الأقباط متحدون - كشف الفساد على الطريقة الهندية
  • ٠٧:٥١
  • الاثنين , ٢ يناير ٢٠١٧
English version

كشف الفساد على الطريقة الهندية

مقالات مختارة | محمد منير

٠٣: ١٢ م +02:00 EET

الاثنين ٢ يناير ٢٠١٧

محمد منير
محمد منير

 في بداية التسعينيات قررتُ شراء سيارة ماركة «فيات 2000» كما كانوا يسمونها، وكانت ملاكي الإسماعيلية، ولأنني مُقيم في الشرقية ارتأيت نقل ملكية السيارة، لتصبح ملاكي الشرقية، وعندما ذهبت إلى إدارة المرور أبلغوني بأن ملف السيارة ما زال في الإسماعيلية، وسوف نُرسل أمر استعجال له.

 
مر أكثر من شهر ولم يأتِ الملف!، فنصحني أحد موظفي المرور بالذهاب بنفسي لإدارة مرور الإسماعيلية للاستعلام واستعجال إرسال الملف، وبالفعل سافرت الإسماعيلية مع أحد الأصدقاء، ووقفنا في طابور طويل إلى أن جاء دورنا وأعطيت الموظف رقم سيارتي وشرحت له الموضوع.
 
أخذ الموظف الرقم وقبل أن يبحث في الملفات نظر إليَّ قائلًا: «الملف ده مش موجود عندنا.. ده في السويس، سألته: «كيف عرفت دون أن تبحث؟»، قال: «يا باشا دي شغلتنا.. إحنا حافظين أرقام السيارات»، فقلت له: «ما شاء الله ده حضرتك حافظ كمان أرقام السيارات اللي في السويس»، فأجاب: «في أسوان كمان لو عايز»، سألته: «وكيف تم ترخيص السيارة ملاكي الإسماعيلية وملفها في السويس؟!» فأجاب بدون تردد: «لو فتحت دماغك معايا ممكن أخليهالك ملاكي أمريكا، واحفظ لك ملفها في الهند؟» فتدخل صديقي وقال: «تحت أمرك «عشراية» – يقصد عشرة جنيهات- تجيب الملف»، أجاب: «لكن بعد شهر»، فسأله صديقي: «ولو عايزينه النهارده»، أجاب: «يبقى محتاجين بنزين طيارة.. يعني «خمسيناية» – يقصد خمسين جنيهًا» فقال له صديقي: «والخمسيناية جاهزة»، فأجاب: «والملف وصل من السويس دلوقت وحيسافر الشرقية اليوم وتستلمه بكره من المرور»، فسألته: «كيف وصل من السويس؟»، فأجاب: «يا باشا طيران»، فرفضت دفع رشوة وعنّفت الموظف.
 
طلبت لقاء مدير إدارة المرور، ولم يكن موجودًا، ولم أجد من أتحدث معه، وانتهى بي الأمر إلى أن ظلت السيارة معي ملاكي الإسماعيلية شهورًا، ولم يأت الملف إلى أن تدخل بعض من لهم علاقات مع المرور بصفة ودية، وتسلمت الملف، ورغم الشكوى التي تقدمت بها بعد ذلك لإدارة المرور إلا أنها لم تُحرك ساكنًا لدى أي من المسؤولين.
 
ترصد هذه القصة التي حدثت معي إلى أي مدى بات الفساد ثقافة مجتمعية، الأمر الذي يجعلنا في أمس الحاجة إلى حملة توعوية لإعادة بناء المجتمع بثقافة جديدة، فقضية مدير قسم المشتريات في مجلس الدولة، الذي اكتشفوا في منزله أكثر من 150 مليون جنيه مصري بعملات مختلفة، بالإضافة إلى ما يمتلكه من عقارات وسيارات تُقدر قيمتها بأكثر من هذا الرقم، هو ومن تستروا عليه من موظفين في الجهة نفسها التي يعمل بها يمثلون جزءًا من هذه الثقافة، فكيف لموظف بسيط أن يصل إلى هذه الدرجة من التضخم في الثروة دون أن يشعر زملاؤه في العمل بأي تغير؟!.. فالفساد له رائحة لا يُمكن إخفاؤها، مهما كانت درجة ذكاء المرتشي.
 
وتعتبر قضية الفساد من أقدم الجرائم التي يُسجلها التاريخ، تمامًا مثل «الدعارة» المهنة الأقدم التي عرفها التاريخ، وهنا لا أتحدث عن مصر فقط، فالفساد يغتال العالم بنسب متفاوتة، والقانون هو الذي يحكم تلك النسبة، فهناك دول مثل الدنمارك، السويد، فنلندا، هولندا ونيوزيلندا، تكاد تخلو تمامًا من الفساد نظرًا لوجود قوانين صارمة تحكم الحياة في تلك الدول، الأمر الذي يؤكد أن القضية تتلخص في وجود قوانين تُطبق على الجميع، ولا يستطيع أي إنسان تجاوزها مهما كانت مكانته في الدولة.
 
ولو تحدثنا عن مصر فنحن لدينا قوانين منذ أكثر من 3300 سنة، والتي وضعها ملك مصر «حور محب» آخر ملوك الأسرة الثامنة عشرة في مصر القديمة عام 1300 قبل الميلاد للقضاء على الفساد والرشوة، وتقضي هذه القوانين بعقوبة الإعدام على الموظف أو الجندي أو الكاهن الذي يقبل رشوة، ومعاقبة أي موظف يثبت أنه اضطهد الفقراء، أو جمع ضرائب أكثر مما يجب جمعه، وكانت عقوبته قطع الأنف والنفي إلى «ثارو» في الحدود الشمالية الشرقية وتقع قرب غزة الآن.
 
هذه القوانين التي وضعها «حور مُحب» تتضمن تسع مواد تم تدوينها على لوح حجري يبلغ طوله خمسة أمتار وعرضه ثلاثة أمتار، عُثر عليه بجوار باب من أبواب معبد الكرنك في الأقصر، والمدهش أنه جاء في نهاية التدوين توضيح أن الغرض من هذا القانون فقط هو ضمان رفاهية أهل مصر!.
 
ولم يكتف الملك حور محب بذلك بل وضع قانونًا يقضي بعقوبة القتل لموظفي المحاكم والقضاة في حال أي اعتداء منهم على العدل عبر تقاضي رشوة أو ما شابه ذلك، واعتبرها جريمة كبرى، وحذَّرهم من الرشوة قائلًا «لا تأخذوا الرشوة من أحد وإلا كيف يمكن الحكم بالعدل إذا كنتم أنفسكم جناة على القانون». 
 
ولدينا أيضًا الملك «سيتي الأول» ثاني ملوك الأسرة التاسعة عشرة، وهو من الملوك الذين حاربوا وبقوة الفساد، حيث أصدر مرسومًا بقطع أذن وأنف أي موظف في الحكومة يستغل وظيفته من أجل مصالح شخصية.
 
وما دامت لدينا القوانين التي لا تُطبق منذ أكثر من ثلاث آلاف سنة، فلن يُفيد معنا سوى الطريقة الهندية في القضاء على الفساد، حيث أعلن رئيس الوزراء الهندي «ناريندرا مودي» الشهر الماضي إلغاء تداول العملات الورقية النقدية فئتي 500 و1000 روبية، ومنح حائزيها مهلة لتغييرها من البنوك ومكاتب البريد تنتهي بنهاية 2016.
 
وجاء هذا القرار لتضييق الخناق على الفساد المتفشي في الهند، حيث إن القرار يجبر كل من لديه أموال يحفظها في بيته ويخشى وضعها في بنوك الدولة حتى لا ينكشف، على أن يُخرجها، وفي هذه الحالة سوف يُسأل من أين لك هذا؟!
 
سؤال أخير: لو تم تطبيق الطريقة الهندية لمحاربة الفساد في مصر، فكم حجم الأموال التي ستخرج من البيوت؟!.
نقلا عن صوت الامة
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع