية. لكن في المقابل، خفت وطأة أزمة المهاجرين، وذلك لأن الاتحاد الأوروبي استعان بتركيا، البلد الذي يعاني بحد ذاته من عدم الاستقرار. هذا إضافة إلى أنه للمرة الأولى في تاريخه، خسر الاتحاد الأوروبي أحد أعضائه، المملكة المتحدة، نتيجة للاستفتاء الذي سمي “البريكسيت”.
 
ساعدت كل هذه التطورات على دفع الحركات الشعبوية إلى مركز السياسة الأوروبية. فالتهديد الذي يفرضه الإرهاب وموجة المهاجرين من العالم الإسلامي، إلى جانب الاعتقاد السائد أن الاتحاد الأوروبي لا يمثل عاملا مساعدا، بل يمثل عائقا إذا ما تعلق الأمر بمثل هذه الأزمات، مَثلَ العاصفة المثالية من وجهة نظر الشعبويين، خاصة وأن هذه العاصفة عززت مكانة الشعبويين اليمينيين في عدة دول. والجدير بالذكر أن أهم المستفيدين هو رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، الذي استغل المخاوف العامة لما قد ينجر عن معارضة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ومعارضة اعتقادها أنه على أوروبا أن تعتمد على “ثقافة الترحيب”. وفي الوقت نفسه، ساعدت أزمة منطقة اليورو على صعود الشعبويين اليساريين مكافحي سياسة التقشف في اليونان وإسبانيا. لكن على الرغم من أن التهديدات التي استهدفت الأمن والاستقرار الاقتصادي والتي هزت أوروبا في السنوات القليلة الماضية قد تكون حافزا لمزيد انتشار الشعبوية، لكنها لم تنشئها. فأصل الشعبوية يعود لأبعد من ذلك، تحديدا لفترة التحولات الهيكلية في المجتمع الأوروبي وفي السياسة. وقد بدأت هذه التحولات في ستينات القرن الماضي ولأن المهتمين بالشعبوية المعاصرة عادة ما يغفلون عن جذورها التاريخية العميقة، فإن عديد المراقبين يفشلون في تثمين صمود الشعبوية المعاصرة وصمود الأحزاب المبنية على مبادئها. صحيح أن الشعبويين صارعوا من أجل البقاء في السلطة إذا ما تمكنوا من الوصول إليها. لكن العوامل الاجتماعية والسياسية والاعلامية الموجودة في أوروبا الآن أصبحت في صالح الشعبويين أكثر من أي وقت مضى، خاصة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وبهدف التصدي للمد الشعبوي، على الأحزاب الأوروبية الرئيسية ونُخبها أن تستجيب للتحديات ببراعة أكبر من تلك التي لطالما استخدموها في العقود الأخيرة.  كما هو الحال مع كل كلمة تنتهي بالأحرف “ية”، يجب أن نقوم بتعريف كلمة شعبوية: الشعبوية هي الإيديولوجية التي تقسّم المجتمعات إلى مجموعتين متجانستين وعدائتين: “الشعب النقي” و”النخبة الفاسدة”. وهي أيضا الإيديولوجية التي تعتبر أن السياسة يجب أن تكون تعبيرا عن “الإرادة العامة للشعوب”. ومع وجود استثناءات قليلة، لطالما كان هذا النوع من التفكير مهمشا في السياسات الأوروبية طوال القرن التاسع عشر وخلال القرن العشرين أيضا. ويمكن أيضا أن نجد جوانب شعبوية في الحركات الشيوعية والفاشية، خاصة كونها حركات معارضة. لكن مثل هذه الإيديولوجيات (والأنظمة التي احتضنهم) كانت نخبوية بالأساس. في العقود الأولى في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد إجماع واسع، تم تركيز السياسية الأوروبية الغربية على ثلاث قضايا رئيسية: الانحياز للولايات المتحدة خلال الحرب الباردة، والحاجة إلى مزيد من الوحدة السياسية في القارة، وفوائد الحفاظ على دولة قوة ورفاه.  لم يترك الدعم الواسع والعميق لمثل هذه المواقف أي مجال لأي بدائل إيديولوجية بما في ذلك الشعبوية. لكن هذه الإيديولوجية بدأت في ترك بصماتها في ثمانينات القرن الماضي مع ظهور الأحزاب اليمينية المتطرفة مثل الجبهة الوطنية في فرنسا، والتي برزت على الساحة في أعقاب الهجرة الجماعية وارتفاع معدلات البطالة، متعهدة بالعمل على إعادة فرنسا لأمجادها.
 
أما الآن، يتم تمثيل الأحزاب الشعبوية في برلمانات معظم الدول الأوروبية، وأغلب هذه الأحزاب هي يمينية لكنها ليست كلها متطرفة. وهناك أحزاب يسارية أو أحزاب ذات توجه خصوصي، لذلك يصعب وضعها ضمن مجموعة الأحزاب اليسارية، على سبيل المثال، نذكر “حركة النجوم الخمسة” الإيطالية التي نجحت من خلال مزيج من إيمانها بضرورة حماية البيئة والتصدي للفساد ومعارضة المؤسسات. وتجدر الإشارة إلى أنه في الانتخابات التي أجريت في الخمس سنوات الأخيرة، تحصل حزب شعبوي واحد على الأقل على نسبة 10 في المائة أو أكثر من الأصوات في 16 دولة أوروبية. وبشكل جماعي، سجلت الأحزاب الشعبوية نسبة 16.5 في المائة من الأصوات كمعدل، ووصلت هذه النسبة إلى 65 في المائة في المجر، لكنها لم تتعدى 1 في المائة في لوكسمبورج. ويسيطر الشعبويين على أكبر حصة من المقاعد البرلمانية في ستة بلدان هي: اليونان، والمجر، وإيطاليا، وبولندا، وسلوفاكيا، وسويسرا. وفي ثلاثة من هذه (المجر، إيطاليا، وسلوفاكيا)، اكتسبت الأحزاب الشعبوية مجتمعة أغلبية الأصوات في الانتخابات الوطنية الأخيرة، على الرغم من أن الأحزاب الشعبوية الرئيسية في المجر وإيطاليا كانوا خصوما في الانتخابات. لكن الوضع في المجر هو الأكثر لفتا للانتباه، حيث أن الحزب الحاكم (فيدس) وأكبر الأحزاب المعارضة (جوبيك) هي أحزاب شعبوية. وأخيرا، فإنه في كل من فينلندا وليثوانيا والنرويج، تعدّ الأحزاب الشعبوية جزءا من الائتلاف الحاكم.
 
تؤكد معظم التفسيرات التقليدية لهذا الاتجاه على أهمية عاملين اثنين هما: العولمة والأزمات الاقتصادية في أوروبا التي نتجت عن الأزمة المالية لسنة 2008. لكن التيار الشعبوي الحالي هو جزء من قصة طويلة ومتجذرة في فترة ما بعد الثورة الصناعية، والتي أدت إلى تغييرات أساسية في المجتمعات الأوروبية في الستينات. خلال تلك السنوات، أدى تراجع الصناعة والتراجع الحاد في ممارسة الشعائر الدينية إلى ضعف الدعم الذي كانت تتمتع به أحزاب وسط اليسار ووسط اليمين، والتي لطالما كانت تعتمد على الطبقة العاملة والناخبين المتدينين. وخلال الخمسة والعشرين سنة التي تلت تلك الفترة، شهدت أوروبا إعادة هيكلة تدريجية لسياستها، وبذلك، تخلى الناخبون عن دعمهم للأحزاب القديمة التي أصبحت غير إيديولوجية، أو كما كانت تصفها الأحزاب الجديدة: “ذات إيديولوجيات ضيقة نسبيا”. وفي وقت لاحق، خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين، تجمعت الأحزاب الأوروبية الرئيسية حول توافق على أجندة مشتركة جديدة تدعو إلى التوحد، وإلى إرساء مجتمعات متعددة الأعراق. كما دعت إلى إصلاحات اقتصادية ليبرالية جديدة.
 
تبني سياسة “أوروبا كقارة عالمية لكل الأجناس” وكقارة ذات حكم تكنوقراطي كانت في الأصل فكرة الأحزاب التي كانت تتبنى فكرة الديمقراطية الاجتماعية، وكثير منها مستوحاة من المفهوم الذي طرحه رئيس الوزراء البريطاني توني بلير والذي يتعلق بحزب العمال الجديد والمفهوم الذي طرحة المستشار الألماني غيرهارد شرودر المتعلق “بالمركز الجديد”. أما الأحزاب اليمينية الوسطية التقليدية، فقد تجردت من هوياتها التاريخية مع تبني قادة مثل ميركل وديفيد كاميرون نهجا أكثر وسطية وواقعية فيما يتعلق بالقضايا الاقتصادية والثقافية.  خلق هذا التقارب أرضا خصبة للشعبوية، حيث بدأ الناخبين في رؤية التشابه بين النخب السياسية بغض النظر عن انتماءاتهم الحزبية. وبالنسبة للعديد من الأوروبيين، يبدو أن النخب السائدة في كل الأحزاب تتشارك عجزا لا مفر منه، وذلك لاثنين من التحولات التي وقعت في النصف الثاني من القرن العشرين: من الحكومات الوطنية إلى الكيانات الدولية، مثل الاتحاد الأوروبي أو صندوق النقد الدولي، ومن المسؤولين المنتخبين ديمقراطيا إلى المسؤولين الغير منتخبين، مثل مسؤولي البنوك المركزية والقضاة. في العديد من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، لم تعد القضايا الحيوية مثل مراقبة الحدود والسياسة النقدية مسؤولية حصرية للحكومة الوطنية، الأمر الذي أدى إلى ظهور ما يعرف “بسياسة تينا” وهو اختصار لعبارة “لا يوجد بديل”، وهي العبارة التي عادة ما تستخدمها النخب السياسية كحجة ليثبتوا أن مسؤوليتهم في الاتحاد الأوروبي أو صندوق النقد الدولي تفوق واجبهم الذي يتعلق بالاستجابة لمطالب الناخبين.
 
وفي الوقت نفسه، فإن ظهور الانترنت أنتج ناخبين مهتمين أكثر بالنقاشات السياسية وناخبين أكثر استقلالية في التفكير (ليسوا بالضرورة أكثر اطلاعا)، الأمر الذي جعلهم يتوجهون لمزيد من النقد دون احترام للنخب التقليدية. وعلى وجه الخصوص، أصبح الناخبون على بيّنة من حقيقة أن المسؤولين المنتخبين غالبا ما يلقون باللوم على عوامل خارجة عن نطاقهم (كالاتحاد الأوروبي أو العولمة أو سياسات الولايات المتحدة) كسبب لسياساتهم التي لا تلقى استحسان الشعوب، لكنهم عادة ما يتباهون بالسياسات التي أُثبتت نجاعتها. هذا بالاضافة إلى أن الانترنت جعلت مهمة وسائل الاعلام في حراسة البوابات الإعلامية أمرا صعبا. وبذلك، أصبحت الخطابات الشعبوية، التي تحتوي على نفحة من الإثارة والاستفزاز، أمرا جذابا خاصة بالنسبة للمؤسسات الإعلامية. كما فتحت هذه التحولات الخفية والعميقة المجال لانطلاق الشرارة التي سببت الأزمة المالية العالمية والصراعات في الشرق الأوسط وتعزيز نمو الشعبوية.
 
كان لانتشار الشعبوية عدة عواقب مهمة بالنسبة لوضعية الديمقراطية الليبيرالية في أوروبا، على الرغم من أن الشعبوية ليست بالضرورة معادية للديمقراطية، لكنها ليست ليبيرالية، خاصة فيها يتعلق بتجاهلهما لحقوق الأقليات ولسيادة القانون. وعلاوة على ذلك، وكما يبينه الحال في المجر، فإن الشعبوية ليست مجرد استراتيجية حملة أو نمط من التعبئة السياسية. فمنذ سنة 2010، بدأ فيكتور أوربان في تنفيذ ما صرّح به سنة 2004 خلال خطاب له “محاولة جعل المجر دولة جديدة غير ليبيرالية تقوم على أسس وطنية”. وبذلك، قامت الحكومة عمدا بتهميش قوى المعارضة من خلال إضعاف مؤسسات الدولة الحالية (بما في ذلك المحاكم)، وإنشاء هياكل حكومية تتمتع بحكم ذاتي. وعلى الرغم من أن الوضع في المجر يعتبر استثنائيا، فإن نجاح أوربان ألهم وشجع عددا كبيرا من اليمينيين الشعبويين في الاتحاد الأوروبي، مثل مارين لوبان في فرنسا وياروسلاف كاتشينسكي في بولندا. وتجدر الإشارة إلى أن صعود التيار الشعبوي الليبيرالي لم يلق معارضة شديدة من الأحزاب السائدة التي فضلت البعض منها عدم التعليق بينما أشادت أحزاب أخرى بهذا التوجه.
 
في الحقيقة، لا يمكن مقارنة نجاح الشعبويين اليمينيين بنظرائهم اليساريين. ففي اليونان وتحديدا سنة 2015، كانت لمحاولات ائتلاف اليسار المتطرف لتحدي الاتحاد الأوروبي وفرض سياسات التقشف تنائج عكسية، واضطر رئيس الوزراء ألكسيس تسيبراس في نهاية المطاف إلى قبول سياسات التقشف والإصلاحات الهيكلية التي كان يحاول تجنبها ومنعها. ومنذ ذلك الوقت، لم يحاول أي حزب شعبوي يساري النجاح على المستوى الوطني باستثناء حزب “بوديموس” (نقدر) في إسبانيا. وعلى الرغم من أن اليساريين الشعبويين عادة ما ينتهجون سياسات أقل إقصائية من نظرائهم اليمينيين، إلا أن الاستقطاب السياسي في اليونان تزايد بشكل ملحوظ منذ دخول ائتلاف اليسار المتطرف السلطة في كانون التاني/يناير من سنة 2015. والجدير بالذكر أن العديد من المعارضين للحكومة يشعرون أنهم غير مرحب بهم خاصة من خلال الخطاب الرسمي للحكومة الذي يصفهم بأنهم أعضاء في “الطابور الخامس”. وكان تسيبراس قد اقترح العديد من القوانين التي يمكن أن تحد من إمكانيات المعارضة من خلال سيطرة الحكومة على التعليم وعلى وسائل الإعلام. وحتى في الدول التي لا يوجد فيها حكومات شعبوية، فإن الشعبوية تعتبر روح العصر. وفي كثير من الحالات، قام الشعبويون بوضع جداول أعمال وأصبحوا من المسيطرين على النقاش العام، وذلك وسط صمت تام تقريبا للأحزاب الأخرى التي قد تعتمد في بعض الأحيان عناصر من الخطاب الشعبوي الذي عادة ما يحتوي على عبارات تشير إلى “الشعب” وإدانات “للنخب”.
 
يؤكد عدد كبير من العلماء أن الشعبوية هي ظاهرة عرضية، وأنه على الرغم من تولي الشعبويين السلطة إلا أنهم لطالما فشلوا بعد توليهم إياها، وذلك باستثناء أوربان الذي تولى السلطة منذ ستة سنوات ولازال قائدا للحزب الأكثر شعبية في المجر. وتجدر الإشارة إلى أن سلوفاكيا تشهد انتشارا واسعا للشعبوية التي أصبحت تسيطر على السياسية منذ سقوط الشيوعية. وفي الوقت نفسه، تستعد النمسا لتصبح أول دولة أوروبية في فترة ما بعد الحرب تنتخب رئيسا شيوعيا يمينيا وهو نوربرت هوفر من الحزب الحر. وقد تصدر هوفر كل استطلاعات الرأي إلى حد الآن. أنتجت تغييرات هيكلية عميقة في المجتمعات الأوروبية موجة الشعبوية الحالية. ومن غير المرجح أن يكون لهذه التغييرات أية تنائج عكسية، لذلك، فإنه لا يوجد أي سبب يجعلنا نتوقع تلاشي الشعبوية في المستقبل القريب. علاوة على ذلك، فإن الأحزاب الشعبوية ما تنفك تنمو، في الوقت الذي أصبحت فيه أحزاب أخرى دون جدوى. وعلى الأحزاب الأخرى أن تعتمد استراتيجيات قصيرة وطويلة المدى للتعامل مع الواقع الجديد الذي فرض انقسامات داخلها. هذا بالإضافة إلى أنه أصبح من الصعب توقع استمرار حكومات الائتلاف مثل تلك القائمة في بلجيكيا والتي تسعى إلى استبعاد الأحزاب الشعبوية. تجبر الحكومات في العديد من الدول التي تمثل فيها الأحزاب الشعبوية ثاني أو ثالث أكبر حزب، كل الأحزاب على أن تحكم معا، الأمر الذي يؤدّي إلى ظهور العديد من العوامل التي أدت إلى صعود الشعبوية الأوروبية. وفي الوقت نفسه، فإنه سيصبح من الصعب أن تحكم الأحزاب غير الشعبوية جنبا إلى جنب مع الأحزاب الشعبوية.
 
 
 
في السنوات الأخيرة، أبدت الأحزاب الشعبوية استعدادها للعمل كشركاء صغار في التحالفات الحكومية. لكن هذه الأحزاب أصبحت أكبر بكثير من شركائهم المحتملين. ومع ذلك، فإن الأحزاب الشعبوية تخضع لنفس القوانين السياسية الأساسية التي تعيق منافسيها. فبمجرد وصولهم إلى السلطة، عليهم أن يختاروا بين الاستجابة والمسؤولية، بين فعل ما يريده ناخبوهم وما يفرضه الواقع الاقتصادي وما تمليه مؤسسات الاتحاد الأوروبي. لكن أوربان على سبيل المثال أثبت أنه ناجح في القيام بكل هذه المهام في الوقت ذاته. لكن تسيبراس تعلم التعامل مع ضغوط المسؤولية وعانى أيضا من انخفاض كبير في شعبيته. هذه المعضلة التي يواجهها الشعبويون تقدم فرصا للأحزاب الليبيرالية الأخرى، سواء كانت جديدة أو قديمة، لكن عليهم أن لا يهاجموا الرؤية الشعبية وأن يوفروا بدائل واضحة ومتماسكة. ويبدو أن بعض الشخصيات العامة قد فهموا هذا الأمر. على سبيل المثال، قدم آلان جوبي، المترشح للانتخابات الفرنسية، نفسه على أنه “نبي السعادة”، وقدم رؤية إيجابية لبلد أكثر تجانسا، وذلك على عكس صورة الخوف والسلبية التي قدمها منافسه الجمهوري نيكولا ساركوزي والشعبوية اليمينية قائدة الجبهة الوطنية مارين لونان التي قدمت خطابا يدعو للانقسام. أما في ألمانيا، فقد تجنبت ميركل ردة فعل عنيفة من القوى الشعبوية، على الرغم من الإحباط الكبير والنكسة داخل وخارج حزبها، وذلك من خلال الاعتراف بالعضب الشعبي. بينما تمسكت ميركل بأجندة سياسية واضحة ورسالة إيجابية “بإمكاننا أن نفعل هذا”. باختصار، فإن صعود الشعبوية هي استجابة ديمقراطية غير ليبيرالية لعقود من السياسات الليبرالية غير الديمقراطية. لوقف المد الشعبوي، على السياسيين الاستجابة للنداءات التي تدعو إلى إعادة تسييس القضايا الحاسمة في القرن الحادي والعشرون، مثل الهجرة والاقتصاد الليبرالي الجديد، والوحدة الأوروبية، وإعادة هذه القضايا إلى العالم الانتخابي وتقديم بدائل متماسكة للعروض التي يقدمها الشعبويين والتي عادة ما تكون قصيرة النظر.
نقلا عن شبكة الطليعة
 
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع