الأقباط متحدون - وداع الأسطورة سر التقدم
  • ١٧:٣٨
  • الثلاثاء , ٢٢ نوفمبر ٢٠١٦
English version

وداع الأسطورة سر التقدم

مقالات مختارة | خالد منتصر

٠٢: ٠٩ ص +02:00 EET

الثلاثاء ٢٢ نوفمبر ٢٠١٦

خالد منتصر
خالد منتصر

أرسل لى الصديق د. محمد صبرى يوسف نواة لمشروع كتاب مهم عن الصراع بين العلم والأسطورة، أقتبس منه هذه المقدمة، يقول د. محمد صبرى: «آمن اليونان قديماً بأن البرق والرعد هما أدوات عقاب يصب بها الإله الحانق جام غضبه على الأرض، ليخط نقوشه المقدّسة بالرماد المحترق، وآمنوا أيضاً بأن فصل الشتاء ببرودته وجدبه هو تجلٍّ لحُزن الإلهة ديميتر (إلهة الخصوبة)، والأساطير فى مجملها أكاذيب، عاشت طويلاً، فتحولت إلى حقائق مستقرة فى أذهُن الناس، هى قصص وهمية عن أبطال خارقين أو أحداث عِجاب، سُرِدَت سرداً مشوقاً مثيراً، يأخذ بالألباب، سرداً يستجيب لمخاوف عميقة كامنة فى جوف النفس البشرية، يُشبع مطامعها الشرهة ومطامحها بعيدة المنال، ومن الثابت تاريخياً أن للأساطير سُلطة هائلة على البشر، فهى أوسع انتشاراً وأطول عمراً من الحقائق العلمية الدامغة، حيث توفر الأسطورة تفاسير بسيطة «سهلة الهضم» لأمور شديدة التعقيد كالتى تتعلق بنشأة الكون والكوارث الطبيعية على نحو يُعفى العوام من جهد البحث والتحليل.

الإنسان فى الأسطورة يتحلل من صرامة السببية وقوانين الطبيعة، ويحتاج الإنسان نفسياً إلى مثل هذا الفضاء ليُمنطق فيه أوهامه بإسقاطها على عالمه المرئى، فعلى سبيل المثال، يُمثل الجن عالماً وسيطاً بين البشر والخيال، ملائماً لاحتواء مخاوف الإنسان من الوحشة والظلمة. ففى الجن الكثير من سمات البشر، فهو يحب ويكره ويتزوج وينجب ويأكل ويشرب، لكنه فى الوقت ذاته خيالى لا يُرى، ينفذ من الجدران ويقطن الأماكن المهجورة المظلمة، يمس الإنسان ويتلبسه ويتشكل فى صور حيوانات سوداء. وللأسف الحزين يكاد يكون العقل العربى المسلم هو الوحيد فى عالمنا الحديث، الذى لا يزال يجتر بقايا مهترئة لتلك الحضارات القديمة التى كانت تصارع الأشباح والأرواح السحرية.

الأساطير هى دروع حماية نفسية تقى الطفل الذى بداخلنا من مشانق النضوج العقلى والجسدى. وكلما ظل الإنسان البالغ ملتصقاً بطفله الداخلى، كلما ازدادت حاجته إلى الأساطير، كرمانة ميزان عقلى تُوائم بين سذاجات الطفولة وخيالاتها المستقرة وبين الاستحقاقات العقلية للرُشد بضغوطاتها وواقعيتها، ولا شك أن الأساطير تُعين العقلَ على ملء فراغات الفهم الكامل للحياة، العصيّة على التفسير. فالإنسان متيقن تماماً من وجوده ومن أنه سائرٌ فى حياة كدّ مرهقة، صائرٌ إلى ظلمة موت محقّق، ولا يدرى لهذا الخطب سبباً وجيهاً. وحيثما قلب وجهه، رأى محيطاً مناوئاً وصوراً بائسة للحياة تشوهها بشاعات الجريمة والمجاعة. وهنا تأتى الأسطورة بصورها اللدنة لتمزج عالَمَى الغيب والشهادة مزجاً يُهدّئ الروع بالخَدَر المطلوب والزيغ الضرورى لاستمرار الحياة. وعندما ظهرت المؤسسات الدينية، فَطِن بعض الدعاة (أو الدهاة) إلى التأثير الهائل للأساطير على العامة، فعمدوا إلى الترويج لها وتحصينها منهجياً من مراجعات العقل النقدى عن طريق الزج بتفاسير دينية مزورة خلطت الأسطورة بالنص المقدس، على نحو حال دون انتزاع الأسطورة من قلاع الاعتقاد المدجّجة من أجل طرحها فى بوادى الشك المتفحّص.

لكن ما أهمية تحرير العقل من الأساطير إذن، إن كانت تقوم بهذا الدور النفسى والعقلى المهم؟، ألا تسهم الأساطير فى حفظ اتزان الإنسان نفسياً ومعاونته على مكابدة البؤس فى هذه الدنيا؟ أثبت التقدم المعرفى أن الأساطير تعيق التطور الفكرى للإنسان، حيث إنها توفر له إجابات نهائية ساذجة تعفيه من التساؤل والفضول الضروريين لسبر أغوار المجهول واكتشاف الجديد. قد تكون الأساطير أسهمت تاريخياً فى تطور الفنون، إلا أنها بلا شك أعاقت التقدم العلمى والتكنولوجى. فقد أقعدت الأساطير العقل النقدى للإنسان ولوثت فطرتى الشك والتثبت، فجاء التفسير العلمى للصواعق متأخراً كثيراً، مما أخر اكتشاف وتسخير الكهرباء التى هى عصب الصناعة اليوم. كما أتى التفسير العلمى لتناوب الفصول متأخراً أيضاً، مما أخر اكتشاف وتسخير الأقمار الصناعية والهواتف الخلوية. ولم نكن لنصل إلى أىٍّ من تلك الاكتشافات الجبارة إن توقف فهمنا للكهرباء والفصول عند نقمة الإله زيوس وتلهف الإلهة بيرسفونى. وعلى المنوال نفسه، أعيق الكثير من المكتشفات العلمية فى مجالات حاسمة كصناعة الأدوية والعقاقير وتقنيات النسخ والطباعة وتطعيم الأطفال وطب الأمراض المستوطنة بسبب غلبة الأساطير الجاثمة على العقل البشرى. فكلما تحرّرنا من الأساطير تمكنا من فهم الطبيعة. وإن فهمنا الطبيعة، قدرنا عليها وروضناها وعقّلنا مخاوفنا منها. وعندما تخفت مخاوفنا، سنقبل على الحياة مستمتعين بقوانينها وجمالها ووهجها الفتان. لذا فمعركة التنوير الفكرى الحقيقية فى كل العصور هى إحلال العلم محل الأسطورة، كعامل اتزان نفسى وعقلى وليس استبدال الأسطورة بضلالات أو أكاذيب أخرى.
نقلا عن الوطن

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع