مساحة شاسعة، تمتد إلى نحو 120 فداناً، تتكدس فيها تلال القمامة، التى تختلط بمياه الصرف الصحى، فتنتج «عفونة» تذيب الحجر وتمحو التاريخ، هكذا الحال فى مقابر «اليهود» بمنطقة البساتين فى القاهرة، على عكس بقية مقابر الجاليات الأخرى بمصر، فالمقابر المهملة الواقعة أسفل سطح الأرض منحت الأهالى فرصة للزحف عليها، لإنشاء ورش رخام، وعشش من الخشب يقيمون فيها.

 
وبالهبوط لأقل من 3 أمتار، تستطيع أن ترى عدداً أكبر من هذه المقابر، لكن جار الزمن على بعضها فتهشم، وطالته يد اللصوص فنبشوه وسرقوا بعض محتوياته، وبقى البعض الآخر يحتفظ بقوامه الرخامى وإن كان قد تآكل بعض الشىء وغطاه التراب الكثيف، فأخفى المدون على الشاهد.
 
تقف مقابر اليهود عارية بلا سور يحميها، وتحيطها المبانى من كل الاتجاهات، لا يوجد عليها خفير يحرسها، يرتع فيها أطفال المنطقة بلا قيد أو ضابط، لا يخشون من شىء بل إن بعضهم يتقمص دور المرشد، فيأخذ أى زائر فى جولة طويلة لاستكشاف ما يدور فى الداخل، وعلى أنحاء كثيرة منها يسيطر هدوء لا يقتحمه إلا نباح الكلاب الضالة، التى يلعب الأطفال معها أحياناً.
 
«فيه ناس بتيجى مخصوص عشان تزور، ومن نحو شهر كان فيه هنا دفنة بس بينزلوا بكردون أمنى عشان محدش يقرب لهم.. أومال أصل ده شغل يهود بقى».. جملة رددها كثيراً مجدى محمد، الذى يسكن بالمنطقة منذ 45 عاماً، لكنه لا يعرف كثيراً عن تاريخ هذه المقابر، رغم اهتمامه بمتابعة زيارات اليهود لها «محدش يقدر يقرب لهم بييجوا يحطوا الميت ويقوموا يجروا على طول من سكات وكل كام سنة ممكن ييجوا يزوروا تانى».
 
زينب عبدالحى، من سكان المنطقة، تقول إنها رأت اليهود 3 مرات فقط، خلال آخر 15 عاماً، مضيفة «أنا متجوزة هنا من 15 سنة، ولما بشوف وفد منهم بيبقى نحو 10 ولا 15 يهودى، ومعاهم شرطة عشان يحموهم، وبييجوا ويمشوا فى هدوء».
 
السكان: "بنشوف زوار يهود من وقت للتانى" والأطفال: "المكان مرتع لتعاطى المخدرات"
ينقسم سكان المقابر إلى طائفتين «القرائين، والربانيين»، وتسمى «حوش الموصيرى»، وهو كان أحد أثرياء اليهود المصريين، وبحسب أدبيات الجالية اليهودية بمصر، فهذا المكان كان بتبرع من أحمد بن طولون، فى القرن التاسع، ويضم موتى الجالية الذين كانوا يعيشون على أرض المحروسة قبل موجات الهجرة التى بدأت بالتزامن مع حرب 1948، وبلغت ذروتها عقب العدوان الثلاثى على مصر.
 
ومما يلفت الانتباه داخل هذه المقابر، أن أشكالها تختلف، فبعضها أقرب إلى شكل قبة المسجد، والآخر يشبه مسجداً مهدماً من جميع الجوانب، وكتب فوقها بالخط الأحمر تعبير «شداء الحدود»، الذى لا يعرف الأهالى عنه شيئاً، وتختلف الحكايات المفسرة له، فالبعض يقول اسم معبد والبعض الآخر يقول اسم مسجد.
 
أغلب الأسماء مدونة بالعبرية، ولا يمكن تحديد عدد المقابر على وجه الدقة، نظراً للمساحة الكبيرة المترامية، وقد يظهر بعض الأسماء على شواهد قبور أصحابها، مثل «أليته وتوفيت عام 1965، وبيلاهو فيسكى المتوفى فى 1945، روبرت تاحمان المولود فى 1914 وتوفى 1999، وراشيل بيريز المتوفاة فى 1945».
 
فارس أحمد، 6 أعوام، أحد أطفال المنطقة، الذى لعب دور المرشد خلال جولة محررة «الوطن» بالمقابر، قال «فى المكان ده بالليل بشوف ناس بتيجى تشرب وتاخد حقن ويقعدوا يضحكوا ويرقصوا وسط المقابر فى الضلمة وبسمعهم وأنا قاعد فى البلكونة فى بيتنا»، مضيفاً «مرة سمعت أبويا بيقول لأمى لسه متخانق أنا ورجالة الشارع مع واحد دخل المكان بالليل ومعاه واحدة ست، وهو قالنا عايزين تلعبوا فى الترب الصبح بس، بالليل محدش يقرب منها».
 
رغم أن نجمة داود، تعتبر السمة المميزة لليهود، لكن قد لا تظهر واضحة سوى على مدفنين أو ثلاثة على الأكثر، «عندى مكان ليّا أنا وصحابى هنا بنلعب فيه كرة بعد ما نطير الطيارات الورق بتاعتنا»، بحسب فارس، الذى يقضى أغلب وقته فى اللعب داخل المقابر «محدش بيقولنا حاجة، وأمى بتيجى ترمى الزبالة هنا».